معركة التحرر من الاستبداد .. كيف السبيل؟
تاريخ النشر: 3rd, August 2024 GMT
اسأل حولك عن فحوى الديمقراطية وهدفها الأول ستسمع أنها نضال من أجل سيادة الشعب أو التمتع بالحريات الفردية والجماعية أو التداول السلمي على السلطة.
لكن الديمقراطية أكثر من مسألة حوكمة رشيدة وعادلة.
تفحص محرك الصراع الأزلي داخل أي مجتمع وستجد أنه رفض وضع اجتماعي أساسه ظلم توزيع الثروة والسلطة والاعتبار، كما يتجسد في النظام الاستبدادي.
الديمقراطية إذن وسيلة من بين الوسائل في معركة التحرر من الاستبداد شبيهة بمعارك التحرر من الاستعمار، علمًا بأن الاستبداد ليس إلا استعمارًا داخليًا كما أن الاستعمار -أو التبعية- ليس إلا استبدادًا خارجيًا.
هي حرب ضد المحتل الداخلي – أكان جيشًا نخر فيه الفساد، أم طائفة، أم عصابة حول مجرم حق عام قاتل وسارق الآلاف- هي أصعب وأشرس حروب الإنسان الفارس في صراعه ضد الإنسان المفترس لتحرير الإنسان الفريسة.
ما المحرك لكلّ هذه الصراعات؟ ما وراء المطالبة بتغيير الوضع الاستبدادي. المنطلق هو غياب جملة من القيم أهمها الحرية والكرامة والعدالة، والهدف هو تحقيق كل هذه القيم لكي تكفّ عن أن تكون مطالب لتصبح واقعًا معاشًا.
معنى هذا أن القيم هي التي يجب أن تكون بوضوح أعلى سلطة لإسناد شرعية أي نظام ديمقراطي، وليس إرادة الأغلبية الانتخابية.
أي قيمة لإرادة الشعب الإسرائيلي رفضه الاعتراف بدولة فلسطينية، ولو كانت نتيجة إجماع شامل كامل وهي ترفض لشعب حقوقه المشروعة.
إذا اعتبرنا أن الشرعية الأولى للنظام الديمقراطي هي القيم، فمعنى هذا أن القبول الطوعي به مرتبط أوثق الارتباط بمدى التزامه بهذه القيم، وافق ذلك أم لم يوافق أهواء أو إرادة الأغلبية.. والعكس بالعكس أي أنه كلما ابتعدت السلطة عبر ما تقول وما تفعل عن هذه القيم، قلّت شرعيتها إلى أن يسحب منها حق إدارة الشأن العام عندما تصبح مواقفها وتصرفاتها في تناقض تام مع القيم المعلنة والتي كانت أساس العقد المجتمعي بينها وبين المواطنين.
إذا جعلنا القيم المصدر الأول والوحيد للشرعية الديمقراطية التي يجب أن تستمد منها كل القوانين والمؤسسات والسياسات حقها في الوجود، فهناك سؤالان:
السؤال الأول: عن أي قيم نتحدث؟
وضعت الثقافة الغربية الحرية على رأس سلّم القيم. إلا أنه أتضح بالتجربة التاريخية في أكثر من بلد وعلى امتداد قرنين أن تأليه هذه الحرية في الشكل الليبرالي المتطرف هو الذي أعطانا الرأسمالية المتوحشة، وكانت وبالًا على قيمة لا تقل أهمية لسلامة أي مجتمع وبقاء أي نظام سياسي ألا وهي قيمة العدل.
أي كرامة لإنسان يتخبط في الفقر وإذلاله حتى ولو كان حرًا في شتم مستغليه أو التظاهر ضدهم. هكذا رأينا سيطرة الأقوى والأذكى والأكثر جرأة ومبادرة لينتهي الأمر بنوع من الحرية المطلقة عديمة المسؤولية لأقلية، وتقلص الحرية عند أغلبية تصارع من أجل البقاء.
هكذا رأينا باسم الحرية توسع الهوة بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون أي شيء حتى في أعرق البلدان الديمقراطية مثل أميركا وبريطانيا. من هذه الثغرة تسللت الأنظمة الاستبدادية خاصة في حضارتنا العربية الإسلامية لتتشدق بقيمة العدل كقيمة القيم، والنتيجة ما نعرف أي ضياع الحرية دون تحقق العدل.
ما أثبتته التجربة التاريخية أيضًا أن تغييب الحرية يؤدّي لتقلص العدل، وتغييب العدل يؤدي لاندثار الحرية. الاستنتاج الذي يفرضه المنطق هو أنه إذا أردنا التقدم بالمشروع الديمقراطي فلا خيار غير اعتبار الحرية والعدل وجهًا نفس قطعة النقد وجعل الحرية في خدمة العدل والعدل في خدمة الحرية.
