رثاء الشعراء العرب للشهيد محمد الدرة: تأملات في ذكراه
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
في 30 سبتمبر 2000، تعرض الطفل الفلسطيني محمد الدرة للقتل الجبان على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي.
وقعت هذه الحادثة في بداية القرن الجديد، خلال فترة الانتفاضة الأقصى، التي شهدت احتجاجات تمتد إلى مناطق واسعة من الأراضي الفلسطينية والقدس الشريف، عاصمتها.
وثق مصور الأخبار الفرنسي شارل إندرلان، العامل في قناة “فرنسا 2”، لحظة احتماء الطفل محمد، الذي يبلغ من العمر اثني عشر عامًا، ووالده جمال، خلف برميل إسمنتي، أثناء وقوعهما في منطقة تشهد تبادل إطلاق النار بين الجنود الإسرائيليين وقوات الأمن الفلسطينية.
تسببت وفاة الدرة في استنفار النفوس وجعلت دموع الحزن تسيل في الوطن العربي، وبسبب ذلك، أبدع العديد من الشعراء العرب قصائد ترثي "الدرة"، وتم تضمينه في دواوين شعراء العرب، ليبقى ذكراه حاضرًا ومخلدًا في قلوب الناس.
وكان من بين هولاء الشعراء:
الشاعر الفلسيطنى الكبير محمود درويش"محمد"
"يعشعش فى حضن والده طائرا خائفا/ من جحيم السماء، احمنى يا ربي/ من الطيران إلى فوق! إن جناحي/ صغير على الريح.. والضوء أسود.. محمـــد، يريد الرجوع الى البيت، من دون دراجة .. أو قميص جديد/ يريد الذهاب إلى المقعد المدرسي/ إلى دفتر الصرف والنحو، خذني/ الى بيتنا، يا أبي، كى أعد دروسي/ واكمل عمرى رويداً رويداً/ على شاطئ البحر، تحت النخيل/ ولا شيء أبعد، لا شيء أبعد.. محمـــد، يواجه جيشاً، بلا حجر أو شظايا/ كواكب، لم ينتبه للجدار ليكتب، حريتي/ لن تموت . فليست له بعد، حرية / ليدافع عنها/ ولا أفق لحمامة بابلو/ بيكاسو وما زال يولد، ما زال/ يولد فى اسم يحمله لعنة الاسم، كم مرة سوف يولد من نفسه ولدا/ ناقصا بلداً ناقصا موعدا للطفولة؟/ أين سيحلم لو جاءه الحلم/ والأرض جرح.. ومعبد؟.. محمـــد،/ يرى موته قادماً لا محالة، لكنه / يتذكر فهداً رآه على شاشة التلفزيون،/ فهدا قويا يحاصر ظبيا رضيعا/ وحين دنا منه شم الحليب/ فلم يفترسه/ كان الحليب يروض وحش الفلاة/ اذن، سوف أنجو - يقول الصبى - / ويبكي، فإن حياتى هناك مخبأة/ فى خزانة أمي، سأنجو .. وأشهد .. محمـــد، ملاك فقير على قاب قوسين من / بندقية صياده البارد الدم/ من ساعة ترصد الكاميرا حركات الصبي/ الذى يتوحد فى ظله/ وجهه، كالضحى، واضح/ قلبه، مثل تفاحة،/ واضح/ وأصابعه العشر، كالشمع واضحة/ والندى فوق سرواله واضح../ كان فى وسع صياده أن يفكر فى الأمر/ ثانية، ويقول : سأتركه/ ريثما يتهجى/ فلسطينية دون ما خطأ.../ سوف أتركه الآن رهن ضميري/ وأقتله، فى غد، عندما يتمردا.. محمـــد،يسوع صغير ينام ويحلم فى قلب أيقونة / صنعت من نحاس/ ومن غصن زيتونة/ ومن روح شعب تجدد/ .. محمـــد، دم راد عن حاجة الأنبياء/ الى ما يريدون، فاصفد/ الى سدرة المنتهى/ يا محمـــد".
