مخاطر استدعاء شبه القارة الهندية للصراع في الشرق الأوسط
تاريخ النشر: 7th, December 2025 GMT
بدأ انهيار النظام العربي منذ انسحاب مصر من ممارسة دورها القيادي في العالم العربي عبر الصلح المنفرد مع إسرائيل، واتباع سياسة انسحاب وانكفاء إلى الداخل.
بعدها عجزت القوى العربية الطامحة لأن تقوم مقام القاهرة عن ملء فراغ هذا الدور.
حتى الولايات المتحدة لم تكن مستعدة لتكريس مواردها لملء كامل الفراغ، ولا لضبط كامل التفاعلات في النظام الإقليمي المتداعي.
تعملق الدور الإسرائيلي، وتوحش حتى صار يتعامل مع العرب كقوة عظمى إقليمية خاصة بعد اتفاقات إبراهام، لكنه أيضا لم يكن كافيًا.
استدعى الفراغ العربي أيضا تمددًا في نفوذ القوى الإقليمية في المنطقة مثل إيران وتركيا.
لكن الجديد هو استدعاء الفراغ السياسي، والحاجة إلى الدور لقوى إقليمية على تخوم العالم العربي لتلعب أدوارًا جيوسياسية غير مسبوقة سيكون لها آثار بعيدة المدى على التوازنات في المنطقة وعلى الصراع العربي الإسرائيلي.
الحديث هنا عن الاستدعاء المتزايد لدولتي شبه القارة الهندية الكبيرتين الهند وباكستان من قبل أطراف دولية وإقليمية وعربية للعب أدوار سياسية وعسكرية حساسة متقاطعة ومتنافسة بعد أن كان حضورها في السابق حضورًا تجاريًا وثقافيًا عبر انتقال منتظم للبشر والعمالة ورؤوس الأموال.
ولأن الفراغ السياسي يقترب عمره من نصف قرن فإن الاستدعاء تم تدريجيا وتزايد بقوة في العقد الأخير، لكنه شهد طفرة كبرى منذ سبتمبر ٢٠٢٣.
بالإضافة إلى الضعف والانقسام العربي ساعد على هذا الاستدعاء جملة متغيرات كبرى: ـ تغير غير مكتمل، ولكنه شديد الأهمية في نمط التحالفات الدولية لكل من نيودلهي وإسلام آباد. لابد من القول: إن انتهاء حكم حزب المؤتمر العلماني التقدمي الذي قاد الهند معظم عقود ما بعد الاستقلال، وتولى حزب بهاراتيا جاناتا اليميني المحافظ وزعيمه ناريندرا مودي قيادة البلاد كان انقلابًا استراتيجيا ليس فقط في السياسة الداخلية، ولكن أيضا في السياسة الخارجية.
تحت حكم مودي انتقلت الهند من معسكر عدم الانحياز والعداء للغرب والتحالف مع موسكو إلى دولة صديقة للغرب وواشنطن وطرفا في تحالفات غربية جيوسياسية في المحيطين الهندي والهادي موجهة للحد من صعود النفوذ العالمي للصين. رغم أن حاجة الهند الصاعدة صاروخيًا في الاقتصاد على النفط الروسي الرخيص واستمرار اعتماد جيشها في ثلثي تسليحه على الأسلحة الروسية واستياء الهند من الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب مؤخرا استطاعت أن تبقى على علاقات تاريخية مع موسكو كما تدل زيارة بوتين الأخيرة لنيودلهي، إلا أن انحيازات السياسة الخارجية الهندية أيديولوجيا أصبحت بلا شك في المعسكر الغربي.
قابل ذلك تغير معاكس في السياسة الخارجية الباكستانية عند إسلام آباد التي كانت جيشًا وسياسة أكبر حلفاء الغرب وواشنطن لدرجة أن خسارتها في حرب ١٩٧١ مع الهند اعتبرت من قبل هنري كيسنجر هزيمة لأمريكا.
نقلت باكستان قسمًا كبيرًا من ولائها السياسي إلي الصين جارها العملاق ومنافس واشنطن العالمي لدرجة أن إعلانها إسقاط طائرات هندية في اشتباك قصير جرى في أبريل من هذا العام اعتبر انتصارًا للتكنولوجيا العسكرية الصينية على التكنولوجيا العسكرية الغربية!
وبينما أصبحت باكستان بلدًا محوريًا في مشروع بكين الجيوسياسي والتجاري لإنهاء نظام القطب الواحد العالمي، ومشاركة واشنطن في صنع القرار الدولي المعروف بمشروع الحزام والطريق الصيني؛ تحرك الأمريكيون والأوروبيون بمشروع مضاد في ٢٠٢١ أسموه «الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالميين» (PGII).
في سبتمبر ٢٠٢٣ حدث ما يمكن وصفه بالالتقاء بين انتقال الهند إلى علاقات تحالف مع الغرب دوليا، وانتقالها الحاسم للتحالف مع إسرائيل إقليميا في عهد مودي. تاريخيا عندما كانت الهند عالميا مع الكتلة الاشتراكية أيام نهرو وأنديرا غاندي كانت إقليميا مع القضية الفلسطينية وضد الاحتلال الإسرائيلي.
الهند التي رفضت أن يتوقف الرئيس الإسرائيلي «زلمان شازار» في الستينيات حتى لكي تتزود طائرته بالوقود صارت تستقبل نتنياهو بالسجاد الأحمر، وتعتبره حليفا استراتيجيا في التكنولوجيا العسكرية والمدنية وشريكا أساسيا في مقاومة الإرهاب!
وفي هذا كانت الهند ضمن عدد قليل في دول العالم التي انحازت لإسرائيل على طول الخط في حدث طوفان الأقصى رغم حرب الإبادة الجماعية.
ففي قمة العشرين في سبتمبر ٢٠٢٣ في الهند حولت واشنطن مشروع PGII إلى مشروع خط بهارات الذي يربط الخليج بالهند عن طريق إسرائيل أي توسيع التطبيع الإبراهيمي، وإسقاط القضية الفلسطينية للأبد. وحتى لا يساور أحد الشك في خطورة هذا التحول على الصراع العربي الإسرائيلي لا بد من التذكير بأن هذا المشروع كان أحد الأسباب المباشرة في التعجيل بهجوم السابع من أكتوبر من قبل قيادة حماس السياسية والعسكرية في قطاع غزة.
هذا التورط أو التوريط لجنوب آسيا في صراع عربي إسرائيلي شمل دولة إقليمية بحجم إيران أيضا مشتعل بدا مخيفا.
باكستان المؤيدة للفلسطينيين لأسباب دينية والشريك الأقرب لمشروع الحزام الصيني وتعول عليه لدعم اقتصادها المثقل باتت في مواجهة الهند المؤيدة لإسرائيل والتي تعتبر الشريك الأقرب والأكثر استفادة من مشروع ممر بهارات.
حتى لا يساور الشك أحد هنا في خطورة هذا التورط يكفي التذكير بما أعلنه نتنياهو بعد أيام قليلة من الإعلان عن ممر بهارات من على منبر الأمم المتحدة في ٢٥ سبتمبر ٢٠٢٣ أن هذا المشروع سيغير وجه الشرق الأوسط، وأن دولة إسرائيل تمتد من النهر إلى البحر.
في ١٧ سبتمبر ٢٠٢٥ حدث التطور الثالث ألا وهو توقيع السعودية اتفاقية دفاع استراتيجية مع باكستان تلتزم فيه الدولتان بمعاملة أي عدوان على إحداهما باعتباره عدوانًا علي كليهما. وقال مسؤولون باكستانيون: إن ذلك يشمل توفير مظلة القدرات النووية العسكرية الباكستانية.
هذه النقلة النوعية في نمط التعاون العسكري لباكستان مع الخليج وللهند مع إسرائيل قد يقود لاحتمالات تحميل المنطقة المثقلة بالحروب والصراعات بحروب وصراعات جنوب آسيا وشبه القارة الهندية المتقطعة والمستمرة، وتحميلها مواريث النزاع الصيني الهندي التاريخي على الحدود المشتركة، والأخطر جعلها بؤرة عالمية ساخنة من بؤر الصراع المتقدم بين الولايات المتحدة والصين؛ خاصة أن هذا الصراع على النفوذ السياسي وعلى مشروعات كبرى لطرق التجارة والمواصلات وإمدادات الطاقة يمر كله عبر العالم العربي بموقعه وثرواته النفطية وإشرافه على البحار وممرات الملاحة.
إن استدعاءً استقطابيًا من هذا النوع لقوتين نوويتين متعاديتين بأيديولوجيات خصومة مريرة، ونزاعات على الحدود، وحروب غير حاسمة، وتاريخ مليء بالشحن الشعبي وانقلاب غير مستقر في نمط تحالفات دولية متصارعة، وعواطف مختلفة تجاه المنطقة سواء لأسباب دينية أو مصالح متعارضة، وحضور تنافسي على تحويلات عمالة كمصدر من مصادر الدخل الوطني، ومجال للتنافس على النفوذ الإقليمي لكليهما يتيحها لهم الخليج القريب وقليل السكان؛ هو خطر كبير لابد للدول العربية من التقدم بحكمة وحزم للتعامل الحصيف معه.
حسين عبد الغني كاتب وصحفي مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: سبتمبر ٢٠٢٣
إقرأ أيضاً:
الصين القطب الاقتصادي والسياسي الصاعد
على الرغم من الاهتمام الكبير لإدارة ترامب بملف الشرق الأوسط واعتبار إسرائيل ثكنه عسكرية متقدمة لأمريكا في المنطقة، إلا أن العيون الأمريكية شاخصة على الدوام باتجاه الصين وتطورها المتسارع على المستوين الاقتصادي والعسكري؛ لتصبح قطبا في نظام دولي بدأ بالتشكل.
استثمار العوائد من أمريكا
ترتبط الصين وأمريكا بعلاقات اقتصادية متشعبة، وثمة فوائد مالية كبيرة تجنيها بكين؛ حيث اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الصين باستخدام المكاسب المالية من تجارتها مع الولايات المتحدة في بناء وتطوير قدراتها العسكرية حيث قال خلال مشاركته في مؤتمر ماكدونالدز في العاصمة الأمريكية واشنطن: "لقد بنوا قواتهم المسلحة بالأموال التي قدمناها لهم على مر السنين"، في إشارة إلى الفائض التجاري الضخم الذي حققته بكين على حساب واشنطن.
وبالأرقام، أشار ترامب إلى أن الصين حصلت على نحو 722 مليار دولار من الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية، مبينا أن هذه الأموال ساعدت في تمويل برنامجها العسكري المتسارع، ما يشكل تهديدا لموازين القوة الإقليمية والعالمية. ولهذا تقوم أمريكا وحلفائها بمناورات عسكرية في مناطق قريبة من الصين للحد من تمدد النفوذ الصيني؛من خلال الدبلوماسية الناعمة؛ حيث تستخدم بكين نفوذها الاقتصادي في أفريقيا والشرق الأوسط وغيرهما لتعزيز مصالحها السياسية والأمنية في ذات الوقت.
ومن نافلة القول أن تصريحات ترامب وتخوفاته أتت بعد فترة قصيرة من لقاء جمعه بالرئيس الصيني شي جين بينغ في قاعدة جيمهاي الجوية في بوسان بكوريا الجنوبية، في 30 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حيث تم التوصل إلى اتفاقية تجارية لمدة عام، تضمنت خفض الرسوم الجمركية الأمريكية على السلع الصينية من 57 في المائة إلى 47 في المائة؛ في مقابل موافقة الصين على شراء منتجات زراعية أمريكية واستمرار توريد المعادن الأرضية النادرة بشكل حر. ويعتبر ذلك صراعا ناعما على القطبية في العالم.
الصراع على القطبية
في تسارع مع الزمن، تسعى إدارة ترامب الى اللحاق بالصين في إنتاج الدرونات (وهي طائرات يتم التحكم بها عن بعد دون طيار)، بل العمل على تجاوزها في أقرب وقت ممكن، في مؤشر على السباق المستمر بين القوتين في المجالات الاستراتيجية العسكرية والصناعية.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الصين هي قطب اقتصادي عالمي ضخم وثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد أمريكا، تعتمد على قوة صناعية هائلة وصادرات سلعية ضخمة، وتستثمر في التكنولوجيا والبنية التحتية ضمن استراتيجيات طويلة الأجل مثل "مبادرة الحزام والطريق" التي تهدف لتوسيع نفوذها سياسيا، وتسعى لتغيير النظام الدولي نحو تعددية الأقطاب بدعم من الأمم المتحدة، مع التركيز على مبادئ التعايش السلمي وعدم التدخل العسكري المباشر، بينما تستخدم نفوذها الاقتصادي لتعزيز دورها الإقليمي والعالمي وتأمين مصادر الطاقة، متجنبة المواجهة المباشرة مع القوى التقليدية في أي نزاع دولي، في وقت تعتبر فيه الصين أكبر مصدر للسلع في العالم، بحصة كبيرة من الصادرات العالمية، كما اتضح خلال عام 2023 في تقارير دولية؛ جنبا الى جنب مع استثمارات صينية ضخمة في التكنولوجيا المتقدمة، مثل الرقائق الإلكترونية ومشاريع البنية التحتية الضخمة.
اللافت أن نشاط الصين وادائها في إطار العلاقات الدولية وخاصة مع أمريكا؛ إنما هدفه الاستراتيجي خلق نظام دولي متعدد الأقطاب وليس حكرا على أمريكا فقط.
ولهذا تعتبر إدارة ترامب ملف العلاقات مع الصين أولوية أمريكية من العيار الثقيل؛ رغم اهتمامها بملف الشرق الأوسط ودعم عصابة إسرائيل بغرض استمرارها كخنجر لأمريكا في الشرق الأوسط على حساب الشعب الفلسطيني ووطنه الوحيد فلسطين.