د.زاهي حواس يكتب: أصل الفراعنة.. المصريون القدماء صوروا أنفسهم بشكل يختلف تمامًا عن تصويرهم للأفارقة الزنوج
تاريخ النشر: 5th, March 2024 GMT
شيخ أنتا ديوب
أعلنت الصحف المصرية أن هناك جمعية أمريكية سوف تنظم رحلة مقدسة إلى مدينة أسوان بهدف إثبات أن الحضارة الفرعونية من أصل أفريقي.. وموضوع أصل الفراعنة ليس وليد اليوم، خاصةً أن أحد الأمريكان السود، ومنهم مانوا أبيم Manu Aim وغيره يحضرون إلى مصر وينظمون العديد من الرحلات لإثبات أن أصل الفراعنة يعود إلى العنصر الزنجي، وآخرهم المدعو أنتونى برودر Anthony Browder، الذي حضر في رحلة تحت اسم مصر القديمة نور العالم.
أما عن أول من كتب فى موضوع أصل الفراعنة فهو الإثيوبى الشيخ أنتا ديوب، الذي حاول أن يثبت أن الفراعنة كانوا زنوجًا، وذلك عن طريق الاستشهاد ببعض التماثيل المصرية القديمة المنحوتة من أحجار سمراء كالبازلت الأسود والجرانيت الأسود، وكذلك الأخرى الملونة باللون الأسود ومنها تمثال للملك توت عنخ آمون، والملك رمسيس الثاني. هذا بالإضافة إلى محاولته إثبات أن اللغة المصرية القديمة ذات أصل يرجع إلى اللغات الأفريقية القديمة.
وقد انتشر هذا الرأى في كل مكان، حتى إن اليونسكو عقدت مؤتمرا علميًا لمناقشة الموضوع، وانتهت إلى ضرورة الانتظار لحين ظهور أدلة جديدة. وعلى الرغم من ذلك بدأ السود في أمريكا يعقدون المؤتمرات والمناظرات لإثبات أنهم أصل الحضارة المصرية.
ولعل ذلك كان بهدف الوقوف في وجه العنصرية الموجودة في المجتمع الأمريكي ونظرتهم للسود. وعندما سافر "توت عنخ آمون" إلى أمريكا منذ أكثر من ٢٩ عامًا قامت المظاهرات في كل مكان يرددون بأنهم أصل الفراعنة الذين أقاموا هذه الحضارة العظيمة، وذلك لوجود أحد التماثيل المهمة بالمعرض باللون الأسود.
وعندما كنت أرافق معرض الملك رمسيس الثانى بمدينة دالاس بأمريكا حدثت مظاهرات بالمدينة أمام المعرض، وخاصة عندما ألقيت محاضرة للمرشدين الذين يرافقون الأفواج التي تزور المعرض، وخلال المحاضرة وضعت الأدلة العلمية التى تثبت أن الحضارة الفرعونية بعيدة عن الأصل الزنجى أو الأصل الأفريقى.
وكان أهم دليل هو أن المصريين القدماء قد صوروا أنفسهم بشكل يختلف تمامًا عن تصويرهم للأفارقة الزنوج، وقد صور هذا على المعابد عندما كان الفراعنة يصورون إما أعداءهم أو الشعوب التى تتاجر معهم.
ومن أهم هذه المناظر ذلك المنظر المصور على الجانب الأيمن من معبد أبو سمبل فى النوبة بالشلال الثاني، وقد قام الملك رمسيس الثانى بإقامة هذا المعبد؛ ليظهر فيه نفسه كملك وهو يتعبد لنفسه كإله وفى نفس الوقت صور أعداء مصر على المعبد فى العالم القديم.
وقد كان بعض الأمريكان يرسلون لى خطابات مجهولة دون أن يوقعوها بأسمائهم ويلقونها أسفل مكتبى، ومن ضمن هذه الخطابات من يقول: "ليس معنى أن هناك سيدة أمريكية بيضاء تحضر لك القهوة كل صباح أنك أبيض وفي الحقيقة أنك أسود".