الشاعر العراقى الكبير مظفر النواب"أنت المحال الذى لا يباع"
"أنت المحال الذى لا يُباعُ/
لمْ تكُنْ /تتقى /وابل المجرمينَ / بظهرٍ أبيك / ولكن ترص عزيمتهُ / لاختراق الرصاص / ورغم صُراخِك/ كم كان صوتُك عذباً / كأن جميع الطيور لقد ذُبحت، / وهى تشدو /وبين الرصاص / لمحتُ حذاءك / كان صغيراً.. / ولكنه / حتفهم لا مناص / وغطى دمُ الوطن العربى قميصك / كل الرصاص يوجه للوطن العربي! / وما زالَ لم يفهم الأغبياءُ / بأن الرصاص طريقُ الخلاص!! / محمدُ! / قد كشفت قمة العُهر / عن كل عوراتها / خطبُ الذل باعت دماءك! / كلا... / فأنت المحالُ الذى لا يُباعُ / وأنت الترابُ الذى لا يُباعُ / وأنت السماءُ / وأنت القصاص"
"أفضحهم"
"لا تقهر انتفاضتي/ وموقعي/ فى موقعي/ ولا أزاح/ جهنم الحمراء/ ملك قبضتي/ أوجّه الزمان/ مثلما توجّه السفائن , الرياح/ أقتلع المحتّل/ والمختّل بالتطبيع/ والذين مارسوا الخنا/ إن علنا/ او خفية/ او بين وبين!!!/ هذا حجرى يوشك بالصياح/ أفضحهم./ قد غسلوا وجههم ببولهم/ بولوا عليهم./ علّهم يصحون من غبائهم/ ولست مازحا/ ارادة الشعوب تكره المزاح/ قد أذّن الدم الزكى :/ أن " محمد الدرة " من يؤمكم/ فيا رجال !/ يا رجال !/ وحدوا الصفوف خلفه/ حى على السلاح/ جئت من التاريخ كلّه/ وجاء من فراغه العدّو/ شاهرا فراغه/ وعقمه./ شهرت بندقيتى الشّماء للكفاح/ لا تقهر انتفاضتي/ وموقعى أدوس أنف من يشك/ أنّ بندقيتي/ تلقح الزمان/ أشرف اللقاح"
الشاعر المصرى عبد العزيز جويدة"مُحمَّد الدُّرَّة"
"للقدسِ رائحةُ الترابِ/ إذا احترَقْ/ ولِكلِّ طِفلٍ ـ فى يديهِ حجارةٌ ـ/ حجَرٌ سيقذِفُهُ ../ وآخرُ/ من يدينِ صغيرتينِ/ سينزَلِقْ/ وقتَ انحِناءِ الطفلِ/ يلتقِطُ الحجرْ/ صوتُ الرَّصاصِ يفوحُ/ بالموتِ المُباغِتِ/ تخرُجُ الروحُ البريئةُ/ مثلَ ضوءٍ قد بَرَقْ/ يا معشَرَ الشُهداءِ/ لا تتوقفوا/ إنْ لم تموتوا ../ لن نعيشْ ../ حتى نرى وطنًا يلوحُ من الأُفُقْ؟/ هو ذا الصغيرُ/ الآنَ يُبلِغُكم جميعًا أنَّهُ/ فى الصُّبحِ لن يأتى لمدرستِهْ/ هو ذا الصغيرُ الآنَ يعتذِرُ/ هو لن يُصافحَكُمْ،/ ولن يجلسْ../ بمجلِسِكمْ/ ليسألَهُ مُدرِّسُهُ :/ فهمتَ الدرسْ ؟/ يجيبُ مُحمدُ الدُّرَّة : نعَمْ .. أُستاذْ/ وعندَ خُروجِهِ المُعتادِ للبيتِ/ يُفكِّرُ سائلاً نفسَهْ/ لماذا دونَ خلْقِ اللهِ/ لمْ نعرفْ لنا وطنًا/ ولا علَمًا/ وكلُّ هُوِيَّةٍ فينا/ يُدَوَّنُ فوقَها ../ "لاجئْ" / لماذا دونَ خلقِ اللهْ/ بيوتُ الناسِ عاليةٌ/ ونُدفَنُ نحنُ ../ فى ملجأْ ؟/ لماذا دونَ خلقِِ اللهِ/ لم تسكُنْ مدائنَنَا عصافيرٌ/ تُزقْزِقُ فوقَ شبَّاكى ؟