أربع حلقات فقط، لا يتجاوز زمن إذاعتها ساعتين، ولكنها كانت كفيلة بإلقاء حجر ضخم في مياه راكدة منذ سنوات، تفاعل معها ملايين المشاهدين، اهتز وجدانهم مع كل نظرة عين "زائغة"، أو حركة جسد "مرتبكة" للممثل الشاب ذي الوجه الطفولي طه دسوقي، الذي استطاع في أول بطولة له بمسلسل "حالة خاصة"، أن يكتب لنفسه سطرًا مضيئًا في كتاب الدراما المصرية، نال إشادة "الاتحاد الرياضي المصري للإعاقات الذهنية".

طه دسوقي في شخصية "نديم أبو سريع" حالة خاصة شديدة التميز، مريض "التوحد"، الذي يعيش وحيدًا، يسكِت ضجيج العالم بموسيقى "هاني شنودة"، يحلم بأن يصبح محاميًا شهيرًا "مفوّهًـا" وهو الذي يتلعثم في كثير من الأحيان، لكنه يصرّ على التدريب والتعلم، بلا كلل، ويتفاعل مع الأجواء المحيطة على طريقته الخاصة، ليثبت للجميع أن مريض "التوحد" يمكنه أيضًا أن يجبر الظروف على "التوحد" معه، فيطوّعها لصالحه، بمنتهى البساطة، مهما بلغت تعقيدات الأصحاء!

وبعد قرن كامل من كشف العالم النمسوي "ثيودور هيللر" لـ"أول حالة إصابة بالتوحد"، جاء إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 2007، باعتبار يوم 2 أبريل، يومًا عالميًّا للتوعية بمرض التوحد، ودمج حالاته في المجتمع، وفي نفس العام، طرحت السينما المصرية فيلم "التوربيني"، كمعالجة للفيلم الأمريكي "رجل المطر" الذي جسد فيه النجم داستن هوفمان شخصية مريض التوحد، وجسّدها في النسخة المصرية الفنان أحمد رزق، مع الفارق، ثم جاءت التجربة الثانية، في 2021، بمسلسل "إلا أنا" للممثلة الشابة مايان السيد، لتأتي "التالتة تابتة"، مع مسلسل "حالة خاصة".

وبعيدًا عن "التوحد" الذي يصنفه الأطباء كـ"اضطراب عصبي"، كان للفن المصري منذ زمن الأبيض، والأسود، عشرات المحاولات لـ"دمج ذوي الهمم"، في السياقات الدرامية للأحداث، سواء في السينما، أو التليفزيون، منها ما كان "بطولات نضالية مطلقة"، كانت بمثابة "صرخات حقيقية معبرة"، ومنها ما جاء في "أدوار ثانوية هامشية"، وقع بعضها في فخ "التنمر"، و"المظلومية"، والابتزاز العاطفي، واستدرار عطف المشاهدين.

بالنسبة لمريض "التأخر العقلي"، على وجه الخصوص، تعمّدت الدراما أن تصدّر عنه صورة ذهنية كـ"بركة" للمحيطين، كونه "بتاع ربنا"، أو "نمط شخصية" مسلوب العقل، يسخر منه الأطفال، أو "عبيط القرية"، مثلما فعل محمد توفيق في فيلم "حسن ونعيمة"، أما المخرج العبقري يوسف شاهين فقرر تجسيد شخصية "قناوي" بنفسه في فيلمه الأشهر "باب الحديد"، بينما استعان النجم محمد رمضان بـ"شخصيات مساعدة له"، مثل أحمد بجة في دور "ميخا" بفيلم "عبده موتة"، وحمزة العيلي في دور "مسكّر" بمسلسله "ابن حلال"، واستغلها هاني رمزي كـ"مادة للضحك" في فيلميه "غبي منه فيه"، و"توم وجيمي"، بينما عبر كبار نجوم السينما بصدق عن قهر المعاقين ذهنيًّا، مثل فاروق الفيشاوي، في فيلم "ديك البرابر"، ونبيلة عبيد في "توت توت"، وإلهام شاهين في "خالي من الكوليسترول"، ويونس شلبي في "الفرن"، ويحيى الفخراني في "مبروك وبلبل"، ومحمود عبد العزيز في "وكالة البلح"، وخالد صالح في "الحرامي والعبيط"، وفي مطلع الألفية تألقت حنان ترك في مسلسل "سارة"، وعلى خشبة المسرح أبدع محمد صبحي في "انتهى الدرس يا غبي"، وإسعاد يونس في "عروسة تجنن".