وأول يوم في افتتاح معرض توت عنخ آمون عام ٢٠٠٥ بلوس أنجلوس قامت المظاهرات أمام المعرض ولم تهدأ إلا عندما قلت في محاضرتي هناك أن مصر تقع فى أفريقيا وهذا يشير على أن الحضارة الفرعونية ذات صلة بأفريقيا.
ثم بدأ الموضوع يثار من خلال الكوميديان الأمريكي الذي اقترح أن يقوم بعرض في أسوان وأن تقوم قناة نتفليكس بعرض فيلم عن كليوباترا علي أنها سوداء وأن تقام مظاهرات أمام محاضراتي في أمريكا تدعي بأننا سرقنا منهم هذه الحضارة وهذا كلام تم الرد عليه؛ لأن الحضارة المصرية ليست حضارة سوداء.
زاهي حواس: من أهم الآثاريين المصريين، وزير سابق للآثار، يحاضر فى العديد من الدول الغربية حول الآثار الفرعونية وتاريخ قدماء المصريين. له مؤلفات بالعربية والإنجليزية فى هذا المجال.. يستكمل ما كتبه فى العدد الأسبوعى بتاريخ 7 يناير الماضى تحت عنوان «أصل المصريين.. مصرى» عندما هاجموه أثناء إلقاء محاضرة عن توت عنخ آمون.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الصحف المصرية جمعية أمريكية مدينة أسوان الحضارة الفرعونية الملك رمسيس الثاني المصريين القدماء توت عنخ أمون توت عنخ آمون
إقرأ أيضاً:
قبل أن يتحولوا إلى أفاتارات!
في إجازة اليوم الوطني، قررنا زيارة أقرباء لنا يقطنون في جبال بعيدة، بدت لأبنائي وكأنّها خارج المجرّة. أثار الأمر بعض امتعاضهم، فهم -كأقرانهم- لا يحبّون مغادرة غرفهم والانفصال عن شاشاتهم. فتشبثوا طوال الطريق بأجهزتهم، ولم تُفلح دعوتي لهم برفع رؤوسهم -ولو قليلًا- لتأمّل مزارع النخيل والطرق التي شُقّت في صلابة الجغرافيا. لكن، عندما وصلنا إلى منطقة تناءت فيها الشبكة، رفعوا رؤوسهم كمن يستعيد حواسّه المُخدّرة، فامتلأت السيارة بالأحاديث والضحك.
ومجدّدًا، لا أستطيع تجاوز كتاب «نهاية المحادثة» لديفيد لوبروتون، الذي يرى في التقنية اختزالًا للفرد؛ فهي تحصره في الإطار الذي تتيحه له، في المساحة الضيّقة التي ترسمها الشاشة، فلا يعود الفردُ المُستلبُ راغبًا بأكثر من هذا.
تساءلتُ آنذاك: هل استُبدلت أعينُ أبنائي والجيل الجديد حتى لا يلفتهم الجمالُ المُتجلّي في ينبوع ماءٍ مُمتدّ، أو في مرور طيرٍ في سماء غائمة؟ يرى لوبروتون أنّ الحدث في المجتمع المُتشظّي المُعاصر، لم يعد يُعاش بالوعي نفسه الذي كان في الماضي؛ فقد اعترضته الشاشة وحجبت تلقائيّته. ويضرب مثالًا: فعندما سافر إلى البرازيل قبل سنوات، أذهله مشهدُ الزوّار عند شلّالات إيغواسو؛ إذ لم يكونوا ينظرون إلى الشلّالات ذاتها، بل إلى أنفسهم على شاشات هواتفهم. وكأن غاية مشاهدة الطبيعة تنتفي في سبيل إبلاغ العالم بأنّهم كانوا جزءًا من التجربة ومن الهوس الراغب في تسجيل الشيء لا في عيشه !
