سودانايل:
2025-10-29@21:05:06 GMT

الرقابة على الحاكم بين الأمس واليوم

تاريخ النشر: 13th, January 2024 GMT

بسم الله الرحمن الرحيم

سرف المداد

د. الطيب النقر

قد عانت الأمة في غيابها العسف وسامها الطواغيت الخسف، فدين الله الخاتم الذي لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، قد أزاح ذلك الركام الثقيل من الظلم والاستبداد، وكفل للرعية التي تمقت الجور والشطط أن تبسط رأيها في الحاكم دون أن تخشى المهالك والحتوف، ولعلنا لا نُنكر أو نرتاب في أمر تلك الطائفة التي كانت ندية الصوت، حافلة الخاطر، دامغة الحجة، في صدر الإسلام فقد كانت تتدفق تدفق السيل الهادر إلى سهول الحاكم لتهدي إليه دواوين من العبارات الجزلة، وباقات من البيان المشرق، وآكام من الحجج المُفحِمة، نعم لقد كانت تلك الأمة في أزهى عصورها نابية عن الضعف، أبيَّة على السكون، بما أوجب الله عليها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ يقول الله عزّ وجلّ في مُحكم تنزيله:«ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون» آل عمران:104.

ويقول المولى جلّ شأنه أيضاً في كتابه المُحكم السبك، الدقيق المعاني، المنسجم التراكيب، الناصع الأسلوب، «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله» آل عمران:110. والنبي المرسل عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم الذي جدّد ما رثّ من حبل القيم، وجمع ما شتّ من شمل العرب، أمرنا بمراقبة الحاكم ورده إلى الصواب كلما أخطأ، وتقويمه كلما أعوج حينما قال:«لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم ببعض» رواه أبوداود والترمذي، ويقول خير من سار على الثرى أيضاً: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» رواه الترمذي والنسائي، أما حديثه صلى الله عليه وسلم الذي وعته العقول، وحوته الحفائظ والصدور، والذي يأمرنا فيه بدفع الباطل باليد، واستهجان الضلال باللسان أو حتى بالقلب، فلا أوخم مرعى، ولا أزيد في الشناءة من أن نظل موسومين بالعجز، موصومين بالفشل عن تطبيقه، على ضوء ذلك ليس من المغالاة أن نزعم أن التعاون بالهدي، والتعاضد بالنصيحة، فريضة على كل مسلم مكلف، يقوم المجتمع بقيامها، ويزول بزوالها، وفي هذا الصدد يقول الدكتور فتحي عبدالكريم صاحب كتاب »الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي: «ما هلكت أمة يتواصى أبناؤها بالحق، ويتناهون عن الباطل، ولكن دالت دول كما جاء في الكتاب الكريم لأنهم «كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون» المائدة:52. والناس جميعاً في خسر «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر» العصر:3. اذن هذا الدين السامي الذي يشرق بنور العقل، وينبض بروح العدل، لم يدع الرعية تقاسي معرة الظلم، وتكابد مذلة الحرمان، دون أن تفصح عن دخيلة نفسها، بل حفزها أن تصاول برأيها دون غلو أو مبالغة، وليس شرطاً أن يكون هذا المجاهر برأيه من قبيلة الرجال الذين صقلهم العلم، وهذبتهم المعرفة، فقد ثبت أن الخليفة العادل عمر رضي الله عنه قد اعتلى المنبر وخاف ألا يرده الناس لهيبته فقال فيما معناه: «أيها الناس ماذا تصنعون إذا ملت بعنقي عن الحق هكذا» فقام إليه رجل من عامة الناس ملوحاً بيده وهو يقول: «اذن نقول بالسيف هكذا» فاطمأنت نفس من يجول في غُرته ماء الكرم، ويفوح من شمائلة عُرف المروءة، وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف» لله درّهم من رجال ولكن دعني أسالك أيها الأغرّ الأكرم هل يمكن أن يتحفنا زماننا هذا بخليفة عادل مثل الفاروق؟ وأن يكون من بين الرعية أسد هصور يجابه من لا يصعر خده، ولا يلوي عذاره؟ هيهات.. إليك رائعة أخرى تفغر فاهك من الدهشة حدث أن حبس معاوية بن سفيان رضي الله عنهما كما يخبرنا حجة الإسلام الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» العطاء عن الناس ذات مرة فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال له: يا معاوية.. إنه ليس من كدك ولا كد أبيك ولا كد أمك، فغضب معاوية ونزل عن المنبر وقال: مكانكم، ثم غاب عنهم ساعة ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال: ان أبا مسلم كلمني كلاماً أغضبني، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الغضب من الشيطان، والشيطان خُلِق من نار، وانما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليغتسل». وإني دخلت فاغتسلت، وصدق أبو مسلم..انه ليس من كدي ولا من كد أبي ولا من كد أمي فهلموا إلى عطائكم، ليت شعري من أي طينة صالحة برأ الله هذا النفر؟ ولماذا لم يتأتَّ لنا أن نكون على شاكلتهم؟ حب الدنيا الجارف وكراهية الموت هي العقبة الكؤود التي تحول أن نكون مثل هؤلاء الأفذاذ، دعني أفجؤك بقصة أخرى سيدي الفاضل بطلها تابعي نلتمس في كلامه ضوالُ الحكمة، وفي تعابيره مفاصل الصواب، انه سفيان الثوري رحمه الله فقد أُدخِل على الطاغية المستبد أبو جعفر المنصور فخاطبه من يأخذ الناس بالظنة قائلاً في صغار: أرفع إلينا حاجتك، فقال التقي النقي، اتقِ الله فقد ملأت الأرض ظلماً وجورًا، فطأطأ أبو جعفر رأسه، ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقال الثوري انما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار وأبناؤهم يموتون جوعاً فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم، أي شجاعة هذه، وأي جسارة تلك، أحلف غير حانث من صيغ فؤاده من جلاميد الجبال في عصرنا القميء هذا لا يجرؤ أن يخاطب طاغية من طواغيت هذا العصر بمثل هذا الإقدام، ماذا صنع المنصور هل أمر بالنطع والسيف؟ لا بل قال مثل قوله السابق: ارفع إلينا حاجتك، فقال الثوري أنزل الله على رمسه شآبيب رحمته: حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لخازنه كم أنفقت؟ فقال بضعة عشر درهمًا، وأرى ههنا أموالاً لا تطيق الجمال حملها، ثم خرج، ولعل هذه الأمثلة والشواهد التي أوردتها من الصعوبة بمكان أن نحصي أخريات على شاكلتها، كما لا سبيل لإحصائها واستقصائها في هذه العجالة، ولكنها تبرهن بجلاء عن حق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته على كيفية ادارته لدفة الحكم، هل أسبغ على رعيته جلابيب النُعماء؟ أم اصطفى نفسه وشيعته بشمول اللألاء؟.

