في بلد كان النظام الجمهوري مولوداً حديثاً، مثل اليمن الذي انتصر الشعب لإرادته في 26 سبتمبر/ أيلول 1962، كانت الأطماع الدولية حاضرة بقوة في محاولات بائسة لإيجاد موطئ قدم لها، إمّا عبر إعادة قوى من النظام الإمامي أو بفرض قوى موالية في النظام الجمهوري، ولذا كانت الانقلابات والتصفيات السياسية والعسكرية وليدة هذه الأطماع، إلا أن إرادة الشعوب الحرة لا تستكين، وهذا ما يعيدنا إلى عزيمة وقرار قائد وشعب قبل أربعة عقود.

خلال نحو عقدين ونصف العقد منذ قيام ثورة 26 سبتمبر/ أيلول، تعاقب على رئاسة النظام الجمهوري في اليمن أكثر من أربعة رؤساء، إلا أن الاطاحات كانت حاضرة بقوة لدى جميعهم ولكن بصيغ تفاوتت بين التنحي تحت الضغط والإكراه أو التصفية، في مؤشر أيضاً على الصراع الداخلي للقوى اليمنية، إمّا لفرض القبيلة هيمنتها أو لتهميش الحاكم طيفاً كبيراً من أبناء المجتمع ذي التنوع الثقافي والجغرافي والسياسي.

تولّي مقاليد الحكم لم يكن أمرا هيّنا، ويتطلب من الحاكم احتواء جميع هذه الأطياف والتنوعات، وتقويض النفوذ الدولي في بلد نظامه الحديث لا يقوى على الثبات أمام كل هذه التباينات إن لم تؤخذ جميعها بعين الاعتبار، وإلا مصيره السقوط إما بـ"عسيب القبيلة" أو برصاصة "المشروع الخارجي"، ولذا كان الحكم في اليمن أشبه بالانتحار.

بعد تساقط أكثر من أربعة رؤوساء بطرق متفاوتة، بينهم رئيسان أُغتيلا في عامي 1977 و1978، وهما: "إبراهيم الحمدي ثم أحمد الغشمي"، كان تولي منصب رئيس الجمهورية أشبه بمغامرة، ولذا رفض الكثيرون تولي هذا المنصب، وتحديداً في هذه الفترة، حتى اجتمع مجلس الشعب واختار بالإجماع المقدم علي عبدالله صالح، رئيساً للبلاد.

علي عبدالله صالح، الضابط الشجاع في القوات المسلحة، وأحد أبطال ملحمة السبعين في حصار فرضته جحافل الملكيين على العاصمة صنعاء، حمل كفنه على يده -حسب تأكيده في أكثر من خطاب "رحمه الله"، وتأكيد الكثير من مؤرخي تلك الحقبة- وقبل بالمنصب الذي لم يكن "مغنما وانما مغرم" حد تاكيداته المتواترة، احتراماً لإرادة مجلس الشعب، ووفاءً لشعب يتوق للانعتاق من النظام الإمامي الكهنوتي الذي يتربص بالنظام الجمهوري منذ إطلاق شرارته صبيحة 26 سبتمبر.

غلو وتطرف

الحكم في اليمن ذي التنوع الاجتماعي والسياسي، يتطلب قائدا شجاعا ورؤية سياسية ثاقبة، وفوق ذلك الاستفادة من تجارب سابقيه، خصوصا والطريق أمامه لم يكن مفروشا بالورود. كما أن النظام الإمامي للنظام الكهنوتي لأسرة "بيت حميد الدين" عمل بمنهجية على تفتيت النسيج الاجتماعي في شمال اليمن، ومثله الاستعمار البريطاني في جنوبه حتى بعد ثورة 14 أكتوبر 1963. بل إنهما لا يزالان حاضرين عبر اذرعهما في الشطرين، ولذا مشروع تحقيق الوحدة اليمنية، حلم الشعب وصمام أمان الشطرين لا يزال رهن هذه المؤامرات.

