ترجمة: قاسم مكي -
بعد انقضاء أحد أهم الأسابيع في الروزنامة السياسية الأمريكية هنالك القليل فقط من الوضوح لما يمكن توقعه من الولايات المتحدة.
استهلّت انتخابات «الثلاثاء الكبير» مغادرة نيكي هيلي السباق الرئاسي وأكدت على الرئيس بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب كمرشحين مفترضين لحزبيهما. وفي حال مضت الأمور حسبما هو متوقع في الوقت الحاضر سيصبح أحد هذين الرجلين رئيسا لفترة ثانية.
من جهة أخرى تستمر استطلاعات الرأي العام في الإيحاء بأن انتخابات نوفمبر الرئاسية ستكون في الغالب متقاربة جدا ويصعب التنبؤ بنتيجتها. الناخبون الأمريكيون منقسمون. لكن بعض كتل الناخبين الأكثر أهمية ليست متحمسة حتى الآن على نحو خاص لأي من المرشحين. وهذا مهم في انتخابات ترتكز نتيجتها على حجم مشاركة الناخبين.
خطاب بايدن عن حالة الاتحاد كان بالكاد مُطَمئِنا. وفي حين بدا مهادنا بالمعايير البرلمانية إلا أن التحول في النغمة كان واضحا لجمهور أمريكي معتاد على الشكليات والوحدة في هذا اليوم.
كان الرئيس بايدن مفعما بالحيوية ومصادما. وطوال حديثه أشار مرارا إلى سلفه (ترامب) الذي كان بؤرة وهدف الخطاب. لكنه لم يذكره بالاسم بتاتا. لقد كان خطاب حملةٍ انتخابية وخطابا رئاسيا في ذات الوقت. ورغم أن ذلك يجعله خطاب حالة اتحاد غير عادي إلا أنه بدا ملائما للظرف الحالي.
لقد أكد بايدن في خطابه اختلافاته الحادة مع دونالد ترامب وحالة الاستقطاب بين حزبيهما الديمقراطي والجمهوري.
التنافس الطاحن الذي يبدو أنه سيكون سمة الانتخابات الرئاسية في عام 2024 مهمًا نظرا إلى أن المرشحين الرئيسيين للرئاسة الأمريكية يتباينان ليس فقط في نظرتهما إلى العالم ولكن أيضا على صعيد بعض قضايا السياسة الخارجية الأشد إلحاحا.
لم يحاول بايدن اختلاق وحدة متخيلة أو توافق لتجسير الفجوة الكبيرة (بين نظرته ونظرة ترامب) بل بالعكس لم يقل الرئيس الأمريكي شيئا يذكر حول نقطة الاتفاق النسبي الوحيدة بين المرشحين الرئاسيين وهي الصين التي تشكل أهم تحد جيوسياسي يواجه الولايات المتحدة.
وفي تحول غير متوقع بدأ خطاب حالة الاتحاد بالسياسة الخارجية في حين يتحدث هذا الخطاب في العادة باستفاضة عن الأولويات المحلية وباختصار عن أي موضوع آخر سواها.
أعلن بايدن عن الضرورة الملحَّة لمعركة الدفاع عن الديمقراطية في أوكرانيا. كما شهَّر بخصومه في الكونجرس بعدما ضغط ترامب على النواب الجمهوريين كي يمتنعوا عن التصويت لإجازة مشروع قانون الإنفاق الأخير الذي جمع بين أمن الحدود ودعم أوكرانيا.
هذه ليست أول مرة يتم فيها استخدام خطاب حالة الاتحاد لتعريف المهدد الأجنبي. ففي عام 2002 أشار الرئيس بوش إلى كوريا الشمالية وإيران والعراق بعبارة «محور الشر» في مسعى منه لحشد الدعم لما سُمِّي «الحرب على الإرهاب». وقرار بايدن بالبدء بأوكرانيا كان مختلفا ومدفوعا أساسا ليس بالرغبة في التنديد بخصم أجنبي ولكن بإظهار أعدائه الداخليين كمهدد للديمقراطية في أوروبا والولايات المتحدة كلتيهما.
فبعد إدانته تصرفات بوتين والتأكيد على أهمية الدفاع عن أوكرانيا ربط بايدن ربطا محكما تقريبا بين الصراع في أوكرانيا والاعتداء على الديمقراطية في أمريكا.
وفي استغلال لعمره المديد (وخبرته الطويلة) أدان سلفه ترامب لسعيه إلى بث الأفكار البالية من شاكلة الكراهية والغضب والانتقام والقصاص في الولايات المتحدة بدلا عن قيم الأخلاق الحميدة والديمقراطية.
تطرق خطاب حالة الاتحاد بالتفصيل لسياسة الرئيس بايدن الاقتصادية وتركيزها على الطبقة العاملة وعلى إيجاد الوظائف وعلى فرض الضريبة على الشركات الأمريكية والأمريكيين الأثرياء.