إن الحقيقة التي لا يرقأ إليها شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن الرقابة في عهد الخلافة الراشدة لم تكن فيها معاظلة أو التواء، كما هو الحال الآن بل كانت حقًا مكفولاً للجميع، فمن وقت لآخر نبصر مشدوهين بعض الصحابة الميامين ينتقدون في رابعة النهار السلوك الذي يند من الخليفة كما حدث بين سلمان الفارسي وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في أمر الثياب، هذه الشواهد تجعلنا نشعر بوطأة خزي عجيب أيها السادة، فمجالسنا النيابية والوطنية التي اُنتخبت من قبل هذه الشعوب التي خلت حياتها من قلوب تحنو عليها، يتعالى صهيلها مطالبة «بحقوقها» المهدرة، كما نراها دائمة الوفاق مع السلطة التنفيذية التي لا يعتريها يأس، أو يخامرها قنوط، في تمرير ما توده من سياسات، فجل هذه المجالس تؤدي دون كلل أو ملال نفس الدور الذي تؤديه تلك المجموعات الجميلة التي تقف في شموخ ورفعة خلف مغنٍ فشا ذكره على الألسنة، وقرع صيته الأسماع، تجتر ما يقوله في نشوة، وتدمي أكفها في طرب بالغ
د. الطيب النقر

nagar_88@yahoo.com
/////////////////////  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: عن المنکر الله علیه رضی الله

إقرأ أيضاً:

انشرْ تُؤجرْ.. رسائل دينيّة أم تضليليّة!

