نقل تقرير لمجلة "فورين بوليسي" عن مسؤولين غربيين وعمال إغاثة يعملون في السودان قولهم إنهم منزعجون لقلة الاهتمام الدولي بالصراع الجاري منذ أشهر في هذا البلد.

وأدى القتال بين الجيش السوداني، بقيادة عبد الفتاح البرهان، وميليشيا قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص ونزوح حوالي 9 ملايين منذ بدء الصراع في أبريل 2023.

 

واتهمت الولايات المتحدة كلا الجانبين بارتكاب جرائم حرب، وخلصت إلى أن قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها ارتكبت عمليات تطهير عرقي.

والثلاثاء، بحث وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، مع قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، الحاجة لإنهاء الحرب في السودان، وفق ما أفادت الخارجية الأميركية.
 
وقال المتحدث باسم الخارجية، ماثيو ميلر، في بيان إن الجانبين "ناقشا الحاجة الملحة لإنهاء النزاع في السودان بشكل عاجل وتمكين وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، بما في ذلك عبر الحدود وعبر خطوط القتال، لتخفيف معاناة الشعب السوداني".

وأضاف إن بلينكن ناقش أيضا في المحادثة الهاتفية التي استمرت قرابة 30 دقيقة "استئناف المفاوضات في منبر جدة والحاجة إلى حماية المدنيين وخفض الأعمال العدائية في الفاشر بولاية شمال دارفور".

.@SecBlinken underscored to SAF General Burhan the importance of resuming negotiations in Jeddah to end the conflict in Sudan and allowing critical humanitarian access to reach those in need. The Sudanese people should not continue to suffer from the devastation of this conflict.

— Matthew Miller (@StateDeptSpox) May 28, 2024

ويحذر مراقبون وعمال الإغاثة من أنه إذا استمر الصراع ولم تكن هناك استجابة دولية قوية، فمن المرجح أن ينهار السودان وقد نشهد إبادة جماعية مرة أخرى.

وقال آلان بوسويل، خبير شؤون المنطقة في مجموعة الأزمات الدولية "لا يسعك إلا أن تشاهد مستوى التركيز على أزمات مثل غزة وأوكرانيا وتتساءل عما كان يمكن أن تفعله 5 بالمائة فقط من هذه الطاقة في سياق مثل السودان، وكم كان من الممكن إنقاذ آلاف وعشرات الآلاف من الأرواح". 

خارطة  الصراع

استولى القائد الأعلى للقوات المسلحة السودانية، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ورئيس قوات الدعم السريع، محمد حمدان  دقلو، بشكل مشترك على السلطة من حكومة انتقالية في انقلاب عام 2021. 

بعدها، تصاعدت التوترات بين الجانبين وأخيراً اندلعت الحرب في أبريل 2023.

وفي الأشهر الـ 13 التي تلت ذلك، عززت قوات الدعم السريع مواقعها حول العاصمة الخرطوم، ما أجبر القوات المسلحة السودانية على نقل مقرها إلى مدينة بورتسودان الساحلية. 

وحققت قوات الدعم السريع مكاسب مطردة في السيطرة على دارفور والتقدم جنوبًا وشرقًا ضد القوات المسلحة السودانية. 

ولا تزال القوات المسلحة السودانية تسيطر على المناطق المحيطة بالخرطوم وحتى نهر النيل، وهو طريق استراتيجي حيوي إلى مصر؛ على طول ساحل البحر الأحمر، والحدود الشرقية مع إثيوبيا وإريتريا.

حرب بالوكالة

توسع الصراع أيضًا ليتحول إلى حرب إقليمية كاملة بالوكالة. 

وتدعم مصر والسعودية، وكذلك إيران، القوات المسلحة السودانية، في حين تفيد التقارير أن دولة الإمارات تقوم بنقل الأسلحة والإمدادات العسكرية إلى قوات الدعم السريع. 

وبحسب ما ورد تتلقى قوات الدعم السريع أيضا دعما من تشاد ومن روسيا من خلال مجموعات المرتزقة التابعة لها.

وتتركز نقطة الصراع الآن في الفاشر، عاصمة شمال دارفور ومركز القتال. 