وليس بعيدا عن ذلك، كان تناول وجبة الطعام مع العائلة -على حصير أو طاولة واحدة- فسحةً ذهبيةً لتبادل الحديث، ولمعرفة الأبناء وهواجسهم وما يعبرُ أيّامهم من فرح ومشقّة. لكنّ المحادثة أثناء الطعام في طريقها إلى الانقراض أيضا؛ ليس لأنّنا نمارسُ فضيلة الصمت، بل لميلٍ جماعيّ لتناول الطعام بأفواهٍ شاردة، إذ تهيم الرؤوس على الهواتف، وينصرفُ الانتباه عن الطعام وعن الآخرين!
ومن المواقف التي تستدعي الالتفات أيضا، استنكار الأبناء أن تُرسل لهم رسالة صوتية تتعدّى الدقيقة! إنّ ذلك يدفعهم إلى اتخاذ آليات عجيبة، من قبيل تسريع الرسالة حتى تفقد ملامحها. ولنا أن نتصور هذا المجتمع القائم على «السرعة والنفعية»، والذي تُرهقه رسالة صوتية تتجاوز الدقيقة !
وبحسب لوبروتون، لا يقتصر تأثير الوسيط الرقمي على المراهقين فحسب؛ فوجود هاتف جوّال على الطاولة بين شخصين يكبحُ المحادثة الحميميّة؛ إذ يحضر الهاتف كجسدٍ ثالث قادرٍ على إرباك الحوار وتعطيل تدفّقه.
عندما مشينا لأكثر من ساعة في الهواء الطلق، في ذلك الجوّ الشتويّ المُنعش، شعر الأبناء بوخزٍ مُربك، كأنّ شيئًا يفوتهم. لم يكن يسيرًا عليهم أن يستمتعوا -ولو قليلًا- بما نراه نحن دفئًا عميقًا وقيمةً أصيلة. فانغلاقهم في شرنقتهم التكنولوجية؛ حيث يُحدّثون آخرين لا يعرفون هويتهم، وحيث «التنسّك ما بعد الحداثي» كما يسميه لوبروتون، يعدو سلوكا تتشبّعُ فيه الحواس حتى يغدو المرء أشبه بـ«أفاتار» يحتمي من شراسة العالم وقلّة العلاقات المباشرة. إذ يختبئ المراهقون وراء رسائل مُقتضبة تستبعد كلّ ما قد يتبدّى على الوجوه من انفعالات، وكلّ ما تحمله الأصوات من إشارات خفيّة. هكذا تُقصى الحميميّة، ويبهتُ الحضور، ويغدو الحديث مجرّد إجراء وظيفيّ من تبادل المعلومات. فهم لا يثقلون أنفسهم بأجسادهم، ولا يلتزمون بحضورهم الفعليّ أمام الآخر؛ فالاتصال عبر الكتابة يسمحُ لهم أن يحضروا بخفّة، أو أن ينسحبوا دون ترك أثر.
لم تُشر الدراسات فقط إلى تراجع اللياقة البدنية، وآلام الرقبة والظهر وضعف النظر؛ بل تحدّثت أيضًا عن أثرٍ عميق في النمو الذهني واللغوي. فالبقاء الطويل في الغُرف لا يُحرّك الأفكار ولا يجدّدها، كما قد يفعل التنوع الحيوي للبيئة، فضلًا عن ذلك الميل الجارف إلى السلبية والكآبة.
لا أدري إن كنّا نفعل الصواب كآباء وأمهات في مراقبتنا الحثيثة؛ أعني محاولتنا الدؤوبة لانتشالهم من غيابهم الطويل، وربطهم بصورة دائمة بالحياة الواقعية، كيلا ينقطع الرابط الاجتماعي، كيلا يُصابوا بتنائي التعاطف والرأفة والاكتراث، كيلا تموت المحادثة بيننا، وكيلا نفقد وجوههم.. نفعل ذلك باستماتة. فإذا كان بطل «كافكا» قد استيقظ يومًا، ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة في رواية «المسخ»، فإننا نخشى أيضا أن يستيقظ أبناؤنا يوما ليجدوا أنفسهم وقد تحوّلوا إلى «أفاتارات»!
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»