لا تزال القضية الفلسطينية هي المحور الأول الذي يشغل المسلمين وغيرهم من أنصار الحق والإنسانية، فعلى الرغم من أن العدو الصهيوني جاوز كل الخطوط، وبالغ في الطغيان والقتل والتجويع والتهجير، إلا أن العالم لا يزال ينظر إلى المظلومين نظرة المتفرج، على الرغم من أن هذه القضية هي قضية عقدية إيمانية عند المسلمين، وقد عرّج على ذلك فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان في محاضرته «القضية الفلسطينية من منظور ديني»، ذكر أن ارتباط المسلمين بالمسجد الأقصى هو ارتباط إيماني فهو يقول: إذا أتينا إلى سنة رسول الله- صـلى الله عليه وسلم- سنجد أنها تتعلق بالأوصاف الإيمانية في رواية أبي ذر «سألت رسول الله- صـلى الله عليه وسلم- أي بيت وضع للناس أول؟ فقال البيت الحرام، قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة وحيثما أدركتك الصلاة فصل» فهذا معنى إيماني، مسجد وضعه الله لا نتحدث عن البناء، عن الوضع وضعه الله تبارك وتعالى في هذه الأرض بعد المسجد الحرام بأربعين سنة والذي أقام البيت الحرام إبراهيم عليه السلام: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» وأغلب المفسرين والمؤرخين وعلماء الإسلام يقولون: إن الذي رفع قواعد بيت المقدس هو إبراهيم عليه السلام، وهذا سيمكننا من فهم مطلع سورة الإسراء «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

وقال: هناك تيارات داخل الفكر اليهودي تقول: إنه ليس لنا أن نرجع من الشتات، وإنه كتب علينا الشتات وأن نظل هكذا مفرقين في الأرض، وإن إقامة كيان واحد لنا في أرضنا فلسطين إنما هو إيذان بزوالنا. وهذه عبارة عن تيارات لكنها ليست تيارات مؤثرة نحن نريد أن نصنف أن التيارات المؤثرة تيارات إلحادية، تيارات علمانية، تيارات متصهينة، وهناك أيضا حركة صهيونية مسيحية، الحاصل أن الدين في صلب هذه القضية وأن هذه المستندات التي يستندون إليها، فلا بد أن نكون على دراية بها، وخرجت من مناقشة هذه القضية كما قلت ببناء معرفي نريد أن ندحض به هذه الدعوة من ذاتها ومن داخلها إلى آخر نقطة وصلت إليها تتعلق بأنه إن كنا نعترض عليهم بأن الله تبارك وتعالى لا يُقطِع أشخاصا هذه الأرض، وإنما الأرض هي مكان عبادة الله تبارك وتعالى، ومكان توحيده والعبودية الخالصة له وأن له جل وعلا سننا فإن هذه الدعوى إذا أريد أن ترفع ضد المسلمين فإن ما ذكرته إلى الآن يرد هذه الدعوى أيضا؛ لأن ما وصف به وما وصفت به تلك الأرض المباركة المقدسة، وما وصف به المسجد الأقصى بيت المقدس، هي كلها أوصاف دينية إيمانية روحية ليست أوصافا لأشخاص ولا أوصافا مادية مجردة الآن وسترون أن في آيات الكتاب العزيز أيضا من إبراهيم عليه السلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلـم الأنبياء والرسل الذين ارتبطوا ببيت المقدس كل الأوصاف التي وردت لبيت المقدس ولمن كان في بيت المقدس إنما هي أوصاف تتعلق بالإيمان بالله تبارك وتعالى وبالعبودية له فهذا الدين ليس دين تمييز عنصري، ليس دين قوميات، ليس دين عنصريات، وإنما هو دين عالمي، ولذلك قال باركنا فيها للعالمين.

