التمويل العقاري في مصر.. كيف أعادت المبادرات رسم خارطة السكن والاقتصاد؟
تاريخ النشر: 7th, December 2025 GMT
لم تعد مبادرات التمويل العقارى التى يشرف عليها البنك المركزى المصرى مجرد حلول بنكية لتوفير السيولة، بل تحولت بنهاية نوفمبر 2025 إلى ظاهرة اقتصادية أعادت رسم الخارطة العمرانية والاجتماعية.
الأرقام الصادرة قبل أيام عن صندوق الإسكان الاجتماعى ودعم التمويل العقارى، والتى كشفت عن ضخ البنوك والشركات تمويلات بقيمة 95.
فى هذا التقرير، نحلل دلالات هذه الأرقام، وتوزيع الحصص السوقية بين البنوك، والأثر المباشر لهذا الضخ المليارى على حركة الإسكان والاقتصاد الكلى.
القراءة المتأنية لقائمة أكبر 10 بنوك تمويلا للمبادرة، تكشف عن سباق محموم بين قطبى القطاع المصرفى الحكومى؛ البنك الأهلى المصرى وبنك مصر، إذ الفارق الضئيل جداً بينهما يعكس استراتيجية الدولة فى الاعتماد على ذراعيها الماليتين لتحمل العبء الأكبر من هذه المبادرة القومية.
البنك الأهلى المصرى تربع على القمة بتمويلات 21.285 مليار جنيه وحصة 23.3٪، يلاحقه مباشرة بنك مصر بتمويلات 20.751 مليار وحصة 22.7٪، فاستحواذ هذين البنكين منفردين على نحو 46٪ من إجمالى السوق يعنى أن ما يقرب من نصف وحدات الإسكان الاجتماعى الممولة تم تمريرها عبر شباك "الأهلى” و”مصر”، وهذا التركيز يؤكد أن المصارف الحكومية ما زالت هى "رأس الحربة” فى تنفيذ السياسات الاجتماعية للدولة، مستندة إلى قاعدة رأسمالية ضخمة وانتشار جغرافى واسع يتيح لها الوصول للعملاء فى القرى والنجوع.
فى المركزين الثالث والرابع، يظهر التكامل بين «الانتشار» و»التخصص، فبنك القاهرة، الذراع الثالثة للمصارف الحكومية، اقتنص المرتبة الثالثة بتمويلات تجاوزت 10.3 مليار جنيه وحصة سوقية بنسبة 11.3٪، مستفيداً من انتشاره الواسع وقاعدته العريضة من عملاء التجزئة.
أما بنك التعمير والإسكان، الذى جاء رابعاً بـ 7.95 مليار جنيه، فيمثل حالة خاصة؛ فهو «بيت الخبرة» التاريخى فى هذا المجال، ورغم المنافسة الشرسة من البنوك التجارية الأكبر حجماً، فإن احتفاظه بحصة 8.7٪ يؤكد ثقة شريحة كبيرة من العملاء فى خبرته الفنية والإجرائية فى ملفات الإسكان.
ولعل أبرز ما يميز تقرير نوفمبر 2025 هو الحضور القوى لبنوك القطاع الخاص فى قائمة العشرة الكبار، ما ينفى تهمة أن المبادرة «عبء حكومى” فقط.
فقد ظهر QNB مصر فى المركز الخامس بتمويلات 6.78 مليار جنيه، والبنك التجارى الدولى (CIB) سادساً بـ 5.73 مليار، وهو ما يحمل دلالة اقتصادية مهمة هى أن التمويل العقارى لمحدودى الدخل بات «منتجاً مصرفياً رابحاً» ومغرياً للبنوك الخاصة، وليس مجرد عمل تنموى، فمشاركة هذه المصارف تعنى توسيع قاعدة المستفيدين ورفع جودة الخدمة المقدمة عبر المنافسة.
