كتاب التخلص من أوهام التقدم لريموند أرون كتاب مهم جدا و لا تقل أهميته عن كتابه أفيون المثقفين إلا أن كتابه التخلص من أوهام التقدم يكاد يكون واقع في الظلال رغم أهميته و رغم فرادة معلوماته و علومه التي تحتاج إليها ساحتنا السودانية.
في الحقيقة عدم وصول كتاب التخلص من أوهام التقدم الى ساحتنا السودانية تكاد تكون كامنة في طبيعة كتابه نفسه أي ريموند أرون فهو كعالم إجتماع و فيلسوف و إقتصادي و مؤرخ و بسبب إهتمامه بتطور الفكر في الساحة الفرنسية و جد نفسه واحد ضد الكل إبتداءا من وقوفه ضد أستاذته و نقده للا مبالاتهم بقضايا تطور الفكر في فرنسا و هذا ما فرض على ريموند أرون عزلة وجد نفسه قد فقد كل أصدقاءه بسببها و لكنه كان لا تهمه الشلليات و الصدقات و الاخونيات التي تكون خصم على رصيده الفكري.


ففي عزلته المجيدة أنجز ريموند أرون مشروعه النقدي و قدم لساحة الفكر الفرنسي ما ينبغي أن يحل مكان الفكر القديم و كان ذلك على مدى زمني إمتد لسته عقود. و على ذكر العزلة التي تعرض لها ريموند أرون نجد كذلك ألبرت كامي و بسبب أفكاره و نقده للفكر الشيوعي فقد فرضت عليه عزلة قادها سارتر بنفسه و أصبح بسببها في عزلة مطبقة و خلالها قدم مشاريعه الفكرية و قد نال بسببها جائزة نوبل للآداب و قد نالها سارتر بعده بسبعة أعوام.
ريموند أرون في مجابهته للأستاذته يختلف عن شراسة بول نيزان كشيوعي في مجابهته لأستاذته و قد تبدت في كتابه كلاب الحراسة و في الحقيقة بول نيزان كان صديق لريموند أرون كما كان سارتر صديق لهما إلا أن سارتر و بول نيزان قد إنجرفا في التيار السائد من الأفكار و حينها كان الفكر الماركسي في فرنسا يعتبر الأفق الذي لا يمكن تجاوزه و هذا هو التحدي الذي قابل ريموند أرون و قد تخطاه بكل سهولة و يسر منتصرا للفكر الليبرالي.
ما أود قوله و هو أن ما حصل في فرنسا قبل قرن من الزمن أي سيطرة الفكر الشيوعي على المشهد الفكري مشابه لحالة المشهد الفكري السوداني. الآن في فكر نخبه نجد كثير من النخب السودانية خاضعة للفكر الشيوعي كما كانت الساحة الفرنسية الفكرية خاضعة للفكر الشيوعي كذلك ساحتنا السودانية و بسبب الزج و التعبية التي يقوم بها الشيوعيون السودانيون نجد أن ساحة الفكر السوداني محبوسة في أفق الشيوعية التقليدية التي قاومها ريموند أرون و قد إنتصر بعد سته عقود بعد أن قدم فكره في كتبه المهمة و هذا الكتاب أي أوهام التخلص من التقدم من ضمنها.
سيطرة الشيوعيون بفكرهم التقليدي في السودان هو ما جعل الساحة السودانية غير صالحة لزرع أي فكر ليبرالي ينتصر لفكرة الدولة الحديثة و و ترسيخ مفهوم ممارسة السلطة كما هو سائد في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية و هذا ما جعل الساحة السودانية صالحة لتياريين فقط و هو تيار الحتميات و الوثوقيات الشيوعية السودانية و تيار السياجات الدوغمائية لأحزاب اللجؤ الى الغيب أي أحزاب أتباع المرشد و الامام و الختم و جميعمهم و الشيوعيون يؤمنون بفكر مطلق مجافي للنسبي و العقلاني.
هذا هو سبب هجرة أتباع الشيوعية السودانية في بعض الأحيان الى الأحزاب الدينية السودانية كما فعل احمد سليمان المحامي في تواطؤه مع الكيزان و كحالة عبد الله علي ابراهيم في تواطؤه مع الكيزان خلال الثلاثة عقود الأخيرة و بالمناسبة إنتاج الحزب الشيوعي للمثقف التراجيدي كالحالتين المذكورتين أعلاه ناتجة من إعتقادهم في شيوعية لا تؤمن بفكرة الدولة من الأساس و في أحسن أحوال الشيوعي السوداني فهو ما زال تحت نير أفكار فلاسفة ما بعد الحداثة التي مضى زمانها و أنقضى في أواخر ستينيات القرن المنصرم مع ثورة الشباب في فرنسا عام 1968.
و كان لريموند أرون دور بارز في مقاومة فكرهم الملتبس بشأن فكرة مفهوم الدولة في مجتمع ما بعد الثورة الصناعية و مفهوم ممارسة السلطة فيما يتعلق بالتدخل الحكومي و فيما يتعلق أيضا بترسيخ