المقاومة

وبيّن الخروصي أنه لا يمكن أن نتعرض للقضية الفلسطينية من منظور إسلامي دون أن نتعرض للمقاومة، طالما أن هؤلاء اغتصبوا هذه الأرض المباركة واعتدوا على بقعة مقدسة من بقاع المسلمين لها مكانتها وقدسيتها عند المسلمين ولها تاريخها عبر أكثر من أربعة عشر قرنا إذا قلنا من دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلـم، وأنا أقول: إن الوارد في كتاب الله- عز وجل- وهذا مما ذكره بعض الباحثين أن نبينا محمدا- صـلى الله عليه وآله وسلم- قد فهم ما ترمي إليه الآيات في سورة الروم وفي سورة الإسراء ولذلك في حياته عليه الصلاة والسلام لم يسيّر صوب بلاد فارس إلا سرية واحدة، وباقي السرايا خارج الجزيرة العربية كانت صوب الشام وفلسطين، وآخر ما كان صلى الله عليه وآله وسلـم يسأل عنه وهو في مرض موته صـلى الله عليه وآله وسلم عن بعث أسامة، فكان يشتد به الوجع فإذا هدأ عنه الوجع فإنه يسأل عن بعث أسامة وفي ذلك الوقت كانت فلسطين في يد النصارى، فسورة الروم سورة مكية، فالرسول صلى الله عليه وسلـم يأتيه الخبر وهو في مكة وهم جماعة، بخبر عن حدث عالمي وذلك للتهيؤ والاستعداد، في الوقت الذي تغلبت فيه فارس على الروم بنص كتاب الله عز وجل ينتصر قال: «الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ» تغلب الروم على الفرس في الوقت الذي انتصر فيه المسلمون في بدر.

وإذا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلـم في سيرته من بعد بدر إلى وفاته عليه الصلاة والسلام وسراياه وبعوثه العسكرية صوب الغالب المنتصر الأصل بموازيننا نحن أن يغتنم الفرصة للتوجه صوب فارس لكن بعوثه قلت سرية واحدة لدومة الجندل يعني كانت في يد فارس أما باقي السرايا والبعوث فكانت إلى بلاد الشام وفلسطين ولذلك كان يسأل عن سرية أسامة بن زيد لأهميتها، ولذلك اهتم الخلفاء الراشدون فسيدنا أبو بكر الصديق اهتم به مدة خلافته يعني سنتين وبضعة أشهر ومن بعده سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه والخلفاء من بعده وإذا بهم يحررون المسجد الأقصى من قوة لتوها تغلبت على فارس على أقوى إمبراطوريتين في ذلك الوقت ولمكانة المسجد الأقصى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يذهب بنفسه ويأمر قواد أجناده بملاقاته فهذا حدث كبير، فيدخل رضي الله تعالى عنه متواضعا كما رأيتم يعني في نص ابن كثير أنه دخل ملبيا وأنه ابتدأ بالصلاة بعد أن أزال النجس عنها.

هل هناك من يمكن أن يعارض في أن ما يفعله أهل الحق أهل الأرض هو مقاومة ودفاع عن الحق؟ لا أحد يجادل إلا أن يكون من صف الأعداء الظالمين. ما الذي يفترض في المقاوم المدافع أن يفعله؟ اسمه مقاوم واسمه مدافع فعليه أن يقاوم ويدافع إذا سكن وتوقف يحتاج إلى سبب أما إذا قاوم ودافع فلا يحتاج إلى سبب يعني لا يحتاج أن يقول لماذا طوفان الأقصى؟

فالواجب عليه أن يدافع ويقاوم فإذا توقف فعندئذ نسأل لماذا توقفت؟ ما الذي يمنعك؟ هل استسلمت؟ هل قبلت الذل والهوان؟ أما أن يكون فعل المقاومة مستمرا مداوما عليه فهذا هو الأصل، لابد أن يكون تكييفا صحيحا لنفرع عليه، لا أن نأتي ونقول بعد ذلك: لماذا فعلوا كذلك ولم يحسبوا للعواقب؟ فالأصل المقاومة والمدافعة.

هل فعلا باعوا أرضهم

وأشار إلى أنه: سيأتي أحد ويقول الفلسطينيون باعوا أراضيهم تسمعون هذا، وبدأ الآن في وسائل الإعلام في وسطنا العربي والإسلامي وحتى في بعض المجالس يقولون: «فما اشتغالنا بهم إذا كانوا قد باعوا أراضيهم؟» وجوابي عليهم أن الحاج أمير الحسيني مفتي القدس له كتاب اسمه «أسرار كارثة فلسطين» وتوجد نسخة إلكترونية من 1957 لدار الفضيلة، فيه أن هيئة علماء فلسطين أصدرت فتوى في ذلك الوقت في عشرينيات القرن الفائت أصدروا فتوى بكفر من يبيع أرضا لليهود وأن حكمه الردة، وكم تملك اليهود من أراضٍ أيام الدولة العثمانية، هناك أراضٍ تعرفون الدولة العثمانية فيها أوقاف، أراضٍ ملك للدولة تسمى الأراضي الأميرية، والحاصل أنه أيام الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد كانوا يعطونهم بدعوة التطوير والتثمير واستصلاح الأراضي والزراعة والصناعة كانوا من رعايا الدولة ثم الانتداب البريطاني بعد سقوط الدولة العثمانية على إثر الحرب العالمية الأولى وكان نسبة ما يتملكه اليهود في فلسطين 5% بحسب كلام الشيخ الحاج محمد أمين الحسيني ثم بعد ذلك تمكنوا من شراء ما نسبته 2% فأصبح ما يمتلكونه عند الانتداب في عام 1948، 7% يعني كم الذي تمكنوا من شرائه من بعض ملاك الأراضي في فلسطين الذين يسكنون خارجها في سوريا ولبنان وأغلب هؤلاء الملاك لم يكونوا من المسلمين يعني لم يكونوا من أهل فلسطين ولم يكونوا من المسلمين كانت هيئة علماء المسلمين تشتري الأراضي وتحولها إلى أوقاف، كانت تمول الملاك لتمنعهم من بيع أراضيهم التي وصلت قيمتها مئات الأضعاف، ومع ذلك رفض أهل الأرض بيع أراضيهم فلا تنطلي عليكم هذه الدعوى، وقد سمّى الكتاب بعض الأسر التي باعت كل شيء، فهو مدون معروف.