وسيطرت قوات الدعم السريع على مساحات شاسعة من غرب وجنوب السودان في حربها ضد القوات المسلحة السودانية. 

والفاشر هي آخر معقل للقوات المسلحة السودانية في دارفور وتحتل موقعا استراتيجيا مهما لطرق التجارة من ليبيا وتشاد المجاورتين.
 

وتعد الفاشر مركزا رئيسيا للمساعدات في الإقليم الغربي الذي يعيش فيه ربع سكان البلاد البالغ عددهم 48 مليون نسمة، وهي العاصمة الوحيدة بين عواصم ولايات الإقليم التي لا تسيطر عليها قوات الدعم السريع.

ومؤخرا، بدأت قوات الدعم السريع تقدمها نحو الفاشر حيث لجأ ما يقدر بنحو 2 مليون إلى 2.8 مليون مدني هربا من القتال. (لكن من الصعب الحصول على أرقام دقيقة).

وحذرت أليس نديريتو، المستشارة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بمنع الإبادة الجماعية، في اجتماع لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الأسبوع الماضي، من خطر الإبادة الجماعية  قائلة إن "التهديد حقيقي، وينمو كل يوم".

وكان تقرير مطول أصدرته منظمة "هيومن رايتس ووتش" وثق كيف ارتكبت قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها فظائع واسعة النطاق، بما في ذلك الاغتصاب الجماعي وقتل الأطفال ومذابح المدنيين عندما استولت على مدينة الجنينة السودانية العام الماضي. 

ويحذر المسؤولون الأميركيون والأمم المتحدة، وخبراء حقوق الإنسان من أن نفس الشيء سيحدث على الأرجح إذا سيطرت قوات الدعم السريع على الفاشر "ولكن على نطاق أوسع بكثير" وفق تعبير المجلة. 

واتهمت الولايات المتحدة وجماعات الإغاثة، القوات المسلحة السودانية بمنع دخول المساعدات الغذائية الحيوية إلى البلاد، كما اتهمت قوات الدعم السريع بنهب مخزونات المساعدات الإنسانية، ما أدى إلى تفاقم الأزمة ودفع مناطق البلاد أقرب إلى المجاعة.

وقال ناثانيال ريموند، المدير التنفيذي لمختبر البحوث الإنسانية في كلية الصحة العامة بجامعة ييل والذي يدير مشروعاً بحثياً يراقب الصراع في السودان، إن "معدل الوفيات المحتمل هنا يتجاوز التوقعات". 
وتابع متسائلا "ماذا سيحدث عندما تسيطر قوات الدعم السريع على الفاشر؟"

وأضاف "هناك احتمال وقوع ضحايا بنفس مستوى ما حدث في هيروشيما وناغازاكي"، في إشارة إلى القنابل الذرية الأميركية التي أسقطتها على اليابان في الحرب العالمية الثانية والتي أسفرت عن مقتل ما يصل إلى 225 ألف شخص.

إهمال؟

لطالما شجبت منظمات الإغاثة والمسؤولون الذين يعملون في السودان الإهمال النسبي للصراع في السودان مقارنة بأوكرانيا أو الحرب في غزة. 

ويواجه نحو 20 مليون شخص خطر المجاعة في مناطق مختلفة من السودان. 

وقال بوزويل "قلة قليلة من الأشخاص الذين لا يعملون في السودان يعرفون أن دارفور على حافة المجاعة". 

وتوفر منشورات الرئيس الأميركي جو بايدن على وسائل التواصل الاجتماعي حول غزة مقابل السودان نافذة أخرى، وإن كانت غير كاملة، على الاهتمام الذي يتلقاه كل صراع. 

وقام بايدن بالتغريد عن إسرائيل أو غزة 107 مرة على الأقل في الأشهر الستة منذ هجمات حماس في 7 أكتوبر 2023 التي أشعلت الحرب الجديدة بين إسرائيل وحماس. 

ومنذ أن بدأت الحرب في السودان قبل أكثر من عام، قام بالتغريد عن السودان أربع مرات - ثلاث منها كانت حول إخلاء السفارة الأميركية في الخرطوم مباشرة بعد اندلاع القتال.