السؤال الثاني: إذا كانت القيم أيًا كان ترتيبها مصدر شرعية السلطة الديمقراطية، فما هو مصدر هذا المصدر؟
ثمة اليوم مصدران لا أكثر: الخصوصية الدينية والثقافية لهذه الأمة الكبرى أو تلك القبيلة المعزولة في غابات الأمازون، والعالمية المتمثلة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومشتقاته المؤسسة لما يسمى القانون الدولي.
المشكلة ماذا نفعل عندما نريد تثبيت القيم المشرعة للنظام الديمقراطي المنشود في الدستور، ونحن نكتشف تناقضات بين المرجعيتين. إنه التحدي الذي اعترضنا عند كتابة دستور الثورة سنة 2014 وقبله في الثمانينيات عند كتابة ميثاق الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
سنة 1984 كادت الرابطة أن تنفجر وقد أصرّ العلمانيون على أن الإعلان هو وحده المرجعية وتصدى الإسلاميون بقوة لهذا الخيار مذكرين بأنه يتناقض في أربعة بنود مع قيم الإسلام: المساواة التامة بين المرأة والرجل (ترجم المساواة أيضًا في الإرث)، حرية المعتقد (ترجم الحق في الردة)، الحق المطلق في الحياة (ترجم إلغاء عقوبة الإعدام) ثم التساوي بين الأطفال (ترجم ولدوا من رباط شرعي أم لا إضافة إلى السماح بالتبني).
لوأد الفتنة قبل أن تتسبب في تدمير أكبر منظمة للمجتمع المدني الوليد وهي في حرب ضروس مع الاستبداد قلت في جلسة صاخبة للهيئة المديرة: عودوا للإعلان تجدوا أن فيه ثلاثين بندًا، أربعة فقط تطرح إشكالًا مع قيم تراثنا، لكنْ هناك ستة وعشرون بندًا لا خلاف عليها، هل نفضل ونحن تحت القصف المدفعي للاستبداد التجمع حول الستة والعشرين بندًا التي تجمعنا، أم نتقاتل ونتفارق على الأربعة التي تفرقنا؟.
لحسن الحظ تغلب صوت الحكمة واستطعنا تفادي الانشقاق بالاتفاق على ديباجة للميثاق تقول إن الرابطة تستمد مرجعيتها من القيم التحررية للتراث العربي الإسلامي، ومن الإعلان العالمي لحقوق الانسان.
هذا لم يمنع من انطلاق صراع بين الخصوصية والعالمية في ميدان القيم تمثل طيلة التسعينيات في طوفان من الإعلانات الإسلامية والعربية والأفريقية لحقوق الإنسان.
أذكر أنني وضعتها كلها على الطاولة وأضفت حتى الوثيقة الأوروبية وقارنت كل هذه النصوص مع نص الإعلان لأكتشف أنها كلها دون استثناء تقلص من الحقوق والحريات التي ينادي بها الإعلان. لا غرابة في الأمر وقد كان وراءها نظم محافظة أو استبدادية أو مرجعيات دينية متخلفة.
لذلك ناديت طول الوقت بضرورة اعتماد الإعلان كمرجع أساسي للقيم المعاصرة وهو النص الوحيد الذي استطاعت عبر التاريخ كل الخصوصيات الثقافية التوافق عليه سنة 1948 وخاصة لأنه النص الأكثر جذرية في الدفاع عن الحريات والحقوق.
نعم لا بد لنا في عالم معولم من مرجعية قيمية مشتركة بين كل البشر، وليس فقط نفس القوانين لتنظيم الملاحة الجوية أو حماية البحار. قد يكون أهم دليل على أننا لا نخطئ المرمى بهذا الرهان ما حدث مؤخرًا في الغرب من خروج مئات الآلاف من المتظاهرين منهم يهود؛ دعمًا لأهلنا في غزة.
أليس هذا أحسن دليلٍ على وجود قيم إنسانية في ضمائر الملايين من الغربيين خلافًا لما ادعاه طويلًا بعض القوميين والإسلاميين؟ ألا يتطلب منهم الأمر مراجعة أحكامهم المسبقة، وربما التخلي عنها تمامًا إن كانوا نزهاء؟
الحلقة الأخيرة: تحيين الوسائل لتحقيق الأهداف
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات
إقرأ أيضاً:
خبير عن تجاوزات «تيك توك»: لابد من تدريس مادة «القيم».. وهذه عقوبة خدش الحياء وتهديد القيم المجتمعية
في ظل تصاعد الجدل المجتمعي حول المحتوى المتداول عبر منصات التواصل الاجتماعي، خاصة تطبيق "تيك توك"، وما يتضمنه من مشاهد يعتبرها البعض خادشة للحياء أو مهددة للقيم المجتمعية، دعا الدكتور حمدي عرفة، خبير الإدارة المحلية، إلى تفعيل القوانين القائمة التي تمنح المحافظين صلاحيات واضحة لمواجهة هذه الظواهر، مطالبًا في الوقت ذاته بتشديد الرقابة على المحتوى الإعلامي والفني، وتوسيع نطاق التوعية المجتمعية بدءًا من المدارس وحتى وسائل الإعلام.