أيضا بعث الخطاب بإشارة واضحة فحواها استمرار ما يعتبره أوروبيون عديدون شكلا من القومية الاقتصادية في الهيمنة على استراتيجية بايدن الاقتصادية. إنها استراتيجية تؤكد على الصناعة الأمريكية والوظائف الأمريكية.
اتخذت السياسة موضعا مركزيا في الخطاب الذي واصل مساعي ضبط سياسة الولايات المتحدة بالشرق الأوسط في سياق ازدياد الانقسام الأمريكي حول الحرب في غزة.
وفي جزئية دقيقة من الخطاب لا يجب أن تمر مرور الكرام تحدث الرئيس الأمريكي عن مشكلة النفاق الأمريكي لكن هذه المرة في الداخل مؤكدا على الفجوة بين «فكرة أمريكا التي فحواها أننا خلقنا سواسية ونستحق أن نُعامل على قدم المساواة» وبين الواقع ومحددا على نحو جازم «بأننا لم نطبق أبدا تلك الفكرة ولكننا أيضا لم نتخل عنها».
سياق الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2024 مختلف جدا عن سياق انتخابات عام 2020 في جوانب عديدة. فالأزمات مثل الاضطرابات كجائحة كوفيد واحتجاجات «حياة السود مهمة» وقضايا كالخشية من تصاعد الجريمة دفعت الناخبين إلى صناديق الاقتراع في عام 2020. لكن هذه القضايا كلها انحسرت الآن. وفي الوقت الحالي يبدو وكأن أوروبا أكثر قلقا حول نتيجة الانتخابات الأمريكية من العديد من الأمريكيين.
لن يفعل أسبوع «الثلاثاء الكبير» في السياسة الأمريكية شيئا يذكر للتقليل من ذلك الخوف. بل قد تجدِّد إلحاحه. وخطاب حالة الاتحاد أحد المؤشرات التي تشير إلى أن كلا المرشحين الرئاسيين سيحاولان في الشهور القادمة إشاعة نفس هذا الإحساس بالإلحاح في نفوس الناخبين الأمريكيين.
ليزلي فينجاموري مديرة برنامج الولايات المتحدة والأمريكتين بالمعهد الملكي للشؤون الدولية (شاتام هاوس) ورئيسة هيئة التدريس بأكاديمية الملكة اليزابيث الثانية للقيادة في الشؤون الدولية
عن شاتام هاوس
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: خطاب حالة الاتحاد الولایات المتحدة فی عام
إقرأ أيضاً:
قراءة في خطاب الرئيس المشاط عشية ذكرى ثورة الـ 14 من أكتوبر..
وتحدث الرئيس المشاط عن جبهة وعي تتعرض لهجومٍ ممنهج منذ عقود، مؤكّدًا أنَّ "أعداء الثورة والتحرر سعوا إلى اختراق وعينا الجمعي"؛ فهو في الواقع يصف حربًا ناعمةً تُمارَس على الذاكرة اليمنية، لإفراغها من رمزية التحرر وتحويلها إلى احتفالٍ باهتٍ في ظلّ احتلالٍ جديد بثوبٍ مختلف.
خطابٌ تجلّت فيه روح أكتوبر التحررية في أسمى صورها، كتاريخٍ منقوشٍ في ذاكرة الوطن، ومشروع وعي مستمر وميدان ثوري متجدّد، لا يُعيد فقط الاعتبار لثورة 14 أكتوبر؛ بل ينزع عنها الصيغة التاريخية الجامدة، ويُحيلها إلى منظومةٍ فكرية مقاومة، يلتقي عندها الأحرار من كل المحافظات في معركة مواجهة "الاحتلال المقنّع" والهيمنة الخارجية الجديدة.
وكان لافتًا أنَّ يخصص الرئيس المشاط مساحةً واسعة للحديث عن عدن المدينة التي كانت يومًا قبلة الثوار العرب، وباتت اليوم ساحةً مفتوحةً للتدخلات الأجنبية والتطبيع الخياني، مشيرًا أنَّ "من المؤسف أنَّ نرى عدن تستقبل ضباطًا من جيش العدوّ والموساد"؛ فإنَّه يصف مشهدًا سياسيًا يمثل كارثة أخلاقية ووطنية، حين يتحوّل إرث الثورة إلى مظلةٍ لتبرير الاحتلال.
لم يقف الرئيس عند حدود التوبيخ فقط؛ بل وجّه نداءً مباشرًا: "ندعو أحفاد المناضلين في عدن ولحج وأبين والمهرة وشبوة وحضرموت ومأرب وتعز أن يضطلعوا بدورهم التاريخي المشرف"، وبهذه الجملة، أعاد توجيه البوصلة جنوبًا، مؤكّدًا أنَّ الثورة الحقيقية لا تموت، وأنَّ الجنوب اليمني، الذي فجّر أول ثورةٍ ضد الاحتلال البريطاني البغيض، سيعود من جديد إلى موقعه الطبيعي في معركة التحرر الشامل ضد المحتل الأمريكي والسعودي والإماراتي والصهيوني.
وربط الرئيس ببراعةٍ بين ثورة 14 أكتوبر 1963م، وثورة 21 سبتمبر 2014م، في سياقٍ وطنيٍ واحد، بالقول: "يكفيكم فخرًا أنَّ بنادق ثورة الرابع عشر من أكتوبر لا تُرى اليوم إلا في أيديكم يا أبناء الحادي والعشرين من سبتمبر"؛ فهو يعلن عمليًا أنَّ الامتداد الثوري مستمر، وأنَّ التحرر من المحتل البريطاني قبل 62 عامًا هو ذاته "التحرر من الوصاية الأمريكية اليوم"، كثورةٍ واحدةٍ في مراحل متعددة، ووعيٌ واحد في وجوهٍ متجدّدة.
هذه المقارنة ليست صدفةً بل رسالة سياسية وإستراتيجية إلى الداخل والخارج: أنَّ المشروع اليمني اليوم ليس طارئًا أو فوضويًا؛ بل امتدادٌ تاريخيٌ لمشروع السيادة والتحرر الذي بدأ في عدن وامتد إلى صنعاء وصعدة وكل ذرة من تراب اليمن.
وفي زمنٍ تتساقط فيه الأقنعة العربية، يؤكّد الرئيس المشاط أنَّ اليمن الثائر هو آخر معاقل الموقف العربي الصادق تجاه فلسطين، في إشارةٍ إلى التفاعل الشعبي في عموم اليمن ومنها المحافظات الجنوبية مع قضية غزة، وتذكيره بأنَّ عدن كانت أول من احتضن مكاتب المقاطعة للكيان الصهيوني، يُعيد إلى الأذهان أنَّ القضية الفلسطينية جزءٌ من الهوية اليمنية الثورية.
كما يضع اليمن في محور الوعي الثوري المقاوم للأمة، من موقع المشاركة الميدانية والسياسية والعسكرية، حين يؤكّد الرئيس الاستعداد الدائم "لمواكبة مراحل تنفيذ الاتفاق الخاص بإنهاء العدوان على غزة"؛ فهو بذلك يربط بوضوح بين تحرير فلسطين واستكمال تحرير اليمن، كمعركةٍ مصيريةٍ واحدة في جبهتين مختلفتين.
ومن أبرز الفقرات في خطاب الرئيس المشاط، كانت تلك التي تتحدث عن تطوير القدرات العسكرية ورفع الجهوزية في كل المجالات، وهذه ليست مجرد رسالة عسكرية؛ بل إعلانٌ عن مرحلة جديدة من موازين الردع؛ بأنَّ اليمن سيكون دائمًا في موقع الردع المبادر الذي يُعيد تعريف القوة وفق معادلة الإرادة والسيادة والاستقلال.
وفي إعلانٍ صريح، عن المسارات العسكرية المستقبلية، التي لا تقبل التسويف أو الانتظار، أكّد الرئيس بالقول: "سنواصل الدفاع عن بلدنا حتى تحرير كل شبر من أراضي الجمهورية اليمنية"؛ فهو يعلن عن استراتيجية التحرير الكامل، كخيارٍ شعبي، وكحتميةٍ وطنيةٍ وأخلاقية.
خطابٌ لم يخلُ من رسائل حادة وواضحة للنظام السعودي، دعا فيها إلى الانتقال من خفض التصعيد إلى إنهاء العدوان والحصار والاحتلال، محذرًا من أنَّ التأخر في ذلك يفتح الباب أمام من "يستثمر في الحروب خدمةً للعدوّ الإسرائيلي".
جملةٌ تحمل في طياتها اتهامًا مباشرًا بأنَّ استمرار العدوان بكل أشكاله ومساراته، يخدم العدوّ الصهيوني مباشرةً، وهو توصيف سياسي عميق يربط بين معركة اليمن ومعركة الأمة بأكملها.
أمّا على مستوى التضامن الإقليمي؛ فقد وجّه الرئيس المشاط تحيةً صادقةً لكل من وقف مع فلسطين: "حزب الله، أحرار العراق، الجمهورية الإسلامية في إيران، وكل الشعوب الحرة"، في إشارةٍ إلى تشكّل محور عربي-إسلامي جديد يتجاوز الأنظمة الرسمية إلى تحالف الشعوب والمقاومات.
خطابٌ ليس مجرد تذكيرٍ بماضٍ مجيد فحسب؛ بل خطةُ عملٍ لمستقبلٍ تحرريٍ جديد، مقدّمًا خريطة طريقٍ فكريةً ووطنية، تتلخص في معادلة واضحة: "من الوعي تبدأ الثورة، ومن الثورة تُولد السيادة، ومن السيادة تُصان الكرامة".
وعــدّ الرئيس المشاط الـ 14 من أكتوبر يومًا كان وما يزال في التقويم الثوري اليمني، وسيظل نبضًا في قلب الأمة، وكل من يقف اليوم في خندق التحرر من العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي الصهيوني، هو في الحقيقة امتدادٌ لرجال الجبال الذين أسقطوا راية الاحتلال البريطاني قبل 62 عامًا، في ثورةٍ من الوعي المستمر، من عدن إلى صنعاء، ومن اليمن إلى فلسطين.