وتم توظيف "فقدان البصر"، العمى، في السينما المصرية منذ أربعينيات القرن الماضي، من خلال أفلام "ليلى في الظلام" للراحلة ليلى مراد، و"اليتيمتين" لسيدة الشاشة فاتن حمامة، و"العمياء" لسميرة أحمد، و"الشموع السوداء" للمايسترو صالح سليم، وتوالت الأعمال، أشهرها "أمير الظلام" للزعيم عادل إمام، وفيلم "قاهر الظلام" لمحمود يس عن قصة حياة عميد الأدب العربي طه حسين، نفس ملهم مسلسل "الأيام" للعبقري الراحل أحمد زكي، بينما وظّف أحمد آدم "العمى" بشكل ساخر، في فيلمه "صباحو كدب".

وكان فقدان النطق، أو "الخرس"، إعاقة ملهمة لصناع السينما واستطاع عدد من الفنانين تجسيدها ببراعة، في مقدمتهم نور الشريف في "الصرخة"، ومحمود ياسين في "الأخرس"، وسميرة أحمد في "الخرساء"، وكانت شخصية "بهانة" البكماء، التي جسدتها نعيمة وصفي، مفتاح لغز الجريمة في "رصيف نمرة خمسة"، بينما تجلت عبقرية الراحل عادل أدهم، في دور القاتل "الأبكم الأصم"، في فيلم "المجهول".

وإذا اعتبرنا "عيوب النطق والكلام"، من "الإعاقات"، فقد وظفها عبقري الدراما أسامة أنور عكاشة ببراعة، في شخصية "الدكتور هاني" التي جسدها الراحل إبراهيم يسري في مسلسل "الشهد والدموع"، بينما ضرب الممثل الكوميدي طاهر أبو ليلة، رقمًا قياسيًا في استخدام "عيوبه" كـ"إفيهات" لإضحاك الجمهور في عشرات الأفلام، منها "ثانية واحدة"، "عشان خارجين"، "جحيم في الهند"، "كلب بلدي"، وغيرها، أما "المعاقون الحقيقيون"، فقد اتجهت الدراما لـ"دمجهم" في عدد من الأعمال، آخرها الطفل كريم لؤي بمسلسل "وش وضهر"، ومعظم أبطال مسلسل "القضية 404"، إنتاج مبادرة "عالم موازٍ للفنون المعاصرة"، أما الحالة الأشهر فكانت للفنان المعاق ذهنيًّا "هشام مشهور" الذي حصد إعجاب الجمهور بإيفيه "وزة بيضا حلوة" في فيلم "الساحر"، للمخرج الراحل رضوان الكاشف.

واستخدم المخرج الكبير داوود عبد السيد، اثنين من أشهر الشخصيات الاستثنائية لـ"ذوي الهمم"، كـ"ركن أساسي للدراما"، وليست مادة دخيلة للتعاطف أو التنمر، فمن ينسى الشيخ حسني الكفيف في "الكيت كات"، للعبقري الراحل محمود عبد العزيز، و"الدكتور يحيى" المضطرب عصبيًّا، الذي جسده النجم آسر ياسين، في فيلمه "رسايل البحر"، ذلك الأخير الذي أقنع الجمهور أنه "مضطرب عقليًّا" بمسلسل "في كل أسبوع يوم جمعة".

وبعد أن كان "كرسي الإعاقة الحركية" مشهدًا "مؤثرًا مؤلمًا" في الدراما، قرر صناع مسلسل "عيشها بفرحة" تسليط الضوء على الجانب الإيجابي في مساحة درامية لائقة، ورئيسية، لأول مرة، مع شخصية البطلة "يسر" التي جسدتها هبة مجدي، ونالت إشادات واسعة.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: التوحد حالة خاصة طه دسوقي فی فیلم

إقرأ أيضاً:

صلاح أبو سيف في ذكراه.. رائد الواقعية الذي نقل المرأة والشارع إلى شاشة السينما

في ذكرى رحيل المخرج الكبير صلاح أبو سيف، نستعيد سيرة أحد أعمدة السينما المصرية، الذي لم يكن مجرد صانع أفلام، بل كان مرآةً تعكس واقع المجتمع بمفرداته الصعبة، وأبرز من تناول هموم المرأة وقضايا الطبقات المهمشة بجرأة وواقعية غير مسبوقة، من النشأة في حي شعبي إلى صدارة المشهد السينمائي، كتب أبو سيف اسمه بحروف من نور في سجل الإبداع المصري والعربي.