وكشف التقرير عن هيمنة كاسحة للبنوك (22 بنكاً) على السوق بنسبة 92.9٪ مقابل حصة ضئيلة لشركات التمويل العقارى بلغت 2.6٪ فقط لمحدودى الدخل، فيما يرجع هذا التباين بشكل أساسى إلى الانتشار الواسع لفروع البنوك إلى جانب امتلاكها ودائع ضخمة بتكلفة منخفضة تمكنها من الإقراض بمرونة ضمن المبادرات المدعومة، بينما تعتمد الشركات على الاقتراض لإعادة الإقراض، ما يقلل من هامش مناورتها فى شريحة محدودى الدخل الحساسة للسعر، ويدفعها للتركيز أكثر على شرائح الدخل الأعلى أو العقارات الفاخرة خارج المبادرة.
التوسع القوى فى المبادرة ووصولها لمستوى 95.5 مليار جنيه فى السوق العقارية ليس مجرد أرقام فى دفاتر البنوك، بل هو «وقود» حقيقى لقطاع المقاولات والتشييد.. هذا المبلغ الضخم ذهب فى النهاية إلى شركات التطوير العقارى والمقاولين الذين نفذوا هذه الوحدات، ما ساهم فى دوران عجلة الإنتاج عبر تحريك مبيعات مواد البناء من الحديد والأسمنت ومواد التشطيبات المرتبطة بأكثر من 100 صناعة، مع توفير السيولة للمطورين، خاصة هيئة المجتمعات العمرانية وصندوق الإسكان الاجتماعى، ما يمكنهم من إعادة استثمار هذه الأموال فى مشروعات جديدة، بالإضافة إلى إتاحة ملايين فرص العمل المباشرة وغير المباشرة فى مواقع البناء.
وبعيداً عن لغة الأرقام، فإن وصول عدد المستفيدين إلى أكثر من 668.5 ألف عميل يعنى توفير سكن آمن ومستقر لنحو 3 ملايين مواطن وفق متوسط عدد أفراد الأسرة المصرية.. هذا الرقم يمثل نجاحاً ملموساً فى مواجهة العشوائيات وتحقيق العدالة الاجتماعية، إذ تحول المواطن من «مستأجر» مهدد إلى «مالك» لأصل عقارى تتزايد قيمته بمرور الوقت، ما يعزز من انتمائه واستقراره المادى.
ومع وجود بنوك مثل «المصرف المتحد» و»نكست» و»التنمية الصناعية» و»المشرق» فى ذيل القائمة ولكن بأرقام مليارية محترمة، يتضح أن الشهية المصرفية للتمويل العقارى فى تزايد، ومن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة منافسة أشرس، خاصة مع توجه الدولة لزيادة الوحدات المطروحة، ما قد يدفع بنوكاً أخرى لمحاولة كسر احتكار الكبار، وهو ما يصب فى النهاية فى مصلحة المواطن والاقتصاد الوطنى.
ختاماً، فإن حصاد مبادرة التمويل العقارى بنهاية نوفمبر 2025 يؤكد أن «الرهان على العقار» كقاطرة للنمو الاقتصادى والاجتماعى كان رهانًا رابحًا، وأن القطاع المصرفى أثبت أنه العمود الفقرى لأى نهضة عمرانية حقيقية فى مصر.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: التمويل التمويل العقارى التمویل العقارى ملیار جنیه
إقرأ أيضاً:
المشاط: 48.5 مليار جنيه استثمارات للمرحلتين الأولى والثانية بمنظومة التأمين الصحي الشامل
أكدت الدكتورة رانيا المشاط، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، أن منظومة التأمين الصحي الشامل في مرحلتها الأولى تشمل 6 محافظات بعدد مستفيدين يصل إلى 5.1 مليون مواطن، كما تم ضخ استثمارات منذ 2018 وحتى 2025 بلغت نحو 28.5 مليار جنيه لتنفيذ تلك المرحلة، بينما تشمل المرحلة الثانية 5 محافظات بعدد 12.4 مليون مستفيد من إجمالي السكان، وتم تخصيص استثمارات بقيمة 20 مليار جنيه لتلك المرحلة لتطوير المنشآت الصحية، هذا بالإضافة إلى التمويلات الميسرة من شركاء التنمية التي تبلغ قيمتها 880 مليون دولار من البنك الدولي، والوكالة الفرنسية للتنمية، والوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا) لدعم منظومة التأمين الصحي الشامل.
