حالتان تتجاذبان كتابة الأدب وتلقّيه عبر تاريخ تشكّله، وما زالتا تحدّدان آفاق التلقّي والقراءة، حالةٌ يكونُ فيها الأدب صانعا لعوالم، بانيا لممكنٍ يكون عليه الكونُ والكائن، حالةٌ يكونُ عليها الإنسانُ المُتخيَّل أدبيّا، فيكونُ الأدبُ معبّرا عمّا يكون، وعمّا ينبغي أن يكون، وفق تصوّر يرصد للأديب منزلة القادر على استشراف المقبل، وعلى تقديم الحلول الممكنة لكون أفضل ولإنسان أرقى، وحالةٌ ثانية يتمحور فيها دور الأدب في تصوير الوجود وعرض الموجود، هو مرآةٌ لعصره ولإنسان كونه، فهو «يصف العالم ولا يغيّره» وفقا للمقولة الماركسيّة المشهورة، فيكون بذلك دور الأديب ماثلا في إدراك مشاغل عالمه وحسن التعبير عنها، أمران يُمكن أن يتفارقا ويُمكن أن يجتمعا في قاعدة تلقّي الأدب ونقده، على أنّه تصوير للعالم أو صياغةٌ لعالم، اعتمادا على مقولة ماركس المثيرة للجدل والتي يقول فيها: «لقد حاول الفلاسفة تفسير العالم في حين أنّ المطلوب هو تغييره»، وقياسا عليه فهل للأدب دورٌ في تفسير العالم أو في تغييره؟ ماذا فعل النابغة الذبياني عندما وصف زوجة النعمان بن المنذر في قصيدته الجميلة «المتجرّدة» التي أجمعت كُتب الأخبار على أنّ النعمان بن المنذر رأى زوجته تعبر المجلس، فلمّا سقط نصيفها اتّقت الحضور باليد خجلا وحياء، فأراد من شاعره المُقرّب أن يصف له المشهد؟ وهل كان هذا الوصف للكون الذي ملؤه الزوجة مُعبّرا عمّا ينتظره الملك الطالب الراغب؟ وهل كان فعلا وصفا، أو هو رؤيةٌ للظاهر والباطن، للوجه والقفا، للصفة والفعل، لما كان ولما هو كائنٌ ولما سيكون، ولأحداثٍ ممكنة ورغبات كامنة، وهو الأمر الذي أفضى إلى هدْر دم الشاعر وملاحقته، لأنّه رأى ما لم يره الملك؟ وماذا فعل أبو نواس السائر في نفس مسار النابغة عندما وصف جارية الرشيد في قصيدته المأثورة «المغتسلة»؟ هل كانا بصدد وصف العالم، وصف المرأة، أو كان بصدد وصف المرأة الماثلة في ذهن الشاعر وفي ذهن الرشيد؟ هل صوّر أبو نُوّاس -الذي استحسن الرشيد شعره وفضّله على وصف بشّار لنفس الموقف- الجارية كما هي في واقع الحال أو صوّر الجارية كما يُحبّ الرشيد أن يراها؟ ورد في كتاب «نوادر الخلفاء»: «وذكر الخطيب في بعض مصنفاته أن الرشيد دخل يوما قبل وقت الظهر، في مقصورة جارية تسمى الخيزران على غفلة منها، فوجدها تغتسل، فلما رأته تجلّلت بشعرها حتى لم يرَ من جسدها شيئا، فأعجبه ذلك الفعل واستحسنه، ثم عاد إلى مجلسه وقال: من بالباب من الشعراء؟ قالوا له: أبو نواس وبشار، فقال: ليحضرا جميعا»، فأصاب أبو نوّاس ما يريده الرشيد وحقّق أفق انتظاره، وهو -في ظنّي لم يصف الحال، وإنّما لامس مأمول الرشيد من وصف الحال.