وتواجه جماعات الإغاثة ضغوطا للحصول على الموارد اللازمة لمعالجة الأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب. 

وفي فبراير، حذرت منظمة أطباء بلا حدود من أنه في مخيم واحد فقط للاجئين في شمال دارفور، يموت طفل كل ساعتين بسبب سوء التغذية. 
وفي أبريل، في الذكرى السنوية الأولى للصراع، قالت جماعات الإغاثة إن خطة الاستجابة الإنسانية الدولية لمساعدة السودانيين لم تمول سوى 6 بالمائة فقط. 

وفي مؤتمر للمانحين في ذلك الشهر في باريس، تعهدت الدول بتقديم مبلغ إضافي قدره ملياري دولار، على الرغم من أن هذا لا يزال حوالي نصف ما تقدره مجموعات الإغاثة باحتياجات البلاد.

وعين بايدن مبعوثًا خاصًا للسودان في فبراير، وهو توم بيرييلو، من ولاية فرجينيا والمخضرم في وزارة الخارجية. 

وقد رحب معظم الخبراء بجهود بيرييلو الجديدة لإجراء محادثات لوقف إطلاق النار في الأشهر التي تلت ذلك وإشراك المشرعين الأميركيين لجلب المزيد من أدوات القوة والتمويل الأميركي للتأثير على المشهد في السودان، لكنهم يخشون أيضًا أن جهوده قد تكون قليلة مقارنة لما يحدث للمدنيين المحاصرين في الفاشر.

لدى الدبلوماسيين ومسؤولي المساعدات العاملين في السودان بعض النظريات حول سبب قلة الاهتمام بالفظائع في دارفور مقارنة بدرجة الاهتمام بما حدث العام 2006 في ذات المنطقة " لكن لا شيء يعطي إجابة كاملة" تقول "فورين بوليسي".

وفي عام 2006، كانت الولايات المتحدة في ذروة "حملتها ضد الإرهاب" بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. 

وقالت نيكول فيدرسهايم، المسؤولة الكبيرة السابقة في مجلس الأمن القومي والتي تعمل الآن مع "هيومن رايتس ووتش" إنه في ذلك الوقت كان السودان، في عهد الدكتاتور السابق عمر البشير، قد أعطى ملاذاً آمناً لأسامة بن لادن أثناء قيامه ببناء شبكة عالمية تابعة لتنظيم القاعدة".

وتابعت "لذلك فإن مهاجمة البشير والإبادة الجماعية التي ارتكبها في دارفور صيغت بشكل جيد مع أولويات مكافحة الإرهاب للحكومة الأميركية".

وكانت ذكريات التدخلات الدولية الفاشلة والناجحة لوقف الإبادة الجماعية ــ رواندا في عام 1994 والبلقان في وقت لاحق من ذلك العقد، على التوالي ــ لا تزال حاضرة نسبيا في أذهان صناع السياسات.

فالحملات الغربية المكلفة في أفغانستان، والعراق، وليبيا، والتي كشفت فيما بعد عن أوجه القصور والانتكاسات الناجمة عن التدخلات العسكرية، كانت لا تزال جارية.

كما أنها سبقت الحقبة الحالية من المنافسة بين القوى العظمى، حيث تركز واشنطن بشكل مكثف على مواجهة روسيا والصين. 

ويتنافس السودان أيضًا مع الحروب المستمرة في غزة وأوكرانيا على الاهتمام الدولي والموارد الإنسانية. 

وأشار مراقبون إلى أن العنصرية المتأصلة في السياسة الخارجية الغربية لعبت دوراً. 

قال أحد المسؤولين "يُنظر إليها على أنها حرب أخرى في أفريقيا مثل كل الحروب الأخرى". 

وخلص الخبراء إلى أنه لا يوجد عامل واحد يمكن أن يفسر "عدم الاكتراث" بما يحدث في السودان.

