مشهد دولى عنصرى استعلائى عبثى يتخبط فى كل اتجاه، وتصوغه عقلية استعمارية لنخب الغرب الحاكمة، يروح ويجىء ليلوك الأكاذيب التى اصطنعها وصدقها، حق إسرائيل المشروع فى الدفاع عن النفس. وهو نفس السبب الذى أشهرت فيه الولايات المتحدة حق الفيتو فى مجلس الأمن ضد مشروع القرار البرازيلى بهدنة لوصول المساعدات الإنسانية لنحو 2,4 مليون فلسطينى فرضت عليهم إسرائيل حصارا بريا وجويا وبحريا منذ هجوم حماس عليها فى السابع من أكتوبر، وحرمتهم من الماء والغذاء والدواء والإيواء فى أماكن آمنة، وأما الفلسطينيون فلا حقوق لهم إلا التهجير القسرى من وطنهم والاستيلاء على أراضيهم أو الموت جوعا وعطشا وقتلا بصواريخ وطائرات أمريكية من أحدث الأسلحة وأكثرها فتكا بالبشر والحجر، كما يحدث الآن فى غزة التى يشكل اللاجئون من حرب 1948 نحو 80% من سكانها، كُتب على الفلسطينى اللجوء داخل أرضه واللجوء خارجها.
لم أكن أعرف أأبكى أم أضحك، ووزير الدفاع الأمريكى يتوسط ساسة وعسكريين فى إسرائيل ملوثة أيديهم بدماء الشعب الفلسطينى، ويطاردهم قضاء بلدهم لمحاكمتهم بتهم فساد وإخلال بالشرف، فيستخدمون السلطات التى فى حوزتهم لتعديل القوانين لأجل حماية فسادهم والبقاء فى السلطة ضد رغبة شعبهم، وهو يقول بثقة يحسد عليها، إنه جاء إلى إسرائيل دفاعا عن الديمقراطية، أى والله الديمقراطية، وطبعا حاملات الطائرات الأمريكية والبوراج البريطانية حطت على شواطئ البحر المتوسط جاءت معه لكى تحمى الديمقراطية الإسرائيلية!
أما الرئيس الأمريكى بايدن فقد تفوق على وزير خارجيته الذى تباهى بين يدى نتنياهو بأنه يهودى، حين أعلن أنه صهيونى، وأن إسرائيل لو لم تكن موجودة لتعين علينا أن نوجدها، كان منظرا مثيرا للسخرية وهو يحتضن نتنياهو والأخير يضع رأسه على كتفه كحمل وديع، بينما هو ينكل بالشعب الفلسطينى الأعزل فى غزة وفى الضفة الغربية، محطما بشكل صريح كل الاتفاقيات الدولية التى تحمى المواطنين تحت دولة الاحتلال، وتحرم العقاب الجماعى، كافأ بايدين نتنياهو بتبنى الرواية الإسرائيلية، التى تحمل الجانب الفلسطينى المسئولية عن قصف المستشفى المعمدانى على رؤوس جرحى ومرضى ومواطنين عزل لجأوا إليه تجنبا للقنابل الفسفورية والأسلحة المحرمة دوليا التى تهدم منازلهم وتتعقبهم فى الحافلات والشوارع والأماكن التى يرحلون إليها للاحتماء بها، صم آذانه عن طلب السلطة الوطنية الفلسطينية بتشكيل لجنة دولية محايدة للتحقيق فى الحادث، وتجاهل تضارب الروايات الإسرائيلية التى تؤكد السعى للتنصل من مسئولية الواقعة، بعدما أهاجت مشاعر الرأى العام الغربى عليها، وجلبت مزيدا من التعاطف مع الفلسطينيين، ورفعت من الأصوات الداعية فى أنحاء العالم لرفع الحصار عنهم، لم يفعل بايدن ذلك فقط، بل هو يلقى الدروس ويقول «إن العالم عليه أن يعرف أن إسرائيل، هى مرسى الأمن للبشرية»، لكنه كان يجب أن يكمل أنها مرسى الأمن للبشرية الغربية دون سواها!
