همس الحروف – بادر بجهدك و بما تستطيع في دعم السلاح الطبي «مبادرة معكم في رباطكم» – الباقر عبد القيوم علي
تاريخ النشر: 10th, August 2023 GMT
لا شك أن للشباب الدور الأعظم في دعم التنمية المجتمعية و ذلك من خلال إنجاح المبادرات التي تدفع بالأعمال الوطنية الجادة ، لا بالشعارات الجوفاء و تتشكل منها نماذج كثيرة مشرفة تسهم في ترسيخ مفاهيم القيم الوطنية الأصيلة و حب الوطن الخالص بصورة تجسد على أرض الواقع صوراً مشرقة و مشرفة بالأفعال لا بالأقوال .
أربعة أشهر من عمر الزمان و قواتنا المسلحة تبلى بلاء حسناً في ميدان معركة الكرامة و قد قدم جنودنا البواسل نموذجاً فريداً في التضحية بالنفس و النفيس ، و من الواجب علينا الوقوف مع مؤسستنا الحربية جنباً إلى جنب و في نفس الخندق ، و تتكاتف الأيادي حتى النصر ، و بهذا أناشد كل القادرين من شيبة و شباب بلادي أن يقدموا كل انواع الدعم الممكن : (معنوياً ، عينياً و مادياً) و ذلك حسب الإستطاعة ، و لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، و حتى لا يفوتنا شرف الجهاد في سبيل الله ثم الوطن يجب على الجميع من هذا المنطلق الذي يرادف قول الحق عز و جل : ( انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون َ) .
التوبة /41
و قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ – تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(سورة الصف : الأية 10- 11)
و من المؤكد أن الجهاد بالنفس يعتبر أرفع درجة من الجهاد بالمال إلا أننا نجد في مواضع كثيرة أن الله قدم الجهاد بالمال قبل النفس لانه يسهم إسهاماً مباشراً في الإعداد الحربي و كل جهد مبذول يعتبر جهاداً في سبيل لله طالما كانت النوايا خالصة لله تعالى ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من جهز غازياً فقد غزى) ، و من هذا الباب الذي يجعل الجميع في درجة المجاهدين بإسهاماتهم المختلفة و إن (كانت قليلة) فهي إسهامات ستكون مقدرة و ستغير في الواقع إلى الأحسن ، و لهذا أهيب بجميع غرف و إتحادات الحرفيين و أصحاب المهن بصورة خاصة و الغرف التجارية و التجار و عموم أفراد الشعب السوداني من القادرين أن يسهموا في تقديم أي جهد أو مساعدة ممكنة و يأتي هذا النداء مخاطباً الجميع على إمتداد هذا الوطن ، و بصورة خاصة أوجه هذا النداء لمواطني الولاية الشمالية (تحديداً) لأجل تقديم الدعم اللازم الذي يتمثل في الصيانة العاجلة لمستشفيات (السلاح الطبي) و أخص بالتحديد مستشفيي مروي و دنقلا العسكريين ، فهما في حاجة ماسة و ملحة لأعمال صيانة في التكييف و بعض الحدادة و السباكة و النقاشة و أعمال الصيانة العامة و اعمال النظافة المتخصصة حتى يكونا واجهتين مشرقتين يمكننا من خلالهما أن نستقبل و بكل فخر ضيوفاً أعزاء و أحباء لنا من جند بلادي ، حماة الأرض و العرض قدموا إلي ولايتنا بعد أن تعرضوا للإصابة في ميادين معركة العزة و الكرامة نسأل الله لهم عاجل الشفاء .
مثل هذه الأعمال الجليلة التي تمثل أجمل صور العطاء و البذل و الإيثار و كل القيم التي تحمل أجمل أنواع الخير الذي يلامس طبيعة الحاجة الواقعية للناس و حسب الظروف التي تمر بها البلاد ، حيث تعتبر هذه الأعمال أهم مقومات ملامح الشخصية السودانية التي يفتخر إنسانها بانه فرد من ضمن منظومة قيمية راقية و واسعة الطيف .