و الغريب أن مجمع الكهنة الأرثوذكس أيضا أصدر فتوى مشابهة، النصارى العرب الفلسطينيون الموجودون هناك أيضا أصدروا فتوى بذلك، فأغلب هذه المساحات ذكرها بالأراضي والمسميات والمساحات وكل شيء موجود في الكتاب.

حساب عواقب نكاية العدو

وأوضح أن الأصل في المقاوم أن يكون مقاوما مدافعا لكن يأتي البعض ويقول لماذا لم يحسبوا أن عواقب النكاية من العدو ستكون عظيمة والخسائر في الأرواح ستكون عظيمة؟

ولكن الرد موجود في كتاب الله عز وجل في مواضع كثيرة ففي معركة بدر كان عند المسلمين ثلاثة أفراس وعددهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ويقابلون جيشا مدججا بكل العدة والعتاد ويأتي المنافقون ويقولون: «إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» أي عزيز لا يغلب حكيم يضع الأمور في نصابها وفق مشيئته وقدرته بحكمته وعدله جل وعلا ومن يتوكل على الله تبارك وتعالى آخذا بالأسباب فلن يلتفت إليهم.

في الحديبية لما منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المسلمين وكان عددهم في الحديبية لما ذهبوا معتمرين 1400 تقريبا لما منعوهم وبدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلـم يعد العدة، أن قريشا يمكن أن تواجه وتعتدي، فقد بايع هؤلاء المسلمون الذين كانوا معه لأجل مواجهة أهل مكة هم خرجوا معتمرين لكن الأخبار تأتي الآن والموقف بصدهم ومنعهم يكشف على أن أهل مكة راغبون في المواجهة ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيعة، هل تعرفون على ماذا كانت البيعة؟ كانت بيعة على الموت مع أنهم خرجوا معتمرين. وعندما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة، يعني أنا لا أملك لكم شيئا الآن إلا أن أُوصيكم بالصبر هل يعدهم بالنصر؟ لا فإنه يقول فإن موعدكم الجنة صبراً آل ياسر لذلك اليوم ستجد من يقول نعم تحثون الناس على الجهاد وتناصرون المقاومة وأنتم قاعدون في بيوتكم عند أولادكم، فالرسول الله صـلى الله عليه وسلم يقول لآل ياسر صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة. وفي القرآن الكريم يقول تعالى: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» فالنصر والفتح والانعتاق من الذل والهوان ورفع الظلم لا بد أن يكون لها ثمن، ولم يكن لأمة من الأمم متدينة أو غير متدينة لم يكن وصولها إلى حريتها وإلى ما وصلت إليه دون أثمان باهظة حتى دول الكفر فكيف إذا كانت القضية قضية عقيدة ودين وإذا كانت قضية عدل ورفع للظلم قطعا ستكون هناك أثمان.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: رسول الله صلى الله علیه وآله صلى الله علیه وآله وسلـم الله علیه وآله وسلم الله تبارک وتعالى الدولة العثمانیة صـلى الله علیه المسجد الأقصى بیت المقدس أن یکون

إقرأ أيضاً:

حج الموعودين وأرواح المشتاقين

لبيك اللهم لبيك، وكأنها دقات قلوب المشتاقين، تخرج من الأعماق ممزوجة بالرجاء والخشوع والشكر وحمد مالك الملك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك..