ويقول خبراء إن الإهمال النسبي الذي تلقاه السودان من أعلى المستويات في القوى الغربية التي يمكن أن يكون لها تأثير في الضغط على الأطراف المتحاربة في السودان للجلوس لمحادثات السلام قد أدى إلى الحالة الراهنة للحرب التي طال أمدها.

واستضاف بايدن الرئيس الكيني ويليام روتو في زيارة دولة هذا الأسبوع، حيث دعا الجانبان "الأطراف المتحاربة في السودان إلى تسهيل وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق والالتزام الفوري بوقف إطلاق النار" .

الإعلان عن حصيلة مرتفعة لقتلى مواجهات الفاشر السودانية أعلنت منظمة أطباء بلا حدود، الأحد، ارتفاع حصيلة القتلى بمدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، إلى 134 شخصا، وذلك منذ بدء القتال في المدينة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، قبل أكثر من أسبوعين.

وفشلت محادثات وقف إطلاق النار المتعاقبة في جدة السعودية خلال العام الماضي، والتي توسطت واشنطن والرياض، في التوصل إلى أي اتفاق دائم. 

ولم يرأس هذه المحادثات من الجانب الأميركي مسؤول كبير في البيت الأبيض أو وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ولكن مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، مولي بي.

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: القوات المسلحة السودانیة قوات الدعم السریع الإبادة الجماعیة شمال دارفور فی السودان الحرب فی فی ذلک

إقرأ أيضاً:

المثلث الحدودي بين ليبيا والسودان ومصر.. صهر الجغرافيا في أتون الحرب

في صباح قائظ من يونيو/حزيران 2025، بدا المثلث الحدودي عند تلاقي السودان ومصر وليبيا هادئًا كعادته، إلا أن تحت هذا السكون كانت نار صراع مكتوم توشك على الاشتعال.

ففي ذلك اليوم، اشتبكت وحدة من كتيبة سبل السلام السلفية التابعة للواء المتقاعد خليفة حفتر مع عناصر سودانية من "القوة المشتركة" معززة بقوات من الجيش السوداني، وتبع ذلك انتشار تسجيل مصوَّر يظهر أحد قادة الدعم السريع وهو يأمر عناصره بالانسحاب من داخل الأراضي المصرية، مشددًا على أن "هذه ليست أرضنا".

لم يكن الاشتباك مجرد واقعة عابرة أو خطأ ميداني، بل مؤشر صريح على مدى تداخل خطوط التماس الجغرافي والعسكري بين السودان ومصر وليبيا، وانزلاق الصراع إلى رقعة إقليمية أوسع.

فحدود الدولة السودانية، التي كانت يومًا خطوطا مرسومة على الخرائط، أصبحت اليوم فضاء مفتوحا تتحرك فيه المجموعات المسلحة، وشبكات التهريب، والمليشيات المتحالفة مع أطراف خارجية.

وتعقيبا على الاشتباك، أصدر الجيش السوداني بيانا يتهم فيه قوات حفتر بالمشاركة المباشرة في هجوم شنته قوات الدعم السريع على نقاط عسكرية سودانية، ومعلنا إخلاءه للمثلث الحدودي ضمن ما وصفها بترتيبات صد العدوان.

إعلان

لا يمكن فهم دلالات هذا التصعيد الأخير دون استرجاع مسارات التداخل الليبي السوداني، خصوصًا منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل/نيسان 2023، فلطالما اعتُبرت الحدود بين البلدين، لا سيما في الكفرة الليبية، معبرا غير رسمي للسلاح والمقاتلين.

ومع تصاعد النزاع، أصبحت مناطق الجنوب الليبي مركزا لوجستيا تنطلق منه عمليات تهريب السلاح وتجنيد المرتزقة.

فزان عقدة مواصلات إستراتيجية

يمثل الجنوب الليبي عقدة إستراتيجية تربط شمال أفريقيا بجنوب الصحراء الكبرى، وتُعد منطقة فزان إحدى أكثر مناطق شمال أفريقيا هشاشة من الناحية الأمنية، حيث تتقاطع فيها شبكات التهريب مع الجماعات المسلحة العابرة للحدود، ويمثل تهريب الذهب والسلاح والمهاجرين مثلث التجارة التي تغذّي هذه الشبكات.