/ وكلُّ نسائمٍ تأتي/ يُفتِّشُها الغُزاةُ الصُّفرُ/ قبلَ دخولِها أرضي/ فتختَبِئُ ../ تُخوِّفُها بنادقُهمْ/ تخافُ السُترَةَ الكاكي/ فيبتسِمُ الصِغارُ السُّمرُ فى ضَجَرٍ/ لصوتِ مُحمدِ الباكي/ ويفْتَرشونَ فى مَللٍ حقائبَهُمْ/ وفوقَ تُرابِ أرضِهُمُ/ يَمُدُّ مُحمدٌ يدَهُ/ ليأخذَ حِفنةً منها/ ويصرُخُ فى فضاءِ الكونِ : يا أرضي/ أنا لا شيءَ لولاكِ/ ويرسُمُ فى الفضا علمًا ويرفعُهُ/ "يُؤديهِ تحيتَهُ"/ ويفعلُ مثلَهُ الأطفالُ/ يبتَهِلونَ يا قُدسُ/ عيونُ اللهِ ترعاكِ/ فمُدّى لى يديكِ الآنَ/ يا قدسُ/ فواحدةٌ أُقبِّلُها ،/ وفى الأخرى/ ُكَفّنُ وجهَ قتلاكِ/ لأنَّ مُحمّدَ الدُّرَّة/ لهُ عينانِ يسكُنُ فيهما وطني/ لهُ شَفتانِ لونُهما بلونِ القدسْ/ ورأسٌ دائمًا مرفوعْ/ يُشابِهُ قُبَّةَ الأقصى/ إذا اهتَزَّتْ لِصوتِ مؤَذِّنٍ للفجرِ/ صدَّاحٍ/ تئنُّ حجارةُ الأقصى بكلِّ خُشوعْ/ هُنا المَسْرى/ هُنا "طهَ" تَعانَقَ نورُهُ الأبدى فى يومٍ/ بِنورِ "يسوعْ"/ قليلٌ كلُّ هذا الدّمِّ يا قدسُ/ ليبقى صوتُ قُرآنِكْ/ وقُدَّاسِكْ ../ هنا مسموعْ/ بَكتْ "مرْيَمْ"/ بَكتْ فى الليلِ نخلَتُها/ فهزَّتها ../ تساقطْ ../ وجهُ قتلانا/ وقالوا : قتْلُنا مشروعْ/ لأنَّ مُحمدَ الدّرّة/ تراءى لي/ وحدَّثَنى من الجنَّةْ/ ثيابٌ سُندُسٌ خُضرٌ/ ونهرُ دموعْ/ وقالَ : اللهُ واساهُ ،/ وطمأنَ قلبهُ المفجوعْ/ بأنَّ الأرضَ عائدةٌ/ وأنَّ المسجدَ الأقصى/ سندخلُهُ/ وخلفَ جدارِهِ نسمعْ/ فحيحًا .. /إنها الأفعى/ تئنُّ ورأسُها مقطوعْ/ أنا آتٍ إليكِ أيا فَلسطينُ/ وصدرى للرصاصِ الحى مفتوحٌ/ بغيرِ دُروعْ/ فإنْ مِتُّ .. / شهيدًا أفتدى قُدسي/ وإن عُدتُ ../ أعودُ ورأسُنا مرفوعْ/ يظلُّ محمدُ الدرة/ شُهودَ عِيانْ/ على زَمنٍ من التقتيلِ والتَّنكيلِ/ والطُّغيانْ/ سيبقى وَصْمَةَ العارِ/ التى حلَّتْ على العالمْ/ ولن تُمحى بأى زمانْ/ لأنَّ مُحمدَ الدُّرَّة/ هو الوطنُ/ هو القُدسُ/ هو الأرض/ هو العِرضُ/ فكيفَ لنا تركناهُ/ تجرَّعَ وحدَهُ الجُرحَ ،/ وهدَّتْ أمَّهُ الأحزانْ ؟/ يُطلُّ مُحمدُ الدُّرَّة/ بوجهٍ كالنبيينَ/ نوارى وجهَنا منهُ/ فأى هَوانْ !/ ويصرُخُ فى ضمائِرِنا ../ هُنا بُركانْ :/ أغيثونى أنا إنسانْ/ أغيثونى أنا إنسانْ/ سلاماتٍ سلاماتٍ/ إلى المفجوعَةِ الثَّكْلى/ تُقَبِّلُ أوجُهَ القَتلى/ لأنَّ القُدسَ غاليةٌ/ بذلنا روحَنا الأغلى/ بذلنا الذَّاتْ/ سلاماتٍ إلى أرضٍ ،/ إلى شعبٍ ../ يُقدِّمُ عُمرَهُ مَهرًا/ ليرفعَ رايةً حُرةْ/ سلاماتٍ لكلِّ حِجارةٍ سَقطتْ/ وكلِّ قذيفةٍ عَبرتْ/ لتفتحَ فى جِدارِ الليلِ/ نحوَ شموسِنا ثَغرَة/ ولن نهدأْ ،/ ولن نعبأْ ../ بتهديدٍ لنا ووعيدْ/ فأهلاً يا سنينَ الحنظلِ الآتي/ نعمْ أهلاً ../ بكلِّ حياتِنا المُرَّةْ/ فإنَّا لا نهابُ الموتَ بالمَرَّةْ/ فليسَ الموتُ فى العُمرِ ../سوى مَرَّةْ/ سنزرعُ أرضنا حَجَرًا/ نُحَرِّرُها/ وإنْ عادتْ فُلُولُ الشَّرِّ فى يومٍ/ نُعيدُ عليهِمُ الكَرَّة/ سنزرعُ أرضَنا شُهداءْ/ لتطرحَ دائِمًا وطنًا/ بِلونِ مُحَمَّدِ الدُّرَّةْ"
الشاعر الفلسطينى عبد الوهاب زاهدة"وصية محمد الدّرة"
"هو مشهدْ/ لمحمدْ/ كل يومٍ يتجدد/ كان زهره/ ساطعا يشبهُ درّه/ فى صرير الريحِ يهوي/ مثلَ قنديلٍ بمعبد/ يتمدد/ يتشّهد/ يسألُ الكونَ ليشهد/ أن هولاكو .. تنمرد/ خردقوهُ .. بالرصاص / مزّقوهُ .. لا مناص/ إنّه وقتُ الخلاص/ فتلوى .. وتلوى/ عجباً منهُ .. تروّى/ موصياً .. قولوا لماما/ أن بابا/ صدّ عنى بالضلوع/ والدموع/ قد تشبثتُ يا ماما/ أتحامى/ إنما كانّ هناك/ دراكولا وباراك/ قطّعوني/ ذبحوني/ حقدهم كالفحم أسود/ وأنا .. واللهُ نشهد/ وغفا من فوقِ أحضانِ أبيه/ والدما .. سيلٌ وأنهارٌ .. بفيه... المدى يعلنُ موتَه/ والصدى يُرجِعُ صوتَهْ/ أينَ أمي/ هى حبي/ ليتها اليومَ بقربي/ كى ترانى أتشهد/ أسألُ الكونَ ليشهد/ دراكولا قد تجدد"
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: محمد الدرة الاحتلال الاسرائيلي الأراضى الفلسطينية الجنود الإسرائيليين القدس الشريف الذى لا ی محمد الد
إقرأ أيضاً:
ونفس الشريف لها غايتان… كيف تناول الشعراء مفهوم التضحية في قصائدهم؟
تعرف التضحية بأنها التخلي عن شيء من حظوظ النفس، لكنها مفهوم واسع في الشعر العربي، فقد حَمَلت وحُمّلت أفكارا ووجهات نظر وعواطف مختلفة. فكيف تناول الشعراء معاني التضحية في ثنايا الشعر العربي عبر العصور؟
كيف تجلى مفهوم التضحية في الشعر الجاهلي؟ارتبطت التضحية في العصر الجاهلي بالشجاعة والبسالة والذود عن الأهل والعرض والقبيلة، ومن البدهي حقيقة أن ترتبط التضحية بالشجاعة وقوة النفس، فالتخلي عن النفس في سبيل الآخر، وذوبان الفرد في الكل؛ أمر يحتاج قوة نفسية عالية ووعيا جمعيا ضاغطا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة والخذلانlist 2 of 2التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثاليend of listوهذا الأمر كان حاضرا بقوة في تركيبة الفرد العربي في العصر الجاهلي عامة، إذ تظهر تضحيات المرء في كرمه النفسي وإقدامه ودفاعه عن قبيلته، ويستند ذلك إلى مروءته وفروسيته وجاهزيته للفداء بنفسه وماله وولده.