حمدي عرفة: قانون المحليات يمنح المحافظين سلطة مواجهة محتوى التيك توك الخادش.. لكن لم يتحرك أحد
وقال الدكتور حمدي عرفة، خبير الإدارة المحلية، في تصريحات خاصة لموقع "صدى البلد"، إن هناك العديد من القوانين المصرية التي تُجرّم نشر الفسق والفجور وخدش الحياء العام وهدم القيم المجتمعية، مشيرًا إلى أن هذه القوانين موزعة بين قانون التعليم، وقانون العقوبات، وقانون الإدارة المحلية.
وأضاف أن "المفاجأة الحقيقية"، حسب وصفه، تكمن في قانون الإدارة المحلية رقم 43 لسنة 1979، الذي يمنح المحافظين سلطة اتخاذ القرارات المناسبة في كل ما يتعلق بالرأي العام أو يهدد أمن المجتمع داخل محافظاتهم، وذلك بالتنسيق مع مديري الأمن، وفقًا للمادة 25 من القانون.
عرفة: لم يُفعّل أي محافظ هذه الصلاحيات رغم وضوح القانون
وأكد عرفة أن "القانون واضح وصريح"، ومع ذلك لم يُقدِم أي محافظ على تفعيل هذه الصلاحيات، لافتًا إلى أن "المفترض أن يكون المحافظ بمثابة رئيس الجمهورية داخل محافظته"، وفقًا للمعايير الدولية، لكن الواقع في مصر يشير إلى تجميد تلك الصلاحيات بشكل كبير، على حد تعبيره.
قانون العقوبات يحسم الجدل: الحبس والغرامة للمخالفين
وأوضح خبير الإدارة المحلية أن المادة 178 من قانون العقوبات تعاقب كل من ينشر محتوى يخدش الحياء أو يهدد القيم المجتمعية، سواء على وسائل التواصل الاجتماعي أو في الإعلانات أو في الأماكن العامة، بالحبس لمدة تبدأ من شهر وتصل إلى سنتين، بالإضافة إلى غرامة مالية تتراوح بين 10 آلاف و20 ألف جنيه.
مادة "القيم واحترام الآخر" لا تُفعل بالشكل المناسب
وشدد عرفة على أهمية مادة "القيم واحترام الآخر" التي تُدرّس حاليًا في المرحلة الابتدائية، مؤكدًا أنها لا تُدرج ضمن المجموع الكلي للطالب، وهو ما يقلل من قيمتها التربوية في نظر الطلاب وأولياء الأمور.
وطالب وزارة التربية والتعليم بتعميم هذه المادة على المراحل الإعدادية والثانوية، وإدخالها في المجموع لزيادة فاعليتها وتأثيرها.
عرفة: المسؤولية تشاركية بين الحكومة والأسرة والمجتمع
وأشار إلى أن حماية القيم المجتمعية ليست مسؤولية الحكومة وحدها، بل مسؤولية مشتركة تشمل الأسرة، والمدرسة، ووسائل الإعلام، ومراكز الشباب، والجامعات، لافتًا إلى ضرورة تنظيم حملات توعية، ودورات تثقيفية، وبث برامج إعلامية تشرح القوانين والعقوبات المرتبطة بالمحتوى غير اللائق.
محتوى خادش في المسلسلات والأفلام أيضًا
وأكد عرفة أن المواد الخادشة للحياء لم تعد مقتصرة على "تيك توك"، بل امتدت أيضًا إلى الأفلام السينمائية والمسلسلات، وهو أمر بالغ الخطورة نظرًا لتأثير الإعلام على تشكيل وعي المجتمع، خاصة أن أكثر من 60% من فكر المواطن المصري يتكون من خلال ما يُعرض على الشاشات، بحسب تعبيره.
واختتم عرفة تصريحاته بدعوة الحكومة إلى تشديد الرقابة على المحتوى الفني والإعلامي، مشددًا على أن وجود مجتمع ناضج وسليم أخلاقيًا ونفسيًا يبدأ من غلق "الثغرات الإعلامية" التي تسمح بمرور هذا النوع من المحتوى.