الحل الوحيد هو بتأسيس كيان شامل وجامع في شمال اليمن أولاً، يستند في نظامه وأهدافه وقيمه إلى الدين الاسلامي الذي يعتنقه هذا الشعب، بعيدا عن الغلو والتطرف، وإلى اعرافه واسلافه القبلية والسياسية، من ناحية لضمان التفاف جميع المكونات حوله، ومن جانب آخر لضمان وحدة رؤية العمل المشترك لتحقيق أهداف هذا الشعب في مقدمتها تحقيق الوحدة اليمنية، ومن هُنا انبثقت ولادة اعلان تأسيس حزب المؤتمر الشعبي العام، حزبا لكل الشعب اليمني، في 24 اغسطس 1982، الذي يصادف يوم غد السبت الذكرى الـ42 لتأسيسه.

نجح رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح في هذا القرار، حيث اعلن السواد الأعظم من القوى القبلية والمكونات السياسية الوطنية الانضمام إلى هذا الحزب، واختيار "صالح" رئيساً للحزب، وقاد سفينة البلاد باقتدار ووسطية إلى بر الأمان لأكثر من ثلاثة عقود، رغم بقاء حفنة من المأجورين للقوى الدولية واموالها على عهدهم، يوجهون طعناتهم في خاصرة الوطن وأمنه واستقراره بين الحين والآخر، فكانوا سبباً رئيساً لانزلاق البلاد في أتون الصراعات والاقتتال بين الحين والآخر، لكن النصر في نهاية المطاف كان حليف إرادة الشعب.

نجح أيضاً حزب المؤتمر الشعبي العام، الحاكم في البلاد في بناء علاقات محلية ودولية واسعة ازدادت نموا وازدهارا من عقد لآخر. محليا توجت بتحقيق الوحدة اليمنية مع شريكة الحزب الاشتراكي اليمني في جنوب اليمن، ودخول البلاد مرحلة جديدة من الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية، والانتخابات المباشرة (محلية، برلمانية، رئاسية) في قفزة استثنائية على مستوى المنطقة لبلد لم يهنأ بالاستقرار لعقد كامل، حظيت باشادات دولية. ودولياً، دخل اليمن في اتفاقات دولية عديدة اقتصادية وحقوقية وإنسانية، وكان شريكاً فاعلاً على مستوى المنطقة والعالم في مواجهات الإرهاب، في البر والبحر.

هذا التطور، والاستقلال في القرار، لم يرق للقوى الدولية الطامعة في الموقع الاستراتيجي اليمن الواقع على أهم مضيق عالمي (باب المندب) ويمتلك اطول شريط ساحلي على البحرين الأحمر والعربي، خصوصاً من الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية إيران الإسلامية. الأولى خططت للانقلاب على النظام منذ منتصف العقد الأول للقرن الحالي، واستغلت فوضى ربيع 2011 لتنفيذه، بتعاون أدواتها الاستخباراتية في البلاد من القيادات السياسية والقبلية، وشاركتها في ذلك الأخيرة التي تحمل المشروع التوسعي الشيعي، واستعانت باداوتها (مليشيا الحوثي)، وانقضّت أكثر على النظام في انقلاب 12 سبتمبر/ أيلول 2014، انتقاما لاسلافها الكهنوتيين من ثورة 26 سبتمبر 1962.

غرقت البلاد في صراع حاملي المشاريع الخارجية، وصُودرت السيادة والقرار الوطني، والحقوق والحريات، وأُلغيت الأحزاب والانتخابات، وأصبحت إدانة ضد أصحابها او من يُطالب بها، وأُغلقت مقار القنوات الفضائية والإذاعات ومطابع الصحف والمجلات، وتحوّل الوطن إلى كنتونات ومليشيا، ومزّق النسيج الاجتماعي، وساد الفساد والظلم والجور في البر والبحر، ودخل اليمن تحت البند السابع بقرار من مجلس الأمن الدولي، في تدحرج واضح إلى حقبة ما قبل ثورة سبتمبر 1962.