إنه اليوم الذي يكتسى فيه الجبل بالأبيض الذى يلف أجساد هؤلاء الذين جاءوا شعثًا غبرًا من كل فج عميق، تركوا الدنيا وراء ظهورهم، وردوا مظالم العباد، وتابوا توبة صادقة عن كل ذنب، وأتوا إليك وحدك سبحانك، دون شك فى ربوبيتك، أو رياء لخلق، دون أمل فى سواك، دون ولد أو حبيب، أو وسيط أو شفيع، أنت وحدك من أرادوا، طائعين طاعة عبد ينفذ كل ما طلب منه سيده دون سؤال عن المعنى والقصد فذلك تمام عبوديته واكتمال خضوعه، لا رفث ولا فسوق ولا جدال، فالكل مشغول بعبادتك سبحانك، جاءوا يا رب فرادى، مثقلين بالمعاصى، واليقين بأن يعودوا طاهرين مطهرين، كما ولدتهم أمهاتهم على فطرة الإسلام، ذلك الدين الحنيف، إنه حقًّا يقين من أتى ربًا كريمًا، بل أكرم الأكرمين.

ثياب إحرامهم كالأكفان البيضاء، يتساوى فيها الغنى والفقير، كما هو حال الدنيا وحقيقتها، فخلق الله متساوون أمامه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، خلت القلوب من التعلق بمن سواك، أجابوا النداء "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ". هنا البيت العتيق، والصفا والمروة، وجبل عرفات، هنا منى والمزدلفة، هنا رمى الجمرات، ولكل مكان منسك، وقصة، أطع واسجد واقترب، وطف وابتهل، ولن تحرم جمال زيارة مدينة رسول الله.

تلك مكافأة حجك المبرور، تلك راحة النفس ولذة القرب من الحبيب صلوات الله وسلامه عليه.

أما بيتك يا رب فعليه نور، وجمال ومهابة ووقار، ويا لجمال النظرة الأولى، لحظة تأخذ أنوار كعبتك قلوب من جاءوك ملبين، نظرة المكافأة وبداية رحلة الحج الذى تحملوا لأجله مشقة ترك الأهل، والبعد عن الوطن، لحظة يطفئون الشوق، ويتدثرون بالنور، ويسكبون دمع الحنين ويروون شيئًا من عطش القلب بطواف القدوم، يطوفون كملائكتك الكرام، يسبحون ويكبرون ويهللون ويبتهلون إليك راجين طامعين صادقين مخلصين شاكرين أن دعوتهم إلى بيتك وحرمك.

أما من أقعدتهم الموانع، وقلوبهم معلقة هناك، لا يسكت عنها الحنين، ولسان حالهم: يا رب إن القلوب محكومة بالأجساد، والأجساد فى أرض غير الأرض، فلا تحرم المشتاقين شيئًا من فيض الأنوار، نعم، وحقا، إنه لألم لأمثال هؤلاء، بعيدة هى أجسادهم فى أرض الله الواسعة، تهفو إلى عظمة تجلي أنوار نزولك إلى السماء الدنيا فى خير أيام الأرض، يوم عرفة.. خير خير الأيام، ولِمَ لا وقد أقسمت يا رب بالفجر وليال عشر، ويوم عرفة هو تاسع العشر الأوائل من ذي الحجة هو الأفضل بينها، يعقبه عاشر الأيام وهو أول أيام عيد الأضحى المبارك، والعشر قال فيها الحبيب المصطفى: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام)، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء).

يتألم البعيدون، لكن ليس كل بعيد مبعد، إن العطاءات تأتى على قدر المحبة واليقين، والشوق من فيض المحبة قد يطوي المكان، وتحلق الأرواح، وللروح عيون، وللفؤاد لسان، تعلو به التلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك طاعةً، وحبًّا، لبيك شوقًا لقرب بيتك، لبيك يا رب أنى أردت أن أكون ضيفك، فلا تحرم عبدك، إنى فقير إليك يا ربي، مشتاق أن أكون بين من قال فيهم المصطفى: "الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم"، مشتاق أن أكون ضيفك، فكل ضيف فى بيت من بيوتك مكرم، فما بالنا بالضيف فى حرمك، عند كعبتك، ومن لا يشتاق إلى مس "ياقوتة الجنة" الحجر الأسود ليشهد له يوم القيامة، لبيك شوقًا إلى لمس الركن والمقام فتتساقط الذنوب، وتمحى الخطايا، شوقًا إلى دعوة من أعماق القلب بين الركن اليماني والحجر الأسود: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".