فعقب تفكك نظام القذافي في عام 2011، تحوّل الجنوب إلى حاضنة للفوضى، وتمحور النزاع حول السيطرة على طرق التهريب والمراكز الحضرية، ومن ثم على موارد النفط وتوزيع وتهريب الوقود، وأضاف مزيدا من اللهب للصراع اكتشاف كميات كبيرة من الذهب في شريط يمتد من شمال دارفور إلى موريتانيا مرورا بليبيا والنيجر خلال الفترة الممتدة من 2011 إلى 2014.

كذلك تقع المنطقة ضمن خطوط تهريب المخدرات دوليا، فبحسب تقرير لمركز مسح الأسلحة الصغيرة نُشر في عام 2018، يُنقل الكوكايين من أميركا الجنوبية إلى غرب أفريقيا، ثم إلى جنوب ليبيا وتشاد والنيجر، ومن تلك البلاد إلى الجزائر أو مصر، ثم إلى أوروبا والشرق الأوسط.

عبد الرحمن هاشم قائد كتيبة سبل السلام التابعة لقوات حفتر (مواقع التواصل)

إن النموذج السائد في جنوب ليبيا هو نموذج السيطرة بالأمر الواقع، وفي تلك الأجواء تأسست كتيبة سبل السلام في الكفرة خلال عام 2015 على يد مقاتلين محليين من قبيلة الزوية بقيادة عبد الرحمن هاشم بعد عودته من رحلة علاج في مصر، وتبنّت الكتيبة الفكر السلفي المدخلي المعروف بولائه المطلق للحاكم ورفضه للثورات.

إعلان

منحت هذه العقيدة الكتيبة شرعية دينية للتحرك باسم ضبط الأمن وكبح الفوضى، وسرعان ما بدأت الكتيبة تنسق مع قوات المشير حفتر لتأمين المعابر وحماية عمليات التنقيب عن الذهب وتهريب الوقود، فضلا عن التصدي لمجموعات المعارضة السودانية والتشادية المناوئة لحفتر، والمتمركزة في جنوب ليبيا.

وفي المقابل، أدرك حفتر عقب إخفاقه في دخول العاصمة طرابلس إثر هجومه الكبير عليها في عام 2019، أن تثبيت أوراقه جنوبًا قد يمنحه مساحات مناورة تفتقر إليها بقية أطراف النزاع، فتحرك بخطى ثابتة نحو سبها وأوباري والكفرة، ساعيًا لتأمين ممر خلفي يربطه بتشاد والنيجر والسودان.

اعتمد حفتر لبسط نفوذه في الجنوب على مزيج من التحالفات القبلية والاتفاقات مع المجموعات المسلحة المحلية.

وبهذا التحرك، لم يعد الجنوب مجرد هامش جغرافي، بل منصة إستراتيجية لإعادة تدوير الفوضى لصالح مشروع حفتر في قيادة ليبيا أو البقاء كفاعل إقليمي في معادلات الأمن عبر الصحراء الكبرى.

السودان هشاشة تُغري بالتدخل

لا ينظر حفتر إلى السودان كجار فقط، بل كمساحة رخوة قابلة للاستثمار، فمنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، رآها حفتر فرصة ذهبية لتعميق تدخله، واستغل الوضع الهش للتمركز على أطراف الصراع، مقدمًا الدعم اللوجستي لقوات الدعم السريع، ومستخدمًا في ذلك كتيبة "سبل السلام" السلفية.

في حين استخدمت قوات الدعم السريع الخط الرابط بين العوينات والكفرة كخط إمداد عسكري وتهريب وقود وسلاح، مما منح كتيبة سبل السلام دورا إقليميا يتجاوز الحدود الليبية.

كذلك يمثل طريق الكفرة دارفور شريانا حيويا لنقل الذهب من دارفور وكردفان إلى خارج المنطقة، مما ربط المصالح الاقتصادية للدعم السريع والمشير حفتر بالمصالح الأمنية، وجعل الانخراط الليبي في السودان ليس فقط عسكريًا، بل تجاريًا أيضا.