هذه المبادرة (معكم في رباطكم) تناشد جميع أفراد الشعب السوداني لتغطية الحاجة الفعلية لمستشفيات (السلاح الطبي) في عموم السودان ، و أخص في هذه المبادرة بالتحديد الولاية الشمالية و التي كغيرها من ضمن ولايات السودان التي تسهم في إستقبال بعض حالات (مصابي العمليات) ، و من الواجب علينا هنا في الولاية الشمالية تهيئة مستشفيي مروي و دنقلا العسكريين بصورة أفضل من وضعهما الحالي لإستقبال هذه الحالات ، و مساعدة القائمين على أمرهما ، وكما نناشد أيضاً كبار الإختصاصيين في كل التخصصات الذين قدموا من الخرطوم بسبب ظروف الحرب أن يقدموا كل ما هو بمقدورهم و مساعدة زملائهم في كل من مستشفيي دنقلا و مروي ، و أن ينالوا من هذا الشرف الباذخ في خدمة المصابين ، و ذلك بالتعاون مع القائمين على أمرهما في تقديم الخدمات الطبية و العلاجية الجيدة ، و يمكن ان يكون ذلك بالمشاركة في العمليات الجراحية ، و كل ما يرفع من جودة الخدمات الطبية و الصحية بالمستشفيين ، مع توفير الأدوية اللازمة حتي يتحقق القدر الأكبر من كل ما يخدم راحة المصابين ، الشيء الذي يعجل بشفائهم إن شاء الله ، و كذلك نناشد الجميع من أجل الوقوق مع هؤلاء المرضى و المصابين (معنوياً و مادياً) ، لنرسم بذلك أجمل لوحات التلاحم الرائع بين الشعب و قواته المسلحة من الولاية الشمالية .
المصدر: نبض السودان
كلمات دلالية: الحروف الولایة الشمالیة
إقرأ أيضاً:
الريشة السوداء لمحمد فتح الله.. عن فيليس ويتلي القصيدة التي تمشي
هي رواية عن أفريقيا يكتبها عربي من شمالها، هو الروائي والشاعر الليبي محمد فتح الله، وهي قصة شاعرة أفريقية من زمن العبودية. رواية بكر، قصَد فيها كاتبها تأمل الوجود وظلمه وخسارات المبدع فيه، والكتابة حين تكون لحظة مقاومة يتنازع فيها الشاعر مع السارد أو يأتلفان لإبداع رواية تليق بالشاعرة "فيليس ويتلي".
"فيليس الريشة السوداء" حكاية الشاعرة الأميركية من أصل أفريقي فيليس ويتلي، وإن بدت القصة فيها معروفة وشائعة ولطالما تغري بالتناول، إلا أن فتح الله يعيد ترتيب الحكاية بما يجعلها قصيدة طويلة وتأملية وفلسفية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2وليد سيف يختتم رباعيته الأندلسية برواية “غرناطة آخر الأيام”list 2 of 2الوجع والأمل في قصص "الزِّرُّ والعُرْوَة" لراشد عيسىend of listالبطولة فيها هي خسارات الكائن البشري، والفقد والحزن والذاكرة والشعر أيضًا حينما تكتبه شاعرة سوداء فتملأ الكون بياضًا. والفضاء فيها غامبيا، التي تشع بياضًا وألفة كلما ذُكرت الشاعرة السوداء، وأميركا سوق يُباع فيها من كانوا أحرارًا في بلادهم.
كتبت فيليس في ليل عبوديتها ببوسطن عن "الآلهة والشياطين، عن جورج واشنطن زعيم أميركا، كما عن يسوع، عن أفريقيا التي وُلِدت فيها دون أن تتذكر ملامحها، وعن أميركا من غير أن تفتح لها ذراعيها يومًا".
هي إذن فيليس التي "كانت أَمَة، ثم شاعرة، ثم زوجة، ثم أمّا، ثم فقيرة منسية".
يرتب فتح الله حكايته كقصيدة، لكنه يبدأ من خاتمتها في فصل أول هو "نهاية قصيدة"، اكتملت، بدأت في شهقة ولادة بغابات غامبيا وانتهت بشهقة الموت في بوسطن في غرفة منسية مهجورة.
وبينهما حكاية الفتاة التي أخذت اسمها الجديد من اسم السفينة التي أقلتها من غامبيا "فيليس"، وأخذت لقبها من عائلة أصبحت خادمة لديها "ويتلي".
ولادة فيليس ولادتان: الأولى في غامبيا التي غادرتها في سفينة العبيد في السابعة من عمرها مأسورة ومرغمة، والثانية في بوسطن. في الأولى أمسكتها يد غليظة وقادتها إلى ملاذها عبدة في أميركا، وفي الثانية ولدت في بوسطن حيث أمسكت هي ريشتها السوداء لتخط بها قصائدها.