مع نهاية كل أسبوع، وخصوصًا يوم الجمعة، حيث يقترن هذا اليوم العظيم برسالة دينية تأتينا من هنا وهناك، من الأصدقاء أو الخلّان، وقد ذُيلت في نهايتها بعبارة "انشر تؤجر" .... وقد تكون رسالة تعرض حديثًا نبويًا شريفًا، أو آيةً قرآنيةً كريمةً، يزعمون فيها أنّ هناك إعجازا من نوع ما، سواء كان الإعجاز عدديا أم غيره ... 
والكل تأخذه العاطفة ويسارع في عمل الخيرات، فالحسنات يذهبن السيئات، ويا له من أجر هيّن، وجهد بيّن، فما عليك إلا تحويل الرسالة لعشرات الأشخاص، إنْ لم يكن الآلاف إذا أدرجتها على صفحتك الشخصية على الفيس بوك أو تويتر أو كلتيهما؛ طمعا في الحصول على أعلى أجر من الحسنات، ووصولا لأكبر عدد من الشخصيات، ويستمر الإرسال وينتشر كأنه النار في الهشيم. 
لكن هل فكرتَ في ذلك قبل نشره، وهل تأكدت من صحته؟ بل هل قمت بقراءته قراءة واعية.
كلنا يعرف أنّ القرآن الكريم معجز بلفظه ومعناه، وبكل حرف فيه، فهو كتاب الله الخالد، الذي تكفل الله - سبحانه وتعالى - بحفظه من التبديل والتغيير، حيث قال تعالى:" إنَّا نحنُ نزلّنا الذّكر َوإنا له لحافظون"(سورة الحجر- 9). 
كما نعرف أن كلام رسولنا العظيم – صلى الله عليه وسلم -وحي من السماء إذ قال تعالى: "وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى" سورة النجم- 3). 
وعندما يتحدث بعض العلماء عن الإعجاز العددي في القرآن وهو أسلوب جديد في كتاب الله، فإنّ الهدف منه زيادة إيمان المؤمن وتثبيته.
لكن عندما تتبعت بعضًا من تلك الرسائل، لاحظت أنّ هناك أمرًا يُدبر، يجب أنْ ننتبه له، حيث يقوم بعضهم بطرح موضوعات مزيفة، حول القرآن الكريم أو السنة النبوية، ويعملون على نشرها على أوسع نطاق؛ وذلك بهدف التأثير على قطاع كبير من الجماهير، بدعوى أنه وجه من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم أو السُنة النبوية، ومن ثَمّ يصدقها الناس ويعملون على نشرها بشتى الطرق، كأنهم قاموا بعمل جليل عظيم.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل تأكدنا بأنفسنا من صحة ذلك، وهل لدينا مصدر موّثق؟ 
إنّ مواقع التواصل الاجتماعي لا تعدُّ مصادر مؤكدة، وخصوصا لمثل هذه القضايا المهمة التي تتعلق بالدِّين. فالذين يطلقون هذه القضايا هدفهم خبيث، فهم يريدون الطعن في القرآن الكريم، وتشكيك الناس فيه.
فنجدهم تارة يشيعون أنّ هناك إعجازًا في تكرار كلمة "شهر "اثنتا عشرة مرة في القرآن الكريم، وهو عدد شهور السنة.. وتارة أخرى نجدهم يشككون في صحة ذلك، ويقولون ما هذا إلا كذب وافتراء (وهم صادقون هذه المرة)، فكلمة شهر لا تتكرر اثنتا عشرة مرة في القرآن كما زعموا وأشاعوا في المرة الأولى، وقام الناس بتصديقهم، بل نشروا ذلك وانتشر كالنار في الهشيم. فماذا يحدث عندئذٍ؟ يحدث الشك وعدم اليقين والطعن في كتاب الله وسُنة رسوله العظيم. ومن هنا تكون البداية...بداية التشكيك في القرآن وصحته، فبعدما ينشرون خططهم الخبيثة التي يصدقها البعض، ويسير في رحابها بقصد أو دون قصد، يأتون ليشككوا فيها ويثبتوا كذبها وافتراءها، فيدخل الوهن والشك في قلوب بعض الناس وخصوصا الشباب، الذي لا يقرأ ولا يحاول أنْ يتأكد من صحة ما يعرض أمامه على مواقع التواصل الاجتماعي.
إنّ كثيرًا من الأمور والقضايا وخصوصا التي تتعلق بالدين، نجدها شاعت وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وهي في معظمها غير صحيحة ونجد في نهايتها عبارة "انشر تؤجر "
فأي شيء ننشره! وأي أجر نأخذه!!!
فالهدف من ذلك كله هو إحداث الخلط والاضطراب بين الصحيح وغير الصحيح، بل وإشاعة ونشر غير الصحيح بين الناس، فيتوهم الناس صحته، ويخطِّئون الصحيح، في وقت لم يعد الناس يقرؤون ولا يحاولون البحث عن صحة ذلك من عدمه، ومع ذلك فهم مسؤولون ومحاسبون لأنهم مقصرون.
إننا مستهدفون في عقيدتنا كما في أوطاننا، وللأسف بَعضُنَا صار وسائل فاعلة ضدنا على مواقع التواصل الاجتماعي في هذه الحرب الشرسة، فأحيانا نجد صورًا ومقاطع فيديو لا تليق بنا ولا بعاداتنا ولا بأسس عقيدتنا، فلا داعي لنشرها، فضررها كبير على الفرد والأسرة، وبالتالي على المجتمع بأسره. 
إني أدعو الجميع دعوة صادقة من صميم القلب، إلى عدم نشر معلومات تتعلق بالدِّين أو الوطن أيا كانت تلك المعلومات، قبل التأكد من صحتها بطرق مؤكدة موثقة، فما تظنه يخدم القضية قد يضرها ويدمرها، وأنت تكون السبب في ذلك دون قصد منك.

مقالات مشابهة

  • غثاء كغثاء السيل
  • علي جمعة: الحياة دار الابتلاء وتداول للأيام بين الناس
  • إقامة صلاة الإستسقاء يوم 1 نوفمبر
  • الدعاء المعجزة.. مجرب وفعال ردده وسترى العجب في حياتك
  • رجال الله أيقونة البذل التي ما غابت عن سماء العِزة
  • هل تعلم أسماء أبواب النار التي أعدت للكافرين؟
  • انشرْ تُؤجرْ.. رسائل دينيّة أم تضليليّة!
  • "جهاز الرقابة".. سيف على رقاب الفساد
  • مفتي الجمهورية: بناء المستقبل لا يكون إلا بسواعد الشباب الواعي الذي يتمسك بدينه
  • إذا كنت ترغب في العفو من جهنم إليك هذا الدعاء