كما ارتبطت التضحية في الجاهلية بالقبيلة وإظهار الفروسية، وارتبطت بمعاني الكرامة والشرف، وكانت أحيانا في سبيل الحب والمحبوبة! فمن التضحية بالنفس في سبيل نيل الحرية والفوز بالحبيبة ما أبداه الشاعر الجاهلي الشهير بشجاعته وفروسته في الحروب والمعارك عنترة بن شداد حين قال:
أَنا في الحَربِ العَوانِ .. غَيرُ مَجهولِ المَكانِ
أَينَما نادى المُنادي .. في دُجى النَقعِ يَراني
وَحُسامي مَع قَناتي .. لِفِعالي شاهِدانِ
فهو الفارس الذي لا نظير له، إذا ما ناداه قومه على الرغم من ظلمهم إياه، يلبّي نداءهم ويهب معرضا نفسه للأهوال والمخاطر، لا سيما أنه وفقا للمتداول من حكايته سينال بذلك حريته وسيحظى بمحبوبته ابنة عمه عبلة. وفي قصيدة أخرى يقول:
وَإِذا قامَ سوقُ حَربِ العَوالي
وَتَلَظّى بِالمُرهِفاتِ الصِقالِ
كُنتُ دَلّالَها وَكانَ سِناني
تاجِرا يَشتَري النُفوسَ الغَوالي
قد تختلط معاني الشجاعة بمفهوم التضحية في أشعار الجاهليين، وقد يرى كثيرون أن المعاني التي قصد إليها عنترة أقرب إلى الفخر بالنفس وإظهار شجاعته وبسالته من إظهار تضحياته، على أن الشجاعة والتضحية بالنفس في الحروب والمعارك تحديدا وجهان لقلب واحد.
إعلانقد نتفق أن عنترة لم يكن معنيا بالدفاع عن قومه والتضحية من أجلهم بقدر رغبته بإظهار نفسه وقدراته وبسالته وإقدامه على بذل النفس في سبيل الحصول على حريته الفعلية، وحريته المعنوية النفسية، واكتساب الاعتراف أو انتزاعه من أفراد قبيلته ومجتمعه، غير أن شجاعته واستبساله في الحروب تعكس تضحيته بنفسه في سبيل تحقيق هدفه وبلوغ مآربه.
وكذلك كان الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد الذي عُرف بطيشه ولهوه وظلم قومه وأعمامه وإهمالهم له، لكنه سطر إحدى المعلقات الجاهلية الخالدة، وتحدث عن معاني التضحية والفداء، وقال واصفا نفسه حين يلبي نداء الكرامة وينبري مضحيا بالنفس:
إذا القومُ قالوا: من فتى؟ خِلتُ أنني
عُنيتُ فلم أكسلْ ولم أتبلَّدِ
ولستُ بزبّانِ الغواني ولا الذي
إذا ما اضطرَبَ القومُ اشتفَى وهو قاعدُ
ويطالعنا الحارث بن حلزة اليشكري وهو يتحدث في معلقته عن التضحية الجماعية والجهوزية التامة للحروب بدون خوف أو وجل أو تردد فيقول:
قومُنا لا يُقِرّون ضَيْمًا
وبهم تُعرفُ الحلومُ الزِّيادُ
وإذا الحربُ شبّتْ على وضَحِ النارِ
فشدُّوا الحيازِمَ الشّدادا
أما "السموأل" الشاعر الحكيم العربي العرق اليهودي الديانة، فقد سطر في الجاهلية قصة من روائع قصص التضحية والوفاء بالعهد للشاعر "امرئ القيس" حين ترك عنده في أمانته أهله وأدراعا ثمينة وانطلق ليطلب مساعدة الروم لينال ثأر أبيه، فاستغل أحد أعداء امرئ القيس من الأمراء آنذاك الفرصة وحاصر السموأل لينال من أمانة امرئ القيس، فقال السموأل قولته الشهيرة: "لا أخفر ذمتي وأخون أمانتي". فحاصر الأمير السموأل إلى أن ظفر بابنه عائدا من الصيد، فهدد السموأل بقتل ابنه إن لم يعطه أمانة امرئ القيس، فضحى السموأل بابنه ولم يتخل عن أمانته! وقال:
وفيتُ بأدرعِ الكنديِّ إني
إذا ما خان أقوامٌ وفيتُ
وهو القائل في قصيدة أخرى:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميلُ
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيلُ
تبدو حكاية السموأل هذه مشوقة لوضعها في ميزان القيم المجتمعية المهيمنة اليوم، ألم تكن التضحية بأمانة امرئ القيس؛ أقصد الأدرع الثمينة فحسب بدون دفع أهله إلى عدوه، ألم تكن واردة وممكنة بدون المساس بشرف العربي وشعور الأنفة والكرامة لديه؟ ألم تكن حياة ابن السموأل آنذاك أغلى وأثمن من أدرع امرئ القيس! هل كان امرؤ القيس سيفضل أدرعه الثمينة على حياة ابن السموأل لو كان الخيار له؟ من يدري!