تطل غامبيا من شقوق ذاكرة فيليس بغاباتها ونهرها الذي يدلها خريره على بيتها كلما تاهت قدماها في غابات قريتها في الغرب الأفريقي.
إعلانترسم عبر استدعاء الذاكرة بيوت الطين وأقواسها، وضوء النهار، "إذ يتسلل إلى أكواخ الطين والقصب كأنه يريد أن يوقظ أحدًا، يلامس وجوه الجدات، ويمسح برؤوس الأطفال النائمين بلا أحلام".
أما أمها فكانت "قصيدة شفوية لا تكتمل، كأغنية لا يسمح لنا بإنشادها كاملة".
شعر يليق بفيليسعبر صفحات الرواية كلها لا يتحرر فيها فتح الله من الشاعر فيه، وتبدو الرواية قصيدة تأملية طويلة، رواية لا تتشعرن إلا بالقدر الذي أراده روائي حاذق يكتب عن شاعرة، ويريد لسرده أن ينطق لغتها أيضًا.
هكذا بدا اسمها، التي لم تعد تذكره، "ربما يشبه تغريدة طائر، أو قبلة أم على جبين طفل رضيع"، أما أبوها "فكان طويلًا كأن قامته جذع شجرة. كنت أراه يسير في الغابة فينصت له الطين، وتتبعه النسور من أعلى كما يتبع الأنبياء أتباعهم".
غامبيا إذن الجنة الأولى التي انتُزعت منها "ويتلي" أو فقدتها مع كل لحظة مأساوية تعصف بها. يبدع الروائي والشاعر الليبي محمد فتح الله، المولود في بنغازي عام 1981، في لوحاته التأملية التي تتفتق عنها مخيلة شاعر.
يكتب في لوحة أولى عن الفقد، إذ هو أحد التجليات النفسية لويتلي، فهو "ليس انكسارًا، بل انكشافًا، انكشاف الإنسان على هشاشته، على حدود فهمه، على جرحه الوجودي القديم".
وكتب عن الحزن، وعن النسيان باعتباره ليس انتصارًا على الحزن بل تعايشًا معه، فهو كمن يعقد هدنة مع ألم لا سبيل إلى هزيمته، فيصادقه ويمنحه غرفة صغيرة في البيت، يشعل له قنديلا ويقول له: "ابق هادئًا لا توقظ ما مات".
تقول السيرة الذاتية لفيليس ويتلي إن الفتاة الهزيلة ضعيفة البنيان، لدى استقرارها في بوسطن عند عائلة ويتلي، إنه بالقدر الذي عاشت فيه حياة الخادمة والعبدة، بقدر ما منَحها ذلك البيت الأميركي فرصة الإطلال على عالم القراءة والكتابة.
فقد تولى ابنا جون ويتلي، رب العائلة وسيد فيليس، تعليمها القراءة والكتابة، وبذلك انغمست فيليس في اكتشاف الإنجيل وعلم الفلك والجغرافيا والتاريخ والأدب البريطاني، وتأثرت على نحو خاص بالشاعرين الإنجليزيين جون ميلتون وألكسندر بوب، إضافة إلى تأثرها بالكلاسيكيات اليونانية.
كتبت فيليس أولى تجاربها الشعرية عام 1767، وهي في سن الـ14 تقريبًا، ونشرتها "صحيفة نيو بورت ميركوري" (Newport Mercury)، إلا أن مرثية "القس جورج وايتفيلد" -التي نشرت عام 1771- تعدّ العمل الشعري الذي بفضله بدأ تداول اسمها على الصعيد الوطني الأميركي، لا سيما أنها لاقت إعجاب قراء الصحيفة.
وجد هذا الرثاء المؤثر جمهورًا في كل من الولايات المتحدة وإنجلترا، ولأن المرثية نُشرت مصحوبة بالتعريف بالمؤلف على أنها امرأة مستعبدة، ففُتِن عدد من القراء بالشاعرة والقصيدة معًا.
ويرصد فتح الله معاناة سوداء تكتب شعرًا، فهو اختصاص الغالب والقاهر والسيد، أما العبد كما في التراث العربي فـ"لا يجيد إلا الحلب والصر".
وفي واحدة من قصائدها وعلاقة الآخر بها تقول:
"إن كانوا يرونني مرآة
فسأعكس لهم صورهم
لكن بالحبر الذي أختاره".
في البيت الجديد يوغل الروائي فتح الله عبر رواية الساردة العليمة فيليس ويتلي، ويظهر بيتًا ممزقًا، يعيش أفراده في حال اغتراب، وينتهي بموت الأب والأم.
