بوابة الوفد:
2025-12-03@02:59:36 GMT

أمين عثمان باشا .. شجاعة أزهرت في الظلام

تاريخ النشر: 2nd, December 2025 GMT

أمين عثمان باشا، هذا الاسم الذي يظل محفورا في ذاكرة مصر، ليس مجرد وزير مالية أو موظف حكومي، بل رمزا لرجل عاش وعمل في خدمة وطنه، وواجه مصاعب سياسية واجتماعية جعلت منه شخصية مثيرة للجدل، لكنها في الوقت نفسه تستحق أن نتذكرها ونقرأ عنها بعين الفخر والتأمل. 

ولد أمين عثمان في حي محرم بك بالإسكندرية في 28 نوفمبر 1898، في أسرة عريقة عمل فيها والده سكرتيرا عاما لبلدية الإسكندرية، منذ صغره، كان واضحا أنه مختلف، متفوق في دراسته وملتزم بالعلم، فتعلم في كلية فيكتوريا بالإسكندرية وأبدع في تحصيله، حتى نال شهادة البكالوريا عام 1918، ومن ثم حصل على شهادة الآداب في التشريع مع درجة الشرف.

 

ولإكمال مساره الأكاديمي المتميز، سافر إلى إنجلترا ليدرس القانون في جامعة أكسفورد، حيث تخرج عام 1923، ثم حصل على الدكتوراه في القانون بعد دراسة لاحقة في فرنسا.

كانت حياة أمين عثمان نموذجا للجد والاجتهاد، فقد بدأ حياته العملية في وزارة الأشغال العمومية عام 1924، وعمل في سكرتارية اللجنة المالية ثم قسم القضايا، ليثبت منذ البداية ذكاءه وكفاءته. 

لم يكن مساره المهني مجرد صعود وظيفي، بل كان رحلة متواصلة من التحدي والعمل الدؤوب، فقد شغل منصب مدير مكتب وزير المالية عام 1930، ثم سكرتيرا لمجلس الشيوخ، وسكرتيرا عاما لهيئة المفاوضات المصرية، حتى نال رتبة الباشوية في 1937 تقديرا لجهوده في الوساطة بين الحكومة المصرية والسلطات البريطانية. 

هذا الرجل، الذي عرف كيف يمزج بين مرونة الدبلوماسية وشجاعة الموقف، كان دائما في قلب الأحداث، سواء في المفاوضات السياسية أو إدارة شؤون المالية العامة، حتى أصبح أول رئيس لديوان المحاسبة من 15 فبراير 1942 وحتى 2 يونيو 1943، ثم وزيرا للمالية، حيث ترك بصمته في كل مكان عمل فيه.

لكن حياة أمين عثمان لم تكن خالية من التحديات والانتقادات، فارتباطه بالجانب البريطاني بسبب نشأته وتعلمه هناك جعله عرضة للنقد اللاذع من البعض، الذين رأوا فيه مصلحة بريطانيا في مصر، بينما الحقيقة كانت أكثر تعقيدا: رجل مصري يعرف كيف يستخدم مرونته ومهارته لخدمة وطنه. 

حياته الشخصية أيضا كانت جزءا من شخصيته العامة، فقد تزوج الليدي كاترين جريجوري، مما أضاف بعدا إنسانيا وإنجليزيا في مساره، لكنه لم يجعل منه شخصا أجنبيا عن مصر، بل بالعكس، كان قلبه نابضا بأحلام وطنه ومصلحة شعبه.

كان اغتياله في 5 يناير 1946 نتيجة لمؤامرات سياسية محكمة، وليست مجرد حادثة عابرة، فقد دبرت لها جهات سرية تعمل ضد استقرار الدولة، وكان لها أبعادها المعقدة، بما في ذلك تورط بعض الشخصيات التي ستعرف فيما بعد.

لحظة اغتياله كانت مأساوية، إذ استهدف في مكان عمله، وربما كان السبب في ذلك هو الجمع بين موقعه السياسي، ومهاراته الإدارية، وعلاقاته الدولية التي لم ترق للبعض. 

ومع كل الألم والظلم الذي حاق به، ظل اسمه رمزا للجد والاجتهاد، وللشجاعة في مواجهة الصعاب، وهو مثال حي على أن الوطنية ليست كلمات تقال، بل أفعال تثبت على الأرض.

أمين عثمان لم يكن مجرد موظف أو وزير، بل كان جسرا بين الماضي والمستقبل، بين الوطنية والتعامل الذكي مع القوى الأجنبية، وبين العقلانية والشجاعة. 

حياته تذكرنا أن القيادة ليست فقط في المناصب، بل في القدرة على العمل بتفان، وفي القدرة على تحمل الضغوط، وفي الحرص على مصالح الوطن مهما كانت الظروف. 

وفاته كانت مأساة ليس فقط لعائلته وأصدقائه، بل لكل مصر، لأنه كان شخصية وطنية رغم كل الانتقادات والاتهامات التي وجهت له، وشهدت الأيام بعده أن التاريخ وحده يحكم بالإنصاف على من يستحق أن يذكر بجدارة وفخر.

أمين عثمان باشا يظل عبرة لكل من يريد أن يخدم مصر بجد وإخلاص، ودليلا على أن الوطنية الحقيقية تحتاج إلى شجاعة وصبر وذكاء، وأن الأقدار قد تكون قاسية، لكنها لا تمحو أثر الإنسان الذي وضع مصلحة وطنه فوق كل اعتبار. 

اليوم، ونحن نتذكره، لا نستحضر فقط حياته ومسيرته، بل نستلهم منها روح التفاني، والقدرة على مواجهة الصعاب، والالتزام بالعمل من أجل مصر، روح تجعلنا نفخر بتاريخنا ونستمد منه قوة لمستقبل أفضل.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: أمين عثمان اغتيال وزارة المالية ديوان المحاسبة الوطنية أمین عثمان

إقرأ أيضاً:

سعد زغلول.. بطل الحرية وصوت الأمة المصرية

سعد زغلول باشا، هذا الاسم الذي يسطع في تاريخ مصر كأحد أعظم رجالها الوطنيين، لم يكن مجرد سياسي أو وزير، بل كان روح مصر الحية، وضميرها الذي لا يهدأ. 

ولد سعد إبراهيم زغلول عام 1858 في قرية أبيانة بمركز فوه، وترعرع في بيت تعليمي وروحي، حيث فقد والده وهو طفل صغير، فتكفلته والدته وخاله، ليبدأ حياته بين كتب القرآن ومبادئ الحساب في الكتاب، قبل أن يلتحق بالجامع الدسوقي ثم الأزهر الشريف، حيث تلقي علوم الدين وحضر مجالس جمال الدين الأفغاني، واحتك بعالم الإصلاح الديني الشيخ محمد عبده الذي أصبح صديقا له ومعلمه في السياسة والدين والبلاغة.

حياته العملية بدأت في التحرير الصحفي، محررا للقسم الأدبي في صحيفة الوقائع المصرية بين 1880 و1882، قبل أن تتجه الحكومة لاستغلال مهاراته القانونية، فعين معاونا لنظار الداخلية ثم ناظر قلم الدعاوي في الجيزة، وظهرت موهبته في النقد القانوني وحل القضايا. 

ومع قيام الثورة العرابية، لم يتردد سعد في دعم الوطنيين، فكتب وأرسل الأخبار لعرابي، وبعد فشل الثورة واجه الفصل من وظيفته وفتح مكتب محاماة، رغم اضطهاد الاحتلال والخديوي له واعتقاله في يونيو 1883 بتهمة الانتماء لجمعية سرية، إلا أنه خرج ليواصل الدفاع عن وطنه من خلال القانون.

مع الوقت، التفتت الأنظار إلى قدراته، فعين وكيلا لأعمال الأميرة نازلي فاضل، ثم نائب قاض في محكمة الاستئناف، ودرس الفرنسية، وتزوج صفية ابنة مصطفى فهمي باشا. 

لم يكتف سعد بالقضاء المحلي، بل حصل على ليسانس الحقوق من فرنسا عام 1897، وواصل عمله في القضاء أربع عشرة سنة، حتى وصل إلى مرتبة المستشار، وكان مثال العدالة والنزاهة، يعمل في دوائر الجنايات الكبرى والاستئناف ومحكمة النقض.

في أواخر حياته الوظيفية، بدأ سعد باشا يترك بصمته في السياسة والتعليم، حين اختير وزيرا للمعارف عام 1906، وساهم في تأسيس الجامعة المصرية، ورفع ميزانية التعليم لمواجهة الأمية، وأعاد اللغة العربية إلى المناهج. 

وفي سنوات لاحقة تقلد وزارات الداخلية والعدل، محافظا على كرامة القضاة وسامية مهنة المحاماة، لكنه استقال نتيجة اصطدامه المستمر بالاحتلال البريطاني. 

ومع تأسيس الجمعية التشريعية عام 1913، أصبح رئيسها، إلا أن بريطانيا عملت على إقصائه ومنعه من ممارسة سلطته الوطنية، لتبدأ رحلة صموده الطويلة.

بعد الحرب العالمية الأولى، ومع إعلان الرئيس الأمريكي ولسون مبدأ حق تقرير المصير، اجتمع سعد مع الوطنيين لتشكيل الوفد المصري، الذي جمع توكيلات الشعب المصري لمطالبة بريطانيا بالاعتراف باستقلال مصر، إلا أن الاحتلال رفض، ونفي سعد إلى مالطة، لتندلع ثورة 1919 التي شملت جميع فئات الشعب من طلاب وعمال وفلاحين، واضطر الاحتلال لإطلاق سراحه والسماح للوفد بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس، حيث واصل سعد النضال، مخاطبا برلمانات الدول الأوروبية، رافضا أي استقلال شكلي لمصر، ومتمسكا بحق الشعب المصري في تقرير مصيره.

لم تتوقف معارك سعد مع الاحتلال عند هذا الحد، فقد أرسل تعليماته من باريس لتوحيد الشعب ضد أي محاولات تفاوض مع بريطانيا، فاستمر النضال الشعبي من خلال مقاطعة البضائع الإنجليزية، وامتدت الثورة لتصل إلى أوجها بعد نفيه مرة أخرى إلى جزيرة سيشل، لتفرض السلطات البريطانية في النهاية التفاوض مع الوفد، إلا أن سعد رفض أي معاهدة تمنح مصر استقلالا شكليا، مؤكدا أن الاستقلال الحقيقي لا يتحقق إلا بموافقة الشعب وسلطته الوطنية.

وبعد إعلان تصريح 28 فبراير 1922، الذي منح مصر استقلالا محدودا، بدأت مرحلة جديدة، فقادت لجنة الوفد لوضع دستور 1923، ليصبح الشعب المصري مصدر السلطات، وهو إنجاز لم يكن ليتم لولا رؤية وإصرار سعد باشا. 

وعندما جرت الانتخابات العامة بعد الدستور، فاز الوفد بأغلبية ساحقة وشكل سعد أول وزارة شعبية دستورية في تاريخ مصر، مطبقا سياسات تهدف إلى إحلال الموظفين المصريين، تعزيز التعليم، تحرير الاقتصاد من السيطرة الأجنبية، ودعم الوحدة الوطنية مع السودان، متحديا الاحتلال البريطاني في كل خطوة.

واستمر سعد باشا في قيادة مصر حتى وافته المنية في 23 أغسطس 1927، تاركا إرثا من الوطنية الحقيقية، العدالة، والإصرار على حق الشعب في تقرير مصيره، ونقل لاحقا ضريحه إلى بيت الأمة، ليظل رمزا خالدا لمصر ومصدر إلهام لكل مصري يسعى للحرية والسيادة الوطنية.

مقالات مشابهة

  • أحمد مظلوم باشا.. رجل صنع تاريخ مصر الحديث
  • حافظ حسن باشا.. رمز الكفاءة الوطنية والإصلاح الحقيقي
  • يس أحمد باشا.. بين الحزم والإصلاح والدعوة الحقيقية
  • أحمد مدحت يكن.. باشا يعرف كيف تبنى الأوطان
  • سعد زغلول.. بطل الحرية وصوت الأمة المصرية
  • حسين سري باشا .. رجل الدولة الذي صمت فأنقذ مصر من العواصف
  • 6 دقائق من الظلام.. أطول كسوف شمسي يغمر سماء دول عربية في هذا الموعد
  • "أم الأكفاء": قصة أم مصرية هزمت الظلام وصنعت النور لأبنائها الخمسة
  • مصدر سياسي:الزعامة الإطارية ما زالت تتحرك في الظلام الإيراني