أما زهير بن أبي سلمى فقد كان من أكثر الشعراء حكمة وحنكة كما تذكر كتب الأدب وتاريخه، وقد خلد في معلقته سيدين من قبيلتي عبس وذبيان ضحّيا بمالهما في سبيل إحلال السلم ورفع ويلات الحرب التي نهشت في ضلوع قبيلتيهما، ودقت عطر منشم بين قبيلتي عبس وذبيان وبطونهما سنين طويلة.
وقد خلد هذه التضحية الشاعر زهير بن أبي سلمى الذي ذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه معجبا به وبحكمته وأشعاره فقال: "لو أدركتُ زهيرا لولّيته القضاء". وحين قابل أحد أولاد زهير سأله: "ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟، فقال: قد أبلاها الدهر. فقال عمر: ولكن الحلل التي كساها أبوك هرما لم يبلها الدهر". يقصد بذلك قصيدة زهير التي قال فيها مادحا سيدي عبس وذبيان اللذين ضحيا بمالهما في سبيل حقن الدماء:
يَمينا لَنِعمَ السَيِّدانِ وُجِدتُما
عَلى كُلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ وَمُبرَمِ
تَدارَكتُما عَبسا وَذُبيانَ بَعدَما
تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشِمِ
وبالانتقال إلى صدر الإسلام والعصور اللاحقة نجد التضحية من أجل الدين والعقيدة والانتصار للحق حاضرة بقوة، فقد كان المرء في الجاهلية يضحي من أجل قبيلته وأهله وقيمه المجتمعية، أما في الإسلام فقد صار الدين والمعتقد أولى بالتضحية بكل شيء من أجله، كيف لا وقد أضاف الإسلام إلى قاموس حياة المسلم ومماته معنى الشهادة في سبيل الله، وحدثه عن أجر الشهيد ومكانته وما ينتظره في الآخرة من نعيم.
وبذا ارتبطت التضحية بالإيمان والجهاد في سبيل الله والسعي إلى نشر الرسالة والدعوة والتبليغ، وطغى البعد الديني على التصوير الشعري، ومن ذلك ما جاء في قصيدة حسان بن ثابت الهمزية التي يقول فيها:
عَدِمنا خَيلَنا إِن لَم تَرَوها
تُثيرُ النَقعَ مَوعِدُها كَداءُ
إذ يخاطب في القصيدة نفسها أبا سفيان ويرد عليه هجاءه للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعلن متحدثا باسم المسلمين جميعا استعدادهم لفداء الرسول عليه الصلاة والسلام بأنفسهم وأموالهم وأولادهم:
أَتَهجوهُ وَلَستَ لَهُ بِكُفءٍ
فَشَرُّكُما لِخَيرِكُما الفِداءُ
فَإِنَّ أَبي وَوالِدَهُ وَعِرضي
لِعِرضِ مُحَمَّدٍ مِنكُم وِقاءُ
ومثل ذلك ما جاء في قصيدة البردة للبوصيري إذ قال:
فداك نفسي وأهلي إن لي نسبا
بيني وبينك، إني لستُ أنكرهُ
يا أكرمَ الخلقِ ما لي من ألوذُ به
سواكَ عند حلولِ الحادثِ العممِ
وفي هذا السياق تختلط معاني التضحية والفداء، فهل هما من أصل واحد في حكم المعاني؟
إعلانالتضحية والفداء يتفقان في معنى بذل شيء مهم من أجل شيء أهم، وبذل الثمين في سبيل الأثمن، والتنازل عن النفيس من أجل الأنفس، حتى وإن كان الثمين هو الروح أو المال أو الولد!