جاء ذلك خلال مشاركة وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، في المنتدى رفيع المستوى للتأمين الصحي الشامل 2025، وذلك في إطار رئاستها لوفد مصر الذي يضم الدكتور أحمد السوبكي، رئيس هيئة الرعاية الصحية، و مي فريد، المدير التنفيذي للهيئة العامة للتأمين الصحي الشامل، حيث ينظم المنتدى حكومة اليابان، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية (WHO) ومجموعة البنك الدولي، في العاصمة اليابانية طوكيو، بمشاركة نخبة من مسئولي الحكومات والمؤسسات الدولية من بينهم، أجاي بانجا، رئيس البنك الدولي، وسانايتاكيتشي، رئيسة وزراء اليابان، الدكتور تيدروس أدهانومجيبريسوس، رئيس منظمة الصحة العالمية، الدكتور يودي ساديكين، وزير الصحة الإندونيسي.
وشهد المنتدى إطلاق مركز المعرفة الخاص بالتغطية الصحية الشاملة، وهو منصة مبتكرة أطلقتها حكومة اليابان والبنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية، لتعزيز تبادل الخبرات والمعرفة ودعم السياسات الوطنية في مجال الرعاية الصحية، ويضم مصر إلى جانب نيجيريا، والفلبين، وكينيا، وإندونيسيا، وغانا، وكمبوديا، وإثيوبيا.
وفي كلمتها، قالت الدكتورة رانيا المشاط، إن هذا الحدث المحوري، يجدد الالتزام العالمي بقضية تقع في صميم التنمية البشرية، مؤكدة أن مصر تؤمن بأن الرعاية الصحية حق لكل مواطن كما أنها ضرورة اقتصادية؛ فهي الأساس الذي يقوم عليه الإنتاج، وخلق فرص العمل، وتحقيق النمو الشامل والمستدام، لافتة إلى أن العالم التزم في عام 2015 بتحقيق التغطية الصحية الشاملة بحلول عام 2030، وبالنسبة لمصر، لم يكن هذا مجرد هدف، بل كان استراتيجية وطنية للاستثمار في رأس المال البشري وهو المحرك الأقوى للتنمية الشاملة والمستدامة.
وذكرت أن مصر ترجمت هذا الالتزام إلى خطوات تنفيذية، فخلال السنوات الخمس الماضية، عملنا على زيادة الإنفاق على القطاع الصحي بما يقارب أربعة أضعاف، وهو تطور محوري لأنه يتيح لنا مواءمة الأهداف الصحية مع متطلبات التنمية، ويرفع كفاءة الخدمات المقدمة للمواطنين، ويعزز الجهود المبذولة لتحسين جودة حياة الأفراد.
وأكدت أن الهدف الاستراتيجي الذي نعمل على تحقيقه، هو توفير التغطية الكاملة ضمن منظومة التأمين الصحي الشامل لجميع المواطنين في مصر بحلول عام 2030، وهو هدف طموح يتطلب قدرات فنية متقدمة، ونظم تشغيل فعّالة، إلى جانب توفير تمويل مستدام يضمن استمرار تطبيق المنظومة بكفاءة وانتظام، ويحقق الشمول الصحي الكامل على مستوى الجمهورية.
وأضافت أن تحقيق التغطية الصحية الشاملة لا يتوقف عند توسيع نطاق الخدمات، بل يشمل أيضًا تعزيز الاستدامة وتحقيق القيمة، وفي هذا الإطار، تنفذ مصر تحولًا استراتيجيًا في تمويل الصحة، بما يحسن كفاءة استخدام الموارد العامة ويوسع العدالة في الحصول على الخدمات، ويمتد هذا التحول إلى منظومة الحوكمة عبر المجموعة الوزارية للتنمية البشرية، التي تضمن رؤية وطنية موحدة، واتساق السياسات، وتحديد الأولويات بناءً على الأدلة، وتوجيه الاستثمارات للفئات الأكثر احتياجًا، وتسريع وتيرة صنع القرار، وهو نهج حكومي شامل يجعل التغطية الصحية الشاملة جزءًا محوريًا من أجندة تنمية رأس المال البشري، ويربط التقدم الصحي بالتعليم وتنمية المهارات والتمكين الاقتصادي.