لأكثر من عقد والشعب والبلاد يرزحان تحت هذا العبء، سيما والقوى الدولية المتصارعة ربطت مصير هذا البلد ذي التاريخ والموقع الاستراتيجي العالمي، بها. إلا أن إرادة الشعوب الحرة لا تستكين، وحتماً ستنتصر لتضحياتها ولو بعد حين.

المصدر: وكالة خبر للأنباء

كلمات دلالية: النظام الجمهوری أکثر من

إقرأ أيضاً:

تدشين مؤتمر شركاء لأجل اليمن 2025 في العاصمة الماليزية

انضم إلى قناتنا على واتساب

شمسان بوست / كوالالمبور:

انطلقت في العاصمة الماليزية كوالالمبور، اليوم، أعمال مؤتمر “شركاء لأجل اليمن 2025″، الذي تنظمه الوكالة اليمنية الدولية للتنمية، ومؤسسة إنسان للتنمية والإغاثة الإسلامية، والهيئة الخيرية الإسلامية العالمية من الكويت، ومؤسسة قدوة من إندونيسيا، ومنظمة MyCar الماليزية، وبمشاركة واسعة من عدد كبير من المنظمات الإنسانية الإقليمية والدولية.

ويهدف المؤتمر الذي حضوره، نائب وزير التربية والتعليم الدكتور علي العباب، وسفير اليمن لدى ماليزيا عميد السلك الدبلوماسي العربي الدكتور عادل باحميد، إلى بحث سبل تعزيز الدعم الإنساني والتنموي لليمن، وتنسيق الجهود المشتركة لمواجهة التحديات الراهنة، ووضع خارطة طريق عملية لمشاريع الإغاثة والتنمية، مع التركيز على قطاع التعليم.

واشتمل المؤتمر، على جلسات نقاشية وورش عمل متخصصة، استعرضت أبرز التحديات الميدانية والفرص المتاحة، إلى جانب عرض قصص نجاح لمشاريع إنسانية وتنموية نُفّذت في اليمن خلال الأعوام الماضية، بهدف البناء عليها وتوسيع نطاقها.

مقالات مشابهة

  •  المؤتمر العفاشي .. جناح العمالة وورقة العدو التخريبية في اليمن
  • تدشين مؤتمر شركاء لأجل اليمن 2025 في العاصمة الماليزية
  • بين قيادة إيمانية ووعي شعبي .. التكامل الذي هزم المشروع الصهيوأمريكي
  • هل اليمن الاتحادي هو الحل؟
  • نظام الدفع الأفريقي الموحد.. ما الذي يعنيه انضمام الجزائر لأكبر شبكة تسوية مالية في القارة؟
  • الأمم المتحدة تستعد لتشكيل لجنة حوار سياسي جديدة في ليبيا
  • حزب صوت الشعب يدعو إلى الحسم السريع ودعم مسار سياسي واضح
  • الخارجية السورية ترفض مؤتمر الحسكة.. تصدير لرموز النظام المخلوع
  • مصدر مسؤول في الحكومة السورية عن مؤتمر قسد: هذا المؤتمر خرق للاستحقاقات التي باشرت الحكومة السورية في تنفيذها بما في ذلك تشكيل هيئة العدالة الانتقالية وبدء أعمالها، ومسار الحوار الوطني الذي أطلقته الحكومة السورية في شباط الماضي والمستمر حتى إيصال البلاد إ
  • مصدر مسؤول في الحكومة السورية عن مؤتمر قسد: إن ما جرى في شمال شرق البلاد لا يمثل إطاراً وطنياً جامعاً بل تحالف هشّ يضم أطرافاً متضررة من انتصار الشعب السوري وسقوط عهد النظام البائد وبعض الجهات التي احتكرت أو تحاول احتكار تمثيل مكونات سوريا بقوة الأمر الوا