إعلانيبني فتح الله روايته كما لو أنه يكتب ديوان شعر؛ يختار فصول روايته كما لو كانت عناوين قصائد: "نهاية قصيدة، جنة أولى، الطريق إلى البحر، الليل الأخير، غامبيا: أغنية الماء الأخيرة، غامبيا أربعة أشياء قبل النسيان، غامبيا حين ودعتني الأشياء، في البحر، موت عادي جدًا، قرب وبعد، مدينة لا ترى السماء، بيت لا يعرف الضحك، مولي امرأة بلا ظل، الطفل الذي لم يرني، سيد البيت وظله، سيدة لا ترفع صوتها، في بيت آل ويتلي، في حضرة الحرف الأول، الطفل الذي يتهجى صمته"، ويختم فصول الرواية بالقصيدة التي ماتت معه.
الكتابة فعل مقاومةعلى سرير موتها تلخص فيليس فلسفتها عن الشعر وجدوى الكتابة التي رفعتها لدى سيدها حينا ما لبثت أن تجاهلها ورماها إلى أقدارها، سوداء يقتلها الجوع والحياة الرديئة.
تقول: "فهمت أن الكتابة لم تكن خلاصًا بل مقاومة، وأن الشعر لم يكن موهبة، بل جسرًا مشى فوقه صوتي ليصل إلى ذاته، وأن الرب الذي كنت أكتب عنه كثيرًا، لم يكن يسكن الكنيسة، بل قلبي حين لا يقوى على شيء إلا الحرف. أنا فيليس بنت غامبيا التي لم أعد إليها، ابنة العبيد الذين لم يُدوَّن لهم نسل".
ماتت ويتلي عن عمر ناهز 31 عاما، وكانت أول امرأة إفريقية تنشر ديوانًا شعريًا في العالم الناطق بالإنجليزية. ماتت، ولكن اسمها بقي كجملة ناقصة، رفض التاريخ أن يتمها فأتمها الشعر.
عن عوالم روايته البكر وينابيع ثقافته، التقت الجزيرة نت الروائي والشاعر محمد فتح الله، وكان هذا الحوار:
ربما أغراني فيها ذلك التناقض العجيب بين وهن الجسد وقوة الكلمة. فيليس ويتلي كانت كأنها قصيدة تمشي على رماد التاريخ، أنثى سمراء تُقتاد من ضفاف أفريقيا مكبّلة، ثم تُكتب في دفاتر البيض كأنها خطأ في دفتر العبودية. كنتُ أرى في حياتها سؤالًا يتجاوز حدود اللون والرقّ: كيف يمكن للإنسان أن يصير شاعرًا وهو لا يزال يُباع ويُشترى؟
لقد أغرتني سيرتها لأنها لم تكن بطلة بمعنى البطولة التقليدية، بل كانت كائنًا يقاوم بصمته، بعقله، بسموه الداخلي، بقدرته على جعل الألم جمالًا. أردتُ أن أكتب عنها لا باعتبارها امرأة من الماضي، بل باعتبارها مرآة للحاضر، مرآة لكل روحٍ ما زالت تبحث عن معنى لحريتها، عن خلاصٍ داخل اللغة ذاتها.
عشت معها عبوديتها لأنني أدرك معنى أن يسلب من المرء إرادته وحريته واسمه، فقد عشت هذا السلب في سجون القذافي في أبو سليم سيئ الصيت تحديدا في طرابلس، وأنا الآن عاكف على عمل يحكي هذه التجربة المريرة التي كانت فاصلة في حياتي وتكويني النفسي والأدبي واللغوي.
اللغة كائن حي ثمة لغة شفيفة تلامس تخوم الشعر وكأننا أمام شاعر يكتب رواية، كيف تفسر هذا التداخل؟أنا لا أؤمن بالحدود بين الأجناس الأدبية، بل أؤمن بأن اللغة نفسها هي الكائن الحيّ الذي يتشكل وفق انفعال الكاتب. حين أكتب، لا أسأل نفسي: هل أنا أكتب رواية أم قصيدة؟ بل أسأل: هل أنا أقول الحقيقة كما ينبغي أن تُقال؟
ربما تسلّل الشعر إلى السرد لأن القصة في جوهرها قصيدة طويلة، لأن الإنسان لا يحكي إلا ليُخفّف من وطأة صمته، ولا يصف إلا ليُعيد ترتيب العالم كما يراه قلبه. اللغة عندي ليست وسيلة نقل، بل وسيلة خلاص. لذلك جاءت الرواية محمّلة بنبرةٍ شعرية، ليس تزيينًا للأسلوب فحسب، ولكن لأن صوت فيليس ويتلي نفسه كان شعرًا منذ البداية، حتى حين كانت تصمت.