وأكدت «المشاط»، أن تحقيق النمو طويل المدى يعتمد على الاستثمار في الإنسان قبل أي شيء آخر؛ فالاستثمار في البشر هو ما يرفع الإنتاجية، ويُعزّز قدرة الأفراد على التقدّم والمشاركة الفعّالة في الاقتصاد، كما يساهم بشكل مباشر في خفض تكاليف الإنفاق المستقبلي على الخدمات، خاصة في القطاع الصحي.
واستعرضت الوزيرة التجربة المصرية، مشيرة إلى أن قطاع الصحة يعد أحد أهم الأولويات الوطنية، ليس فقط كجزء من منظومة الحماية الاجتماعية، بل باعتباره ركيزة أساسية لتحقيق التنمية الشاملة. وقد ارتبط هذا التوجه بمجموعة متنوعة من المبادرات والبرامج، لافتة الى تطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل بالتعاون مع البنك الدولي وشركاء تنمويين آخرين، فضلا عن إطلاق الدولة عددًا من المبادرات الرئاسية التي لعبت دورًا حاسمًا في توسيع نطاق الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين في مختلف أنحاء الجمهورية.
كما أشادت كذلك بدور مؤسسة التمويل الدولية IFC والوكالة الفرنسية للتنمية AFD في دعم إشراك القطاع الخاص، وإصلاح السياسات، وبناء القدرات المؤسسية، وهي جهود تعزز مرونة النظام الصحي وترفع من كفاءته.
وتابعت قائلة «أما المبادرات الرئاسية في المجال الصحي، فقد امتد أثرها إلى نحو 90 مليون مواطن، عبر تقديم أكثر من 250 مليون خدمة صحية، شملت حملات الكشف المبكر، والفحوصات المتعلقة بالأمراض غير السارية، وبرامج المتابعة والعلاج».
وفيما يخص مبادرة “حياة كريمة”، فقد تجاوز عدد وحدات الرعاية الأولية التي جرى إنشاؤها أو تطويرها أكثر من 2,000 منشأة، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في تحسين جودة الخدمات الصحية المقدمة في الريف، وفي تخفيف الضغط على المستشفيات المركزية والعامة، وهذا يعكس ليس فقط حجم الجهود المبذولة، بل أيضًا التكامل الواضح بين مختلف المبادرات التي تعمل تحت مظلة رؤية واحدة.
وشددت على أنه عند قياس الإنفاق الصحي العام، يجب ألا نركز فقط على ما يُخصص لمنظومة التأمين الصحي الشامل. فالإنفاق على المياه والصرف الصحي والبنية الأساسية والخدمات الاجتماعية الأخرى يُعد جزءًا مهمًا من الصورة الكاملة، فهو يُسهم بشكل غير مباشر في تحسين الصحة العامة وتقليل معدلات المرض.
وأشارت الوزيرة إلى تجربة مصر في القضاء على فيروس «سي»، لافتة إلى إعلان منظمة الصحة العالمية خلوَّ مصر من المرض، وقد تحقق ذلك من خلال حملات واسعة للتطعيم، وبفضل إنتاج اللقاح داخل مصر عبر شركات القطاع الخاص، وهو ما يؤكد أن لكل طرف دورًا أساسيًا في المنظومة: الحكومة، والقطاع الخاص، والشركاء الدوليون.
مؤكدةً أن دور الحكومة هنا يكمن في التيسير والتمكين، من خلال العمل على الاستفادة المثلى من ميزات كل شريك، إلى جانب توفير منصة مشتركة تُمكّن جميع الأطراف من العمل معًا بفاعلية.
واختتمت وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي كلمتها بالتأكيد على أن الاستثمار في المواطن وحماية الأسر الأكثر احتياجًا، وتمكين الشباب، وتقوية المنظومة الصحية، وتوسيع فرص العمل المنتج هو الأساس لبناء اقتصاد أكثر مرونة وقدرة وتنافسية.