قصة قصيرة : .. وحتى الصغار !!!

***
شارع الأسفلت ، طويل وعريض: على جانبيه، عمارات ذات أشكال هندسية حديثة، ترتوار. يتوسط شارع الأسفلت، مرصوف بعناية ومدهون.. كذلك بمتوالية اللونين، الأبيض والأسود.. وعلى طوله عمدان عليها لمبات نيون ملونة، وغير ملونة.
تحت ظل شجرة، على جانب شارع الأسفلت، وعلى الأرض التراب.

. جلسا: طفلان.. أمامهما، صندوقا ورنيش، ملصق على كل منهما، وباهتمام ملحوظ.. صورة مكبرة للشهيد "أحمد القرشي" أحدهما.. وهو الأكبر من أبناء الشمال، هزيل الجسد، حليق شعر الرأس، حافي القدمين، على الجسد النحيل، عرّاقي بلدي، استنزف منه الكثير من المال، حين اشتراه، أخرجها بسخاء عساه يحمي جسده من ويلات الطبيعة القاسية، ولكنه.. العرّاقي، فشل في مقاومة هذه الويلات، فقد تمزقت أطرافه، واختفى لونه الأبيض، داخل بقع الورنيش.. متعددة الألوان.. الآخر رفيقه في المهنة وهو الأصغر، من أبناء الجنوب: ما يعرفه عنه الآخرون، حسب ما رواه هو، عن نفسه.. إنه وأمه حين أشتد بهم الفقر والجوع و.. ضرب النار، هربا معاً، إلى أقرب مدينة، خارج حدود الجنوب. حين اشتد بهم الفقر أكثر، قررت أمه، أن ترسله إلى الخرطوم، أودعته يومها القطار، ووقفت بعيداً عنه، تحتضنه بعينيها، والدموع تحجب عنها حتى شبحه، فلا تراه كما ترغب، وحين بدأ القطار في إعلان تحركه، مطلقاً صافرته: تذكر لحظتها.. الفتى الصغير.. حضن أمه الدافئ.. والحنون، وهذا ما دفعه والقطار يتحرك، أن يحاول الارتماء، على هذا الحضن، ولكن الأرض الصلبة هي التي احتضنته، وكان دم.. وجرح غائر في جبهته.. لا يزال. ضمَّدته أمه، بحفنة تراب.. وبعض أعشاب، وأودعته بعدها، قطار اليوم الثاني.
الكبير.. ابن الشمال يحفر في صندوقه بعض كلمات. الصغير ابن الجنوب يسأله.. ماذا يكتب؟؟، الكبير ابن الشمال، يجيبه وهو منهمك في الحفر "دماء الطلبة فداء الشعب "، يبتسم الصغير، ابن الجنوب، فقد سمعها كثيراً هذه الأيام، بل ردَّدها "دماء الطلبة.."، كان ذلك، حين جاء أولئك الناس، وتجمعوا فجأة، من أين أتوا، هو لا يعرف، ولكنه يذكر، أنه تأبَّط صندوقه، ودخل وسطهم، وأخذ يردد معهم.. دماء الطلبة فداء الشعب... مد صندوقه إلى الكبير ابن الشمال، قائلاً.. أكتب عليه -عاش كفاح الشعب- فهي أيضاً، عبارات رددها كثيراً، الأيام الفائتة. الآخر.. يحتضن الصندوق، يتكيه على الجانب الآخر من المكان الملصقة عليه صورة (القرشي).. يبدأ في حفر كلمة واحدة، ولكنه أحس بالتعب، أصابعه الممسكة بقطعة الحديد المدببة، تؤلمه.. ينفخ عليها بفمه، يشعر بالألم يخف قليلاً، بطرف العرَّاقي يجفف العرق، من على وجهه، يلقي بنظره على طول الأسفلت أمامه، في نهايته: بناء شامخ، حوله عسكر، مدججون بالسلاح، يعيد النظر مرة أخرى، بالأمس، رمونا بالقنابل المسيلة للدموع، رشقناهم بالحجارة، حاصرونا بالأسلاك الشائكة، الناس لم تخف. أنا أيضاَ لم أخف، كنا نردد -الإضراب سلاح الشعب- أين يا ترى قرأت هذه العبارة؟.. أيوه.. تذكرت.. أخي، ورقات كانت له، كانت المدينة هادئة وصامته، وشمسها محرقة، جئت ساعتها من الخارج، هممت بخلع ملابسي، وكان أخي، هو وجماعته -كما تسميهم أمي- يجلسون في الغرفة الأمامية، حينما سمعت طرقات، على الباب. رميت، ما بيدي.. وعلى عجل، أسرعت لفتح الباب، وقبل أن أصله.. الباب ينفتح بعنف.. يندفع إلى الداخل أحدهم، يتبعه آخرون، ما حدث بعد ذلك، يصعب تذكره، قبضوا على أخي وجماعته -كما تسميهم أمي- أخذوا يفتشون المنزل: الأرض وحفروها.. كل شيء وبعثروه.. حتى (التُّكُل).