إعلان

في الخلفية، لا يمكن إغفال البعد الأوروبي في معادلة الجنوب الليبي، فقد سبق أن دعمت بروكسل في عهد البشير عبر "عملية الخرطوم" ترتيبات أمنية تهدف للحد من الهجرة غير النظامية من القرن الأفريقي، وقدمت عشرات الملايين من اليوروهات للخرطوم.

ولكن هذه السياسات عززت منطق الاستعانة بالمليشيات، ومنحت لاعبين محليين هامشًا للتحرك بذريعة مكافحة الهجرة، في حين استخدموا الأموال لتعزيز قبضتهم الأمنية وتحالفاتهم العابرة للحدود.

ومن اللافت أنه في الربع الأول من عام 2025، فعّلت قوات حفتر قاعدة معطن السارة الجوية، الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي الليبي، مستفيدة من موقعها الإستراتيجي قرب المثلث الحدودي مع السودان وتشاد.

وتشير صور الأقمار الاصطناعية، إلى نقل معدات ثقيلة وطائرات شحن روسية إلى القاعدة، بالتوازي مع أعمال ترميم نفذتها عناصر فنية روسية.

وتشير تقارير لموقع "مينا ديفانس" و"ذا أفريكا ريبورت" إلى أن القاعدة تحولت إلى مركز لوجستي متقدم يربط بين الكفرة والحدود السودانية، ويُستخدم في دعم عمليات غير معلنة لقوات الدعم السريع، عبر إمدادها بالذخيرة والوقود.

في حين تتولى كتيبة "سبل السلام" تأمين محيط القاعدة وتسيير دوريات مراقبة على الطرق الصحراوية، مما يجعلها حلقة أساسية في شبكة النفوذ التي يديرها حفتر في الجنوب. وبهذا، تحولت القاعدة من مجرد منشأة مهجورة إلى عقدة إسناد جوية تدعم تحركات الدعم السريع في السودان.

خريطة المثلث الحدودي بين مصر وليبيا والسودان (الجزيرة) بيان الجيش السوداني

في بيانه الصادر في يونيو/حزيران 2025، استخدم الجيش السوداني لهجة بالغة الحدة، تحدث فيها عن "تدخل مباشر لقوات خليفة حفتر"، واصفًا الهجوم بأنه "انتهاك صارخ للقانون الدولي"، وامتداد "للمؤامرة الدولية والإقليمية على السودان".

لم يكن هذا التصريح مجرد اتهام عابر، بل إعلان ضمني أن ساحة المعركة لم تعد محصورة داخل حدود السودان، واللافت أن هذا التصعيد تزامن مع هزائم ميدانية مُنيت بها قوات الدعم السريع مؤخرا في الخرطوم وكردفان.

إعلان

ويشير استخدام الجيش السوداني لهجة حادة واتهامات مباشرة لحفتر بالتدخل العسكري إلى نقلة في تعاطيه مع الساحة الليبية؛ فبدلا من الاكتفاء بالإشارات أو التحذير من التسلل عبر الحدود، بات يتحدث صراحة عن "تدخل مباشر"، و"مؤامرة دولية". ويعكس هذا التحول شعورا بالتهديد الخطير في لحظة حساسة من الصراع.

وفي المقابل جاء الرد سريعًا عبر بيان القيادة العامة للجيش الوطني الليبي الذي يقوده حفتر.

ورفض البيان "الزج باسم القوات الليبية" في الصراع، مشيرا إلى أن "دورياتنا تعرضت لاعتداءات متكررة من قوات سودانية أثناء تأمينها للحدود".

في حين صرح أحمد سعد أبو نخيلة، آمر كتيبة سبل السلام، بأن قواته التابعة لرئاسة أركان القوات البرية بالجيش الوطني سحقت قوة تابعة لحركتي العدل والمساواة بقيادة وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان بقيادة حاكم إقليم دارفور مني مناوي، وهما حركتان تعملان ضمن القوة المشتركة التي تضم الحركات الدارفورية المتمردة سابقا، لكنها تقاتل في صف الجيش السوداني حاليا.