الشيء بالشيء يذكر، نعم أنا أنظم الشعر ولي ديوان "ناشئة الشوق" تحت الطبع في دار الوليد بطرابلس ليبيا، بعض قصائده كتبتها في الظلام في السجن وكانت أصدق وأعمق عاطفة لأنها تفتقت من تربة المعاناة ومشقة الكتمان.
تكويني الأدبي تشكّل عند تقاطع الشعر بالفكر، والوجدان بالتاريخ، كل ذلك كان تحت مظلة الصمت والتأمل، التأمل في الناس حولي في كلامهم وشعورهم، في نفسي أنا. كنتُ دائمًا أبحث عن معنى الإنسان في منطقة الظل، حيث لا يضيء المنطق ولا تكفي اللغة. الفلسفة بالنسبة إليّ ليست تنظيرًا، وإنما تجربة روحية.
ولا أغفل نشأتي الأولى في الكتاتيب وحفظي للقرآن ذلك المعجز اللغوي الذي جعلني أتذوق الكلمة وأتأمل الحرف فأندهش للمعنى.
ربما تأثرت بمدارس عديدة دون أن أكون أسيرًا لأيٍّ منها؛ استهوتني الأسئلة التي طرحها الوجوديون حول الحرية والقدر، كما سحرتني النظرة الصوفية إلى العالم، تلك التي ترى في المعاناة طريقًا إلى الصفاء.
في الريشة السوداء حاولت أن أجعل من سيرة فيليس مرآةً للروح البشرية وهي تواجه سؤالها الأبدي: من نكون حين تُسلب منا أسماؤنا؟ كل ما كتبته في الرواية هو محاولة للاقتراب من تلك الإجابة التي لا تُقال بالكلمات، بل تُحَسّ بالنور والظلمة معًا.
الروايات الأولى تحمل إرهاصات البداية ووهمها وشهوتها، هل خامرك هذا الإحساس أثناء الكتابة؟نعم، وربما لهذا السبب بدت الرواية بالنسبة إليّ أشبه باعتراف طويل. كنتُ أكتب وأنا أشعر أنني أضع قلبي للمرة الأولى على الورق، دون أقنعة، دون هندسة مسبقة. الرواية الأولى لا تُكتب بالحدس، بالقلق، بالرغبة في أن تقول كل ما لم يُقل بعد.
شعرتُ أحيانًا بأنني أركض وراء وهْم الكمال، وأحيانًا أخرى بأن الرواية تكتبني أنا. كانت تجربتي مع الريشة السوداء أشبه بولادة مؤلمة، فيها الفوضى والعشق والصدق جميعًا. وربما لو لم تكن الأولى لما تجرّأت على أن أكون بهذه العري الروحي أمام القارئ.
نعم، فيها وهم البداية، لكن أيضًا فيها لذّتها الطفولية، تلك التي لا تُستعاد إلا مرة واحدة.
كتب الكثير عن أفريقيا والاستعمار والعبودية، هل برأيك ما زالت ذيول الاستعمار والإمبريالية والعنصرية موجودة على الصعيد الإبداعي في الغرب؟بلا شك، ما زالت موجودة ولكنها ارتدت أقنعة جديدة. الاستعمار استغنى عن الجيوش التي تعبر البحار، وأصبح سردياتٍ تعبر العقول. الغرب ما زال يكتب عن أفريقيا كما لو كانت أرضًا رمزية لا بشر فيها، يختزلها في الغرابة والحرارة والغابة، ولا يرى فيها عمق الروح.
الإمبريالية الأدبية أخطر من السياسية، لأنها تُعيد إنتاج الهيمنة عبر اللغة، عبر الصورة، عبر تصدير مفهوم "الإنسانية" من منظور واحد، ولكن في المقابل، هناك أصوات جديدة، من أفريقيا ومن الشتات، بدأت تكتب بلغة الوعي، لا بلغة الردّ والتبرير وإثبات الذات. الريشة السوداء بالنسبة إليّ محاولة لكسر هذا التمركز، لكتابة أفريقيا من داخلها، لا من نوافذ الآخرين، أن أقول للعالم: لسنا ضحايا التاريخ فقط، بل صُنّاعه.