لم يستثنوه.. أدخل أحدهم يده في "خمّارة العجين ".. أذكر يومها أن أمي حملتني إياها، لأسكبها في الشارع.. كل ذلك، ولم يجدوا ما جاءوا يبحثون عنه. رغم ذلك.. قذفوا بأخي، وجماعته -كما تسميهم أمي- داخل كومر الحكومة وذهبوا. بكيت يومها كثيراً، ولكن أمي لم تبكِ، بل أسكتتني بنهرة قوية، ومن خلال بقايا دموعي، رأيتها تحفر في جوف جدار مهجور لم تصله أيديهم، رأيتها تخرج عدة رزم من الأوراق المهترئة، صبّت عليها كمية كبيرة من الجاز، ثم أشعلت فيها النار. تركتها مشتعلة، وغادرت المكان.. يومها دفعني حب الاستطلاع، لكشف سر كل هذا الذي يجري أمامي، وأنا لا أفهمه.. فتسللت خلسة إلى حيث النيران المشتعلة، استطعت أن ألتقط إحدى الأوراق، التي أبعدها الهواء، عن السنة النيران، أزلت ما علق عليها من تراب ورماد.. رأيت عليها كتابة باهتة، التقطت عيناي بصعوبة عبارة لم أفهمها في حينها، تتحدث عن الإضراب السياسي، وحتى أمي لم تتركني أفهم أكثر.. كفاية أخوك الكبير.. هكذا تمتمت، وهي تمزق الورقة، التي كانت في يدي.. ولكني الآن بدأت أستوعب معناها. يرفع رأسه ينادي رفيقه الآخر. بعد أن تأكد له أن رفيقه أعطاه انتباهه، يهمس له: الناس كلهم أضربوا عن العمل.. ليه نحن ما نضرب عن العمل مثلهم. رفيقه الآخر لا يجيب.
بل تجذب انتباهه، وقع خطوات، والتي دائماً ما تعني له الكثير، الخطوات تتوقف أمامه، صاحبها يسأل.. عندك ورنيش أحمر؟.. كلمات رفيقه ترنّ في أذنه.. لماذا لا نضرب عن العمل مثلهم.. رد سريعاً على صاحب الخطوات.. عندنا، ولكن نحن أضربنا عن العمل، يتبادل ورفيقه، ضحكات انتصار مرحة.. حمل الكبير ابن الشمال صندوقه، وأراد التحرك. الآخر، الصغير.. ابن الجنوب يوقفه: أكمل لي كتابة الكلمات، التي بدأتها. يتوقف الكبير.. ابن الشمال، يأخذ منه الصندوق، يمر بنظره سريعاً، على الكلمات التي أكمل حفرها: "عاش كفاح..." بقيت كلمة واحدة يمسك بقطعة الحديد المدببة، قبل أن يشرع في حفر الكلمة الأخيرة، رفيقه يلكزه على كتفه.. سامع، مظاهرة.. أيوه.. سامع، أجرى نحصلها. يتأبّطان صندوقيهما، يجريان بسرعة وجهتهما الأصوات الهادرة، المتجهة صوب البناء الشامخ.. يجريان أسرع. الكبير ابن الشمال يجري وأفكار سريعة تجري داخله.. جلابية المدرسة، ما زالت في دولاب أمي، آخر مرة رآها.. الجلابية.. لم تكن جديدة ولكنها نظيفة.. غير بقع من الحبر.. يا لخبثه!!، لقد رشها بنفسه، يوم سمح له معلم اللغة العربية، باستعمال الحبر لأول مرة.. يا ربى حاجة مدينة تكون هي أيضاً، أضربت عن العمل. إنه اشتاق لطعميتها.. إلى القصر حتى النصر.. يردد مع الآخرين.صوت فرقعة قوية، إنها ليست أصوات القنابل المسيلة للدموع، التي اعتاد على سماعها، الأيام السابقة، لا.. إنها أصوات، رصاص.. والناس تتقدم. الرصاص لن يرهبنا.. ناس تقع على الأرض.. وناس تتقدم.... و... يلتفت بحثاً عن رفيقه.. ويراه: الجرح الغائر في جبهته، تضيئه أشعة الشمس الحارقة، وصندوقه ملقىً على الأرض: في جانبه حيث صورة الشهيد القرشي، يوجد دم.. وفي جانبه الآخر بقيت كلمة . لم تكتمل بعد ...