يقدم رد حفتر نفيًا محسوبًا، إذ لم يقرّ بالتدخل، لكنه برّر اشتباك قواته بـ"الدفاع عن الحدود"، مما يُبقي الباب مفتوحًا أمام استمرار العمليات عبر وكلاء محليين دون تبنٍّ رسمي. في حين ركز تصريح آمر كتيبة "سبل السلام" على استهداف الحركات الدارفورية المنضوية في صفوف الجيش السوداني، وتصوير المعركة على أنها حرب ضد معارضة مسلحة عابرة للحدود، لا صدام مباشر مع الدولة السودانية.

بين هواجس مصر وحسابات حفتر

تكشف هذه التطورات عن طبيعة الحسابات التي تحكم سلوك المشير حفتر حيال السودان. فمن جهة، يتذرع بضرورة تأمين حدود ليبيا الجنوبية من تهريب السلاح وتسلل الجماعات المسلحة، وهي رواية تجد آذانًا مصغية في بعض العواصم الغربية.

ومن جهة أخرى، يُوظف هذه الهواجس الأمنية كغطاء لتوسيع نفوذه الجيوسياسي، لا سيما في مناطق التماس مع تشاد والسودان.

إعلان

وبالنظر إلى أن قوات الدعم السريع وفرت له، في مراحل سابقة، مصدرا للذهب والسلاح، فإن انهيارها دون بديل متوالٍ يشكل خطرًا على معادلاته المحلية.

ويصعب النظر إلى تدخل القوات المحسوبة عليه في الساحة السودانية بمعزل عن شبكة توازناته الإقليمية المعقدة. ففي حين تميل القاهرة إلى دعم الجيش السوداني حفاظًا على استقرار حدودها الجنوبية، تتجه قوى إقليمية أخرى نحو دعم أطراف تتيح لها النفاذ إلى موارد الذهب والسلاح والهيمنة على موارد السودان.

من جهتها، تضع مصر استقرار حدودها الجنوبية في صدارة أولوياتها الأمنية. ولذا فإن اندلاع اشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع مدعومة بعناصر ليبية، قرب مثلث العوينات، يُقلق القاهرة من سيناريو الانفلات الأمني العابر للحدود. فهي تدرك أن أي تعزيز لقوة الدعم السريع على تخوم حدودها يمثل تهديدًا مباشرًا.

ويضع تورط قوات محسوبة على المشير حفتر في مساندة الدعم السريع مصر أمام اختبار مزدوج. فمن جهة لا تفرط القاهرة في خسارة حفتر كذراع استقرار في الشرق الليبي، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع التهاون مع تحركاته إذا مسّت التوازن الحدودي.

ومن المتوقع أن تتبنى مصر خطابًا يركز على "ضبط النفس" و"ضرورة احترام السيادة السودانية"، دون توجيه اتهامات مباشرة لحفتر، مع تكثيف التحركات الاستخباراتية والعسكرية غير المعلنة لضمان عدم تكرار الحادثة، وربما الضغط على حفتر عبر وسطاء لتجميد أي دعم مباشر للدعم السريع في تلك المنطقة الحساسة.

مقالات مشابهة

  • وصول دفعة جديدة تضم 678 من الفارين من قوات الدعم السريع بمنطقة المثلث
  • خبير: العالم منشغل بإيران وإسرائيل.. وفي غزة تستمر الإبادة الجماعية بصمت
  • الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم
  • قتلى وجرحى في غارة بمسيّرة للدعم السريع على الفاشر
  • الحكومة الكينية تنفي تورطها في تسليح الدعم السريع
  • نازحو الفاشر تحت النار.. قصف الدعم السريع يحصد أرواح المدنيين
  • الجيش السوداني وحلفاؤه يتصدون لهجوم عنيف في الفاشر
  • داير أوجّه رسالة صغيرة لأهلنا في الدعم السريع الحاربونا برعاية دول أجنبيّة؛ وللإخوة في تشاد
  • المثلث الحدودي بين ليبيا والسودان ومصر.. صهر الجغرافيا في أتون الحرب
  • بين تهنئة محمد كاكا ودعم حفتر … ماذا يحدث في خاصرة السودان الغربية؟