بايدن يكذب ويعرف أنه يكذب، وأن مساندته غير المحدودة لإسرائيل، ومنحها 12 مليار دولار فى أسبوع واحد، وجلب حاملات طائراته للمنطقة، الهدف الأول والأخير له هو دعم حملته للانتخابات الرئاسية فى نوفمبر القادم، وقد بات من المعروف الدور المحورى الذى تلعبه اللجنة العامة الإسرائيلية - الأمريكية المعروفة باسم أيباك فى التحكم فى نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
فضيحة الدول الغربية بجلاجل وهى تنساق جميعها دون عقل، وتتخلى عن المواقف الأخلاقية المبدئية التى طالما تباهت بها، للسير خلف الموقف الأمريكى، بالانحياز المطلق لإسرائيل، فرنسا تقدم مساعدات استخباراتية لمجلس الحرب الإسرائيلى، وتسمح بالمظاهرات الداعمة لإسرائيل، وتمنع المناصرين لغزة وللشعب الفلسطينى، ولا تسألنى عن شعاراتها التى ترفعها عنوانا للحضارة الغربية عن الحرية والمساواة والإخاء، والمستشار الألمانى يقول إن أمن إسرائيل هو جزء من العقيدة الألمانية، دون مراعاة لمشاعر جاليات عربية وإسلامية كبيرة العدد تعيش وتعمل فى كلتا الدولتين.
وبينما نجح بايدن فى الضغط على إسرائيل لفتح الممرات لإدخال المساعدات الإنسانية، فشلت الضغوط الأمريكية والغربية لأخذ موافقة مصرية أو أردنية أو عربية، على تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، ونجحت حرب غزة فى إرجاع القضية الفلسطينية إلى جذورها الحقيقية كقضية تحرر وطنى من سلطة الاحتلال، بعد أن لعبت المراوغات الإسرائيلية، والدعم الأمريكى لبلطجتها فى المنطقة، دورا فى صرف الأنظار عن أنه لا تهدئة ولا سلام فى وجود الاحتلال وتحويل القضية الفلسطينية إلى قضية إنسانية، وها هى إسرائيل تسعى تحت رعاية هذا الدعم الدولى، لتنفيذ مخططها المستمر بالمجازر والتهجير والاستيطان، ونقض كل الاتفاقيات والعهود، لتهجير الشعب الفلسطينى والاستيلاء على كل الأراضى الفلسطينية.
هذا المخطط الصهيونى محكوم عليه بالفشل، ليس فقط لصمود الشعب الفلسطينى على أرضه وتضحياته الباسلة من أجل قضيته، بل إن الوقت قد حان كذلك لإنهاء الانقسام الفلسطينى إلى غير رجعة، الذى بدأته حماس بإقامة دولة لها فى غزة فى مواجهة السلطة الوطنية الفلسطينية فى الضفة الغربية، فضلا عن العمل المخلص لإعادة الحياة لمنظمة التحرير الفلسطينية كمتحدث وحيد بصوت الشعب الفلسطينى، تصوغ رؤية فلسطينية موحدة تستمد قوتها من اتفاق كل فصائل المقاومة الفلسطينية عليها، لتقود إلى تحرير الأراضى الفلسطينية من سلطة الاحتلال، اعتمادا على النفس أولا لكى تستعيد القضية مواقف القوى التحررية فى العالم ثانيا، وبمساندة موقف عربى موحد حول مبادرة السلام العربية التى تقبل بعلاقات عربية مع إسرائيل مقابل إنهاء الاحتلال فى الأراضى العربية، وإقامة الدولة الوطنية المستقلة على حدود يونيو 1967، عاصمتها القدس الشرقية، هذا إذا ما كان العرب يبحثون عن مصالحهم مع الأطراف الدولية التى تدعمها، بعدما أصبح القرار الدولى يفتقد للتوازن وللعدالة وحتى للقيم الأخلاقية.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: على فكرة الولايات المتحدة إسرائيل الفلسطينيون الشعب الفلسطینى
إقرأ أيضاً:
نصرة قوية
يتابع ملايين البشر حول العالم مشهد عودة أهالى غزة إلى بيوتهم المهدمة وأحيائهم التى تحولت إلى أطلال، بعد عامين من أبشع إبادة جماعية شهدها العصر الحديث.