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: عن العمل

إقرأ أيضاً:

ضمن جهودها للتحقق من امتثال المنشآت بالأنظمة واللوائح.. “الصناعة” تنفذ 1,069 جولة رقابية على المواقع التعدينية خلال أكتوبر 2025

ضمن جهودها في التحقق من التزام المواقع التعدينية بنظام الاستثمار التعديني، كشفت وزارة الصناعة والثروة المعدنية، ممثلة في وكالة الإشراف على العمليات التعدينية، عن تنفيذ فرقها الرقابية 1,069 جولة رقابية على عددٍ من المواقع التعدينية في مختلف مناطق المملكة خلال شهر أكتوبر الماضي.
وأوضح المتحدث الرسمي للوزارة جراح بن محمد الجراح أنَّ الجولات الرقابية تهدف لتوجيه إنذارات عند رصد أي مخالفات، تطبيقًا لمبدأ الإنذار قبل إقرار العقوبة، فضلا عن توقيع العقوبات المقررة، مبينًا أن الجولات المُنفَّذة خلال شهر أكتوبر الماضي شملت (276) جولة في منطقة الرياض، و(163) جولة في منطقة مكة المكرمة، و(160) جولة في منطقة المدينة المنورة، و(151) جولة في المواقع التعدينية في المنطقة الشرقية، و(85) جولة في منطقة عسير، و(78) جولة في منطقة نجران، و(47) جولة في منطقة القصيم، و(29) جولة في منطقة حائل، و(26) جولة في منطقة الجوف، و(19) جولة في منطقة الباحة، و(18) جولة في منطقة جازان، إضافة إلى (17) جولة في منطقة تبوك.
وأكَّد الجراح عزم الوزارة على مواصلة تنفيذ جولاتها الرقابية ومتابعة الأنشطة التعدينية، وضمان حماية القطاع من الممارسات غير النظامية، والمحافظة على الثروات المعدنية لتحقيق الاستغلال الأمثل لها، إضافة إلى حماية المجتمعات المجاورة لمناطق التعدين وفقًا للوائح نظام الاستثمار التعديني.
وتهدف الوزارة إلى تعظيم القيمة المحققة من الموارد المعدنية في المملكة، وزيادة جاذبية قطاع التعدين ليكون الركيزة الثالثة للصناعة الوطنية وفق مستهدفات رؤية المملكة 2030، إضافة إلى إسهام القطاع في تنويع مصادر الدخل الوطني وتنمية الإيرادات غير النفطية. وتقدر قيمة الثروات المعدنية في المملكة بنحو (9.3) تريليون ريال، تنتشر في أكثر من (5.300) موقع.

مقالات مشابهة

  • مشعل: وجه “إسرائيل” القبيح كُشف أمام العالم بعد السابع من أكتوبر
  • جنوب الباطنة تعلن قرب طرح مناقصة طريق قرية وكان في نخل
  • إبراهيم فايق يكشف كواليس اشتباك لاعب منتخب مصر مع الجماهير أثناء مواجهة الأردن بكأس العرب
  • انهيار منزل بالطوب اللبن دون إصابات في قرية القصر بنجع حمادي شرق النيل
  • “حماس”: استشهاد الأسير السباتين دليل على سياسة القتل البطيء التي ينتهجها العدو الاسرائيلي بحق الأسرى
  • الجانى نجل شقيقتها.. أمن الدقهلية يكشف تفاصيل اختفاء سيدة لمدة 3 أيام
  • ضمن جهودها للتحقق من امتثال المنشآت بالأنظمة واللوائح.. “الصناعة” تنفذ 1,069 جولة رقابية على المواقع التعدينية خلال أكتوبر 2025
  • أور رد من إدارة الزمالك على تصريحات وزير الإسكان بشأن أرض أكتوبر
  • الملاكم يزن الحويج يتخطى بطل جنوب إفريقيا سينيزيلوى بالنقاط 4-1 في ‏الدور 32‏‎ ‎
  • حاتم صلاح يروي أسباب اختياره قصر محمد علي لإقامة حفل زفافه فيه