وهل المرأة التي تغنّى بها شعراء الجاهليّة، بجسمها البدين، المرأة البرهرهة، المتثاقلة، الكسولة، الناصعة البياض، هي امرأة الواقع، أو هي امرأة الممكن؟ وهل اقتصر دور الشعراء -كما ذهب إلى ذلك شوقي ضيف في قراءته السطحيّة الساذجة للشعر الجاهلي- على تصوير هذه المرأة، ووصف حالها وطباعها أو أنّ الشاعر كان حالما، يرى الناقة الممكنة، والمرأة الممكنة، ويصنع عالما من القفر والفقر بثراء ممكنات اللّغة؟ أردتُ هذا الموضوع مدخلا لبيان مسألة معرفيّة في تلقّينا نحن المجتمعات العربيّة للأدب، وأخصّ منه اليوم القصص والروايات، هذا التلقّي القائم على «النفاق النقدي» أحيانا، فنحن نريد أدبا طاهرا نقيّا عليّا سميّا خالصا، يُعبّر عن واقع طوباوي مثاليّ موجود في أذهاننا، يُعبّر عمّا نريد أن نكون لا عمّا نحن عليه. ما زال الأديب في عالمنا العربي رهين إكراهات وحواجز تجعله «يُنافق» المجتمع، ويُخاتل القارئ، ويكتب -كما في أفلام السبعينيّات المصريّة- أنّ شخصيّات العمل وأحداثه لا علاقة لها بالواقع.
وماذا أفعل برواية إن لم تكن لها علاقةٌ بواقعٍ صَنَع شخصيّاتها وأقام أحداثها وأبان ملامحها. قال أحد الفلاسفة مرّة إنّ شخصيّة شرلوك هولمز أكثر واقعيّة من شخص يوليوس قيصر، وهو رأيٌ له وجاهته ومنطقه ومقصده بمعنى أنّ الخيوط التي حيكت بها هذه الشخصيّة الروائيّة هي خيوطٌ قرأت الواقع ونتجت عنه، في حين أنّ صدور شكسبير عن شخصٍ موجود في واقع تاريخيّ ما لم يضمن له شروط التحقّق التاريخي، فهل يُمكن اليوم لروائيّ عربيّ أن يكتب واقعه أو واقع غيره بطريقة تخلو من المواربة والمخاتلة، في ظلّ سردٍ يسود في عالم الغرب يجمع بين التجارب الغيريّة والذاتيّة والتخييل الأدبيّ؟ إلى أيّ مدى يُمكن أن نتخلّص من ظاهرة الظاهر والباطن في الكتابة؟ بطبيعة الحال هذا الكلام لا يعني أن نتخلّص من البُعد التخييلي للكتابة الأدبيّة، ولكن المقصود أن نترك العنان للكتابة التي تصدر من تجربة الذات أو تجربة الآخر، لقد كان الأدب أكثر حريّة بعيدا عن سلطة المجتمع بكلّ مظاهرها الطُهريّة، عندما كان التوحيدي يكتب لياليه في «الإمتاع والمؤانسة»، وعندما كان المعرّي يقول «في اللاّذقيّة ضجّة بين أحمد والمسيح»، وعندما كان الجاحظ يسبر خفايا النفس البشريّة دون أن يُعرَض على القضاء أو أن يُلفظ اجتماعيّا! ومن ناحية ثانية، هل لأدبائنا القدرة على اعتماد الوجه والقفا متى أرادوا، وسلوك سبيل الوجه دون مواربة إن أرادوا؟ أعتقد أنّ أزمة حقيقيّة كامنة في الفكر العربيّ في تلقّي الأدب والتفاعل معه، وأزمة أيضا في إنشائيّة الأدب وبيان المراد منه، نحتاج زمنا آخر لنُدرك أنّ الأديب هو صانع الممكن، وليس «مرآة» فقط، وإنّما هو مرآةٌ شبيهة بمرآة الطهطاوي التي وصفها في كتابه المُظهر لسذاجة التلقّي العربيّ في فترة من التاريخ الحديث، يقول واصفا دور المرآة في المقاهي الباريسيّة: «وبهذه القهوة (المقصود