عاد الغزيون وهم يرفعون رؤوسهم عاليًا، ليعلنوا للعالم أن البقاء فى الأرض هو أبلغ أشكال المقاومة، وأن أصحاب الحق يصمدون وينتصرون مهما توحش الاحتلال. هذه العودة ليست مجرد انتقال أهالى غزة نحو البيوت التى غادروها مجبرين، بل عودة الروح إلى جسد شرفاء الأمة العربية وكافة أحرار العالم، بعد عامين كاملين من النار والجوع والقتل والدمار.
نجلس أمام الشاشات ونتابع بحسرة شوارع غزة التى امتلأت بالأنقاض، ورغم ذلك تمشى النساء بخطوات ثابتة، والأطفال يبحثون عن ألعابهم تحت الركام، والرجال يتطلعون إلى وضع حجر فوق حجر لبناء بيوتهم المهدمة. كل مشهد نراه يصرخ بالحياة، ويقول بوضوح إن مخطط التهجير قد فشل، وأن الشعب الذى عانى مرارة اللجوء منذ النكبة الأولى، قرر هذه المرة أن يقف فى وجه الاقتلاع حتى النهاية.
لقد ظن الاحتلال أن القصف والتجويع ومنع الغذاء والدواء وقطع الماء والكهرباء سيكسر إرادة غزة، لكنه اصطدم بإيمان أعمق من الجوع، وبعزيمة أصلب من الحديد. حاول أن يقتلع أصحاب الأرض من جذورهم، فصارت الجذور أكثر تشبثاً بالتربة التى ارتوت بدماء الشهداء.
لقد أثبتت غزة بهذا النصر أن الاحتلال مهما امتلك من القوة والأسلحة والأموال والدعم الدولي، سيظل عاجزاً أمام شعب يؤمن بحقه فى الحياة. التاريخ نفسه يقول بوضوح إن أى احتلال لم يستمر إلى الأبد، وأن الشعوب لا تُهزم حين تتمسك بأرضها وهويتها ونضالها وذاكرتها.
قد يكون العالم قد خذل غزة بالصمت والتواطؤ، وقد تكون الأمم المتحدة فقدت قدرتها على الدفاع عن أبسط مبادئ العدالة، لكن الغزيين علَّموا الجميع أن الكرامة لا تُمنح بقرارات، بل تُنتزع بالصبر والإيمان. علَّمونا أن كل حجر يعود إلى مكانه فى بيت مهدم، هو إعلان تمرد على الموت، وكل نافذة تُفتح من جديد هى رسالة بأن الاحتلال إلى زوال مهما طال الزمن.
إن مشهد العودة اليوم لا يخص غزة وحدها، بل هو رمز لنهضة الوعى العربى والعالمى تجاه قضية حاولت قوى كثيرة دفنها فى صمت مقصود. هذه العودة ليست إلى البيوت فقط، بل إلى المعنى الأول لفلسطين، إلى الإيمان بأن الحق لا يموت ما دام وراءه مطالبون به، وأن الأرض تعرف أصحابها مهما حاول الغزاة تزييف التاريخ.
إن نهاية هذه الحرب الوحشية وفشل مخطط التهجير، يمثل «نصرة قوية» لا تُقاس بعدد الجيوش أو السلاح، بل بعدد القلوب التى ظلت تؤمن بحق الفلسطينيين فى أرضهم رغم الجوع والخذلان. لقد أثبتت لنا غزة أن الطغيان لا يدوم، وأن الشعوب التى تُقهر بالحديد والنار تعود لتصنع المعجزات.
مشهد غزة اليوم، وهى تعود إلى بيوتها، تكتب بدموعها ودمها واحدة من أعظم صفحات التاريخ، وتثبت لنا أن الأرض لا تخذل من يحبها، وأن النصر مهما تأخر، قادم لا محالة.
وفى الختام تبقى التحية الواجبة لمصر الخالدة أم الدنيا وقلب العروبة النابض التى حملت على عاتقها القضية الفلسطينية لأكثر من قرن من الزمان.. مليون سلام وتحية لشعب مصر وقائد مصر الذى أحبط كل المؤامرات ضد الأشقاء وتصدى بقوة لتصفية القضية الفلسطينية وانتصر لمصر والعرب وفلسطين..