تطوف أرواح العاشقين طواف حمام الحمى، تدور حول بيتك المعظم بجناحى شوق ورجاء، وتغبط أسراب الحمام التى لا تكل، ولا تمل فى دوائرها المتعبدة فى سماء يعلوها البيت المعمور، تسبح تسبيحها، لم يعلمها مخلوق سر الطواف، فالسر تعرفه أفئدة الطير، هذا الذى تطوف أعلاه هو البيت العتيق، الذى تهوى إليه الأفئدة فى البلد الأمين، أحب البلاد إلى الحبيب المصطفى عليه صلوات الله، وسلامه، وقبلة صلاة المسلمين في كل بقاع الأرض.

وفى المسعى كانت هنا أمنا هاجر، والطفل إسماعيل عليه السلام، تبدأ السعى خفيفًا ثم تثقل الأقدام، وكأنك تعيد تجربة إنسانية فريدة، يحدوك الأمل فى شربة ماء فى أرض كانت قفرًا، بين جبلى الصفا والمروة، أشواطك السبعة هى نفس أشواطها، ومشقتك لا تقارن بمشقتها، فقد كانت تحت الشمس الحارقة، على الحصى والرمل تسعى، وأنت الآن فى نعيم وظل ظليل، لكنك رغم كل هذا تستشعر تلك المشقة، تلك التى كانت مكافأتها تفجر بئر زمزم تحت قدمى نبى الله إسماعيل عليه السلام، ماء ترتوى منه الأمة منذ آلاف السنين، شفاء ورواء وذكرى لواد غير ذى زرع تفجر فيه بئر فجعل الله أفئدة الخلق تهوي إليه ورزق أهله من الثمرات.

الحج عرفة، ومن لا يتوق إلى جبل وقف عليه نبينا! وخطب فى صحابته رضوان الله عليهم خطبة الوداع وأعلن تمام الدين والنعمة علينا بقول رب العزة سبحانه: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا"، هو اليوم المشهود في قوله تعالى: "وشاهد ومشهود"، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة"، في ذلك اليوم العظيم تجتمع العبادات، صومًا وصلاةً وحجًّا وصدقةً ودعاءً وتلاوةً للقرآن، لكن الذين لا يحجون يصومون، وصومه لمن قعد عن الحج يكفر السنة الماضية والقابلة.

هو الحج الذى بدأت أيامه، ركن من أركان الإسلام لمن استطاع إليه سبيلاً، وهو جبل عرفات الذى لا يكتمل الحج إلا بالوقوف عليه فى يوم الحج الأعظم، هناك ينـزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيباهي بالحجيج الملائكة، ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول: "هؤلاء عبادي جاءوني شعثًا سُفْعًا، يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، وكعدد القطر، وكزَبَد البحر، لغفرتُها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم، ولمن شفعتم له".

أما راحة القلوب ففى تلك الزيارة التى ربما تكون قبل الحج أو بعده، مسجد رسول الله فى المدينة المنورة، الذى قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاةٌ في مسجدي هذا، خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام" وقال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".

زيارة هى اكتمال رحلة العمر، ومن زار عرف، وليس من رأى كمن سمع، أنوارك يا حبيب الله تفيض على مسجدك، سلام عليك، وعلى جاريك، صاحبيك، أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما، وأرضاهما، سلام على مدينة الأنوار التى فتحت لك ذراعيها، لتضيء رسالتك العالم، سلام على أهلها الذين مسهم من نورك، وحضورك فازدادوا سماحةً وجمالاً، وركعتين فى مسجد قباء، وزيارة لأهل البقيع، وشهداء أحد، سلام سلام، ودعوة خالصة فى أيام مباركة: لا حرم الله المشتاقين.

مقالات مشابهة

  • ما أفضل وقت لذبح الأضحية؟.. معلومات مهمة من دار الإفتاء
  • حين يكون العيد باهتاً…!
  • الأضحية بين الأزمنة والأديان- فهم مشترك وممارسات متنوعة
  • موعد أذان المغرب يوم عرفة
  • حكم ترك الاغتسال قبل الإحرام بالحج والعمرة
  • حكم تقبيل الحجر الأسود.. «الإفتاء» تحسم الجدل
  • مقام سيدنا إبراهيم والحجر الأسود في الفيلم الوثائقي «أيام الله الحج»
  • حج الموعودين وأرواح المشتاقين
  • د.كهلان الخروصي: هذه الأيام فيها بشارات للمؤمنين ما يبعث في نفوسهم الطمأنينة وما يحملهم واجب النصرة لإخوانهم المجاهدين
  • أحكام الحج ودروس وعِبر من حِجة الوداع.. هكذا علم الرسول المسلمين عباداتهم