المقهى) أوراق الوقائع اليوميّة (المقصود الصحف) لأجل المطالعة فيها، حين دخولي بهذه القهوة ومكْثي بها، ظننتُ أنّها قصبة عظيمة نافذة، لما أنّ بها كثيرا من النّاس، فإذا بدا جماعةٌ داخلها أو خارجها ظهرت صُورهم في كلّ جوانب الزجاج، ظهر تعدّدهم مشيا وقعودا قياما، فيُظنّ أنّ هذه القهوة طريق، وما عرفت أنّها قهوة مسدودة إلاّ بسبب أنّي رأيتُ عدّةَ صُورنا في المرآة، فعرفتُ أنّ هذا كلّه بسبب خاصيّة الزجاج، فعادة المرآة عندنا أن تُثنّي صورة الإنسان، وعادتها عند الإفرنج، بسبب تعدّدها على الجدران وعظم صورتها أن تُعدّد الصورة الواحدة في سائر الجوانب والأركان». وهذا النصّ صورة فعليّة للوعي العربيّ ساعة التحامه بالفكر الغربيّ، وهو فعلا يُشكّل مادّة لإعادة النظر في مكوّنات النهضة العربيّة، ولكن دعوتنا له كانت في إطار قُدرة الأديب أن يكون مرآة غير «عاكسة» أو هي تعكس الأشياء قلْبا لها وتحويلا، المرآة التي ترى «المعكوس» وتعطيه الشكل الذي تروم، ترى فيه ما لا يراه في نفسه، فلو وضعنا مرآة حقيقيّة ونقلنا ما في ظاهر الإنسان العربيّ وباطنه لرأينا أمرا عجبا، بين إكراهات الوجود ورغبات المنشود، بين ما يريده الفرد وتريده المجموعة، الفنّان الحقيقيّ هو القادر على رؤية هذه البواطن ويتّخذ الهيئة المناسبة للتعبير عنها. «الأدب والواقع» من المواضيع التي تحتاج كشفا وجلاء وإعادة نظر في ظلّ عودة قويّة في الواقع العربيّ لسلطة المجتمع الطهوريّة التي ترى أنّ وظيفة الأدب هي تلميع الواقع، في واقع لم يبق فيه ما يُلمّع.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
صنع الله إبراهيم بين المحنة والاهتمام الرئاسي.. دلالات ومغزى
في لحظة استثنائية جمعت بين الأدب والسلطة، تصدر الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم المشهد الثقافي والإعلامي، ليس من خلال رواية جديدة أو موقف سياسي لافت، وإنما عبر محنة صحية ألمّت به، قابلها اهتمام رئاسي أثار الكثير من الأسئلة حول العلاقة بين الدولة ورموزها الفكرية، خاصة أولئك الذين اتخذوا مواقف ناقدة على مدار سنوات طويلة.
كان صنع الله قد تعرض لسقوط في منزله، نُقل على إثره إلى مستشفى معهد ناصر، حيث تبين إصابته بكسر في عنق عظمة الفخذ، وهو ما استدعى تدخلاً جراحيًا دقيقًا لتركيب مفصل صناعي، وبحسب التقارير الطبية، فقد خرج من غرفة العمليات بحالة مستقرة، ويخضع حاليًا لبرنامج تأهيلي للعلاج في المستشفى، تمهيدًا لتعافيه.
لكنّ ما لفت الأنظار لم يكن فقط الجانب الطبي، بل البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية، والذي أفاد بمتابعة الرئيس عبد الفتاح السيسي الشخصية لحالة الكاتب الصحية، وبتوجيهه وزارة الصحة لتقديم الرعاية اللازمة له، هذه اللفتة الرئاسية، التي جاءت مفاجئة للبعض، حظيت بتقدير واسع من الأوساط الثقافية، وأعادت فتح نقاش قديم ومتجدد حول موقع المثقف في الدولة المصرية.
بين الأدب والسلطة: مسيرة حافلة بالصدامات
صنع الله إبراهيم ليس كاتبًا عاديًا في تاريخ الأدب العربي، بل هو صاحب مشروع فكري وأدبي نادر، يزاوج بين التوثيق والتخييل، وبين الجرأة السياسية والتحليل الاجتماعي، منذ صدور روايته الأولى "تلك الرائحة" عام 1966، بدا صوته مغايرًا، متمردًا على السائد، ناقدًا للأنظمة، رافضًا للمهادنة، وقد زادت حدة مواقفه في أعمال مثل "اللجنة"، "أمريكانلي"، و"ذات"، حيث مارَس نوعًا من المقاومة الرمزية للنظام السياسي والاجتماعي، مستخدمًا السرد كوسيلة لتفكيك البنى السلطوية.
من أبرز مواقفه السياسية، رفضه في عام 2003 تسلُّم جائزة الرواية العربية من وزارة الثقافة المصرية، في مؤتمر رسمي شهده كبار مسؤولي الدولة. يومها صعد إلى المنصة، وأعلن رفضه الجائزة احتجاجًا على ما وصفه بـ"الاستبداد والفساد والتبعية"، وهو الموقف الذي اعتبره كثيرون قمة في النبل والنزاهة الفكرية، فيما رأى فيه البعض خروجًا على تقاليد التقدير الأدبي.
الرئيس والمثقف: هل تغيرت المعادلة؟
في ضوء هذه الخلفية، يبدو الاهتمام الرئاسي بحالة صنع الله إبراهيم حدثًا ذا دلالة رمزية كبيرة، فالرئيس المصري يضع ثقله في متابعة حالة كاتب عُرف عنه انتقاده الجريء للسلطة، بل وعلاقته المتوترة بالدولة منذ سنوات، وقد فُسّر ذلك على أنه تأكيد على أن الدولة الجديدة، بما تحمله من توجهات نحو بناء الجمهورية الجديدة، تسعى لاحتواء المثقفين، وفتح باب المصالحة مع رموز الفكر، أياً كانت مواقفهم السابقة.
ردود الفعل الثقافية: تقديرٌ وتفاؤلٌ حذر
أثارت متابعة الرئيس لحالة صنع الله إبراهيم ارتياحًا في الوسط الثقافي، وكتب كثير من المثقفين عبر وسائل التواصل الاجتماعي معبرين عن تقديرهم لهذه الخطوة، وإعتراف بأهمية دور المثقف في بناء الدولة، ونشر المعرفة، ورفع الوعي.
المثقف الذي لا يموت
أزمة صنع الله إبراهيم الصحية، والاهتمام الرئاسي بها، تكشف عن لحظة فارقة في علاقة الدولة بالمثقف: لحظة ربما تكون بداية لتقدير أوسع وأعمق لدور الكلمة في تشكيل الوعي العام، وفي دعم مشروع الدولة الوطنية، إنها فرصة لإعادة النظر في سياسات الثقافة، وفي كيفية دعم المبدعين، لا بوصفهم أفرادًا، بل باعتبارهم ضمير الأمة وروحها الناقدة.
وفي كل الأحوال، يظل صنع الله إبراهيم حيًّا في وجدان القراء، لا برواياته فقط، بل بمواقفه التي ظلّت، حتى في شيخوخته، تذكّرنا بأن للمثقف دورًا يتجاوز الترف الفكري، ليكون شاهدًا على عصره، وناقدًا له.
و تنفيذًا لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسى، بمتابعة الحالة الصحية للأديب الكبير بشكل مستمر، وتقديم الدعم الكامل له، فقد زار الدكتور أحمد هنو وزير الثقافة، صباح اليوم، الكاتب والروائى الكبير صنع الله إبراهيم، بمستشفى معهد ناصر، للاطمئنان على حالته الصحية.
وتمنى الوزير خلال زيارته بسرعة الشفاء العاجل لـ صنع الله إبراهيم، حيث إن الوزارة لا تنسى أبناءها من الرموز الثقافية والأدبية، الذين قدموا للوطن الكثير وأسهموا في تشكيل الوعي الثقافي والمعرفي للمجتمع.
وجاءت هذه الزيارة تعبيرًا عن التقدير العميق للمكانة الأدبية والفكرية التي يحتلها صنع الله إبراهيم، باعتباره أحد أبرز رموز الأدب العربي المعاصر.