ولعلهما يختلفان في نقطة السلب والإيجاب في الاستعمال اللغوي المتداول، فالفداء لا يُنظر إليه بسلبية غالبا، في حين قد تكون التضحية أحيانا في سياق الضعف والسلب وعدم الاستحقاق، لذا يمكننا القول إن كل فداء هو تضحية، لكن ليست كل تضحية فداء.
وفي العصر الأموي بقيت معاني التضحية حاضرة في الشعر العربي، لكن احتلّ الولاء إلى المبدأ العقدي والمذهب السياسي مساحة واسعة فيها، فالشاعر الشيعي المذهب الكميت بن زيد الأسدي يقول في إحدى قصائده ممجدا آل البيت، باذلا نفسه فداء لهم:
نَفسِي فِدًى لِقُريشٍ خَيرِ مَن وَلَدُوا
وأكرَمِ النَّاس أَحْلامًا إذا احْتَربُوا
واشتعلت في العصر العباسي صوامع الفلاسفة وأصحاب المنطق وعلم الكلام، فصارت التضحيات منوطة بالانتماء الفكري دفاعا عن حق الاعتقاد وفي سبيل حرية التعبير والعدالة الاجتماعية، وديوان الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري مليء بمثل هذه الإشارات، التي تجد فيها إيثارا للمعنى، وترجيحا للعقل على الهوى.
وقد عبر الشاعر العباسي مسلم بن الوليد عن التضحية بالنفس وربطها بكرم النفس وأقصى درجات الجود حين قال:
يجودُ بالنَّفسِ إذ ضنَّ البخيلُ بها
والجودُ بالنَّفسِ أقصى غايةِ الجودِ
ومن جميل الأساليب اللغوية اللطيفة في الشعر، التي تعبر عن التضحية من أجل المحبوب قولهم "نفسي فداك"، ومنه ما قاله شاعر الغزل الرقيق العباس بن الأحنف:
يا أَيُّها المَحمومُ نَفسي فِداك
هَل لي مِنَ الدُنيا سُرورٌ سِواك
قَد كانَ بي سُقمٌ فَقَد زادَني
سُقمُكَ سُقما وَبلايا دِراك
فَلَيتَني حُمِّلتُ ذاكَ الَّذي
تَلقى لِكَي أَجمَعَ هَذا وَذاك
إن ألوان التضحية وأشكالها في الشعر العربي أوسع من أن تحصى أو تحصر، فهي القيمة الأخلاقية والمجتمعية الباقية، وإن اختلفت تجلياتها عبر العصور، فأولويات المرء تختلف باختلاف الشخصيات والمجتمعات والمبادئ التي يستند إليها، لكن الثابت على مر العصور أنها من القيم التي تعكس صورة الإنسان الحق الذي لم يتخل عن هويته في هذا الكون.
ففي العصر الحديث مثلا تطالعنا إحدى قصائد أحمد شوقي الشهيرة التي تصور تضحيات الإنسان في سبيل حريته وحرية بلاده من كل أشكال الاستعمار؛ إذ يقول:
وللحريةِ الحمراءِ بابٌ
بكل يدٍ مضرجةٍ يُدقُّ
أما الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود فلم يكتف بالشعر فحسب، بل صدق القول بالفعل واستشهد في المواجهة، وسطر لنا قبل ذلك قصيدة بديعة يقول فيها:
سَأَحمِلُ روحي عَلى راحَتي
وَأَلقي بِها في مَهاوي الرَّدى
فَإِمّا حَياةٌ تَسُرُّ الصَديقَ
وَإِمّا مَماتٌ يَغيظُ العِدى
وَنَفسُ الشَريفِ لَها غايَتانِ
وُرودُ المَنايا وَنَيلُ المُنى
لَعَمرُكَ إِنّي أَرى مَصرَعي
وَلكِن أَغذُّ إِلَيهِ الخُطى
أَرى مَقتَلي دونَ حَقّي السَليب
وَدونَ بِلادي هُوَ المُبتَغى
وعلى الرغم من حجم الآلام والتضحيات التي عاينتها شعوبنا العربية والإسلامية في سبيل الوطن والحرية، وخاصة الشعب الفلسطيني، ذهب الشاعر محمود درويش إلى أنه "على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. على هذه الأرض سيدةُ الأرض، أم البدايات، أم النهايات.. كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين".