#بين_كانونين #سافر #يا_شقي
مع #كل_شتوة تدخل علينا، أشعر أن السماء تُعيد فتح صندوقٍ قديمٍ خبّأت فيه أجمل ما عشته وأكثر ما أوجعني في هذه الحياة ..تساقط المطر بالنسبة لي ليس ماءً ينزل من الغيم ليسقي الأرض والزرع، بل ذاكرة كاملة تفتح أبوابها ، لتعود بي إلى أكثر من عشرين عاماً
إلى تلك الأيام التي بدأت فيها طريقي نحو العمل في مطار الملكة علياء وأيام الدراسة في الجامعة ، يوم كان الشتاء امتحاناً حقيقياً لا يعرف لينا ولا هوادة.
كنت أغادر قبل صلاة الفجر، لا أحمل معي إلا برد الطريق وإصرار شابٍ طلب العُلا، لا يريد أن يتأخر عن عمله وتحقيق مستقبل أراده لنفسه.. لم تكن الرحلة الحقيقية رحلتي لوحدي بل رحلة أمي عليها رحمة الله ، فهي من كانت تستيقظ قبل الموعد بساعات، كانت تراقب حركة السيارات وتميز باص أبو عدنان عن باص أبو فراس كانت تتهيأ وكأنها هي التي ستسافر، لا تغادر نافذتها، لا ترتاح، لا تتنهّد ولا تتذمر حتى تسمع صوتي يقول: وصلت يمه ارجعي نامي ساعةً قبل أن يبدأ يومك الجديد في خدمة أبي أمد الله في عمره وإخواني فلكل منهم قصةً أخرى مع الجامعات والمدارس..
ما زال صدى عبارتها يتردد في أذني كأنها قالتها هذا الصباح:
“بين كانونين… سافر يا شقي.”
أمي لم تكن مثل باقي النساء..كانت تحمل قلق العالم كله لوحدها، كانت خَفَرًا على هيئة إنسانة، كانت تملك قلباً يسع خوف الدنيا بأكملها، تقف خلف زجاج نافذة معتمة، تراقب الشارع الذي لم يكن يرحم أحداً في تلك الليالي من شدة الظلام ، وتشدّ على الطريق بالدعاء أكثر مما تشدّ يدي على الحقيبة..
اليوم يمه، مع أوّل ساعات الفجر و قطرة مطر، شعرت أن كل ذلك يعود دفعة واحدة، عاد بنور وجهك الوضاء وجه أمي الذي أشرقت منه الشمس ، عاد بقلقها، عاد بدفؤها الذي كان يهزم برد كانون..
نعم تغيّرت حياتنا للأفضل يمه، توسعت الطرق وامتلكنا السيارات واستقرت بي الحياة في العاصمة وعلى رأيك صرت (اكابري عماني) وبشم نفس الهوا الي بشمه الملك ،نعم صارت السيارات أسرع والظروف أسهل… لكن شيئاً واحداً بقي كما هو: ذلك الفراغ الذي لا يملأه شيء بعد رحيل الام ..
صدقوني رحلت أمي وهي لا تطلب من الدنيا إلا سلامتنا، رحلت رغم تعبها وهي تردد دعاءها الذي كان يكفي لحماية مدينة بأكملها:
“شوفاتهم بالدروب ولا حسراتهم بالمقلوب… ربي لا يشعث حدا فيكم.”
كانت تترافع يومياً أمام محكمة الحياة بهذا القسم الذي لا يشبه إلا قسم أمهاتنا:
“الشوكة اللي بدها تيجي بإصبع واحد فيكم… تدخل بصبّي عيني..
نعم كبرنا و تغيّر كل شيء، لكن قلب الأم لا يغيّره الزمن، ولا يمحوه الغياب. هناك دعوات تظل تحرسك حتى بعد أن يُغطّي التراب أصحابها. وهناك حنين يشتدّ كلما نزل المطر، كأنه يقول لك:
بعض الرحيل لا يُنسى… وبعض الأمهات لا يغيبن مهما غبن…
في هذه الأيام المباركة
ربي أنزل على قبر أمي وامواتنا جميعاً رحمة واسعة ، اللهُم أسقي قبور موتانا غيثاً ترتوي به تربتهم وأجعل قبورهم بردًا وسلاماً إلى يوم يبعثون..
مقالي ليوم الأحد في الدستور
[email protected]
م #مدحت_الخطيب
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: سافر كل شتوة مدحت الخطيب
إقرأ أيضاً:
هل كانت الهدنة في غزة مجرد مقلب؟
حين تساءلنا هنا قبل أسابيع: "ما الذي دُبر لغزة في ليل شرم الشيخ؟"، اتهمنا البعض بالسوداوية وسوء الظن وبأننا من أنصار نظرية المؤامرة، فها هو سيد البيت الأبيض "يروج" لشعاراته العريضة حول "تحقيق السلام في الشرق الأوسط"، وعلى نفس النغمة يرقص "أتباعه" من الأنظمة العربية التي لا تتجاوز نطاق "التصديق" و"التأشير" على كل بريد يحمل طابع وخاتم الإدارة الأمريكية، دون تفكير ولا تدبير.
لكن دعونا نتناول الواقع على الأرض بالورقة والقلم وبعيدا عن الكلام المعلب الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ونحن على مشارف الخمسين يوما مما يسمى "الهدنة المزعومة"، فهل فعلا توقفت آلة القتل الصهيونية ليوم واحد فقط؟
المنظمات الإنسانية والحقوقية الموثوقة تؤكد أن عدد الشهداء تجاوز 374 حتى كتابة هذه الأسطر، ويجدر بنا ترك القوس مفتوحا لأن هؤلاء السفاحين شراهتهم للدم الفلسطيني لا تتوقف ولا تنضب، وبين هذا العدد السالف الذكر هناك 136 طفلا شهيدا في غارات جوية تشمل نسف المنازل واغتيالات ميدانية، مع تقييد شبه كامل لدخول المساعدات الإنسانية والغذاء والدواء والوقود، كل هذا وما زلنا نقرأ ونشاهد ونسمع عن "تبجيل" لاتفاق وقف إطلاق النار وهدنة برعاية عربية ودولية، على من يضحك هؤلاء يا ترى؟
ظل شعار "المرحلة الثانية" معلقا ومجهولا ويكتنفه الغموض من كل الأطراف؛ لأنه بالأساس الغرض الأصلي منها هو وهْم نزع سلاح المقاومة والبحث عن حلول للتخلص منها
من لبنان إلى غزة:
من الواضح أن السفاح نتنياهو وعصابته وبعد "التجربة الناجحة" في لبنان، حيث تتواصل الغارات نهارا جهارا ودون رادع، ولعل أوقحها ما حدث مؤخرا باستهداف القيادي اللامع في "حزب الله" هيثم علي الطبطبائي المعروف بـ"أبو علي" في حارة حريك بقلب الضاحية الجنوبية لبيروت.. كل هذه المؤشرات "الإيجابية" في بلاد الأرز دفعته لقبول خطوة "الهدنة" مؤقتا في غزة، وبالتالي امتصاص الغضب الشعبي العالمي العارم ضد الكيان الغاصب وممثليه، لكن على أرض الواقع لن يتغير الكثير، فمسلسل الإجرام متواصل، والفرصة الذهبية أن الأضواء تخفت وهو ما يستثمره جيدا لصالحه لتحقيق مكتسبات إضافية عجز عن الوصول إليها سابقا بفضل تماسك المقاومة وقوتها وأيضا للوعي الشديد لأبناء القطاع الصامد، مما أفشل العديد من المخططات الصهيونية، وتلك حقائق يقر بها إعلام وحتى بعض قيادات جيش العدو أيضا.
فخ شرم الشيخ:
اليوم لم يعد ممكنا الاختباء وراء مصطلحات منمقة للتغطية عن الحقيقة الساطعة؛ التي تقول بأن الكثيرين كانوا "متواطئين" في مسرحية شرم الشيخ التي كان الهدف الرئيس منها هو مصلحة أسرى العدو وضمان سلامتهم وتسليمهم، لذلك ظل شعار "المرحلة الثانية" معلقا ومجهولا ويكتنفه الغموض من كل الأطراف؛ لأنه بالأساس الغرض الأصلي منها هو وهْم نزع سلاح المقاومة والبحث عن حلول للتخلص منها، وهو ما لا تخفيه العديد من الأطراف العربية كذلك دون حياء ولا خجل.
ولعل آخر من انبرى لوضع النقط على الحروف دون مواربة هو وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، الذي أكد أثناء زيارته إلى لبنان "دعم مصر الكامل لقرار الحكومة اللبنانية لحصر السلاح، ونقوم بجهد كبير لتجنيب لبنان أي مخاطر أو ميول عدوانية ضد أمنه وسلامته، وهذه الجهود لن تتوقف".
طبعا هذا الكلام "الرسمي" أمام الكاميرات ووسائل الإعلام، إلا أن هناك مصادر صحفية متعددة وصفت زيارة عبد العاطي لقصر بعبدا بأنها "رسالة إسرائيلية" مفادها أن عدم تسليم "حزب الله" لسلاحه وانسحابه من الجنوب يعني حربا إسرائيلية وشيكة على لبنان قبل نهاية العام الجاري، والملفت أن الاعلام الصهيوني احتفل وهلل بما جاء على لسان الوزير المصري.
المؤكد أن استمرار هذا العبث (الذي يسمى هدنة) وادعاء الحرص على عدم خرقه سواء في لبنان وقطاع غزة بات يتطلب تحركات مغايرة
طبعا من الضروري ربط الحديث بما يحدث في الجنوب اللبناني بغزة، لأن كل الخيوط متشابكة، والهدف واحد يتجلى في رفع الراية البيضاء على كل الساحات التي ما زالت تصر على صون الكرامة والوقوف ضد العدو الغاصب وجحافله، لكن الطامة الكبرى التي نحياها أن من يعبد الطريق أمام هذا الوحش المفترس لالتهام ما بقي من الأراضي العربية يدعي زورا وبهتانا أنه ينتمي لنفس الأمة ويردد ما تؤمن به.
ماذا عن القادم؟
لا بد أن للمقاومة التي قدمت دروسا على ساحات القتال وفي قاعات الديبلوماسية؛ أوراقها التي ستراهن عليها في قادم الأيام، وهي تدرك منذ اللحظة الأولى حقول الألغام المعدة للإيقاع بها على هيئة مؤتمرات "راقية" وشعارات جذابة، مثل إعادة الإعمار وإحلال السلام، وغيرها من الكلمات المتهالكة التي لم تعد تنطلي على طفل صغير، لكن المؤكد أن استمرار هذا العبث (الذي يسمى هدنة) وادعاء الحرص على عدم خرقه سواء في لبنان وقطاع غزة بات يتطلب تحركات مغايرة، وبالأخص من لدن الطرف اللبناني، ونقصد "حزب الله" تحديدا، الذي بات في مفترق طرق وأمام تحد مفصلي حاسم.
والمثير للسخرية حقا هو كم التصريحات المتناقضة الصادرة عن الرئاسة اللبنانية التي لا تخجل من رفع يافطة الاستسلام التام وعودة نتنياهو وزمرته لرفع العلم الإسرائيلي في ساحات بيروت، وهي نفس الأُمنية التي تنتاب العديد من الأنظمة العربية اليوم لإرضاء الإدارة الأمريكية وانتظار فرصة الاستفراد بها واحدا تلو الآخر، كما علّمتنا دروس التاريخ التي لا يملك أصحاب المشاريع الخرافية الوقت الكافي لقراءتها والتمعن في نتائجها..