النشأة والبدايات

 

وُلد صلاح أبو سيف في 10 مايو عام 1915، بقرية الحومة بمحافظة بني سويف، ونشأ في حي بولاق الشعبي بعد انتقال والدته للعيش هناك.

 

عايش منذ صغره تقلبات الواقع المصري، وكان شاهدًا على وقائع ثورة 1919، ما شكّل وعيه المبكر بالقضايا الاجتماعية والسياسية.

 

التحق بكلية التجارة، ثم عمل بمصانع النسيج بالمحلة الكبرى، وهناك بدأ اهتمامه بالفن والمسرح، قبل أن يعود إلى القاهرة ويلتحق باستوديو مصر كمونتير، في أولى خطواته نحو عالم السينما.

خطواته الأولى في السينما 

عمل أبو سيف في البداية كمونتير، ثم مساعدًا للمخرج كمال سليم في فيلم "العزيمة"، الذي يُعد أول فيلم واقعي في تاريخ السينما المصرية.

سافر إلى فرنسا وإيطاليا لدراسة تقنيات الإخراج والسيناريو، وتأثر كثيرًا بالمدرسة الواقعية الإيطالية، ليبدأ أولى تجاربه كمخرج في فيلم "دائمًا في قلبي" عام 1946. 
ومنذ تلك اللحظة، بدأ ترسيخ أسلوبه الخاص الذي جمع بين عمق الفكرة وبساطة التناول.

رائد الواقعية الاجتماعية في السينما

 

يُلقّب صلاح أبو سيف بـ "رائد الواقعية"، لأنه قدّم أكثر من 40 فيلمًا ناقشت قضايا المجتمع المصري بشفافية غير مسبوقة، منها ما تناول الفقر والسلطة والفساد، ومنها ما ركّز على هموم المرأة وصراعها داخل المجتمع الذكوري.

 

من أبرز أعماله: شباب امرأة، الزوجة الثانية، بداية ونهاية، القاهرة 30، الفتوة، ريا وسكينة، أنا حرة، الأسطى حسن.

 

وقد صُنّف 11 من أفلامه ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية.

الحياة الشخصية

 

تزوج صلاح أبو سيف من "رفيقة أبو جبل"، التي تعرّف عليها في استوديو مصر، وأنجب منها ابنه "محمد أبو سيف"، الذي واصل مسيرة والده في عالم الإخراج والتأليف السينمائي رغم شهرته، كان معروفًا بتواضعه وابتعاده عن أضواء الإعلام، مفضلًا أن يتحدث من خلال أفلامه فقط.

 

وفاته وإرثه الذي لا يموت

 

توفي صلاح أبو سيف في 22 يونيو عام 1996 عن عمر ناهز 81 عامًا، بعد مسيرة حافلة تجاوزت نصف قرن من الإبداع.

 

رحل الجسد، لكن بقيت أفلامه شاهدة على عبقرية سينمائية نادرة، وعلى عقل مخرج لم يرد أن يُجمل الواقع، بل أن يضعه أمامنا كما هو، بكل وجعه ومفارقاته.

مقالات مشابهة

  • تنفّس بسهولة من جديد.. علاجات بسيطة تخلّصك من انسداد الأنف
  • في عيد ميلاده.. أحمد عبد العزيز فارس الدراما الذي سكن قلوب المشاهدين بأعمال خالدة
  • أسماء أبو اليزيد لـ«الأسبوع»: شخصية بسمة في المسلسل فات الميعاد تشبه الكثير من الستات
  • دي شخصية الأهلي.. رسالة إبراهيم فايق للأحمر بعد مباراة بورتو
  • أبطال الدراما الرمضانية 2026 يبدأون مبكرًا.. عودة قوية لياسر جلال ومحمد إمام والعوضي وكرارة
  • أحمد عزمى يكشف عن سر انجذابه لشخصية راشد فى حرب الجبالي.. خاص
  • التفاصيل الكاملة لحفل حماقي الأضخم بموازين.. تخطي الحضور 135 ألف فرد
  • صلاح أبو سيف في ذكراه.. رائد الواقعية الذي نقل المرأة والشارع إلى شاشة السينما
  • كريم الشناوي يكشف كواليس نهاية لام شمسية ومصير شخصية وسام.. تفاصيل
  • في ذكرى ميلاده.. تعرف على أبرز المحطات الفنية في حياة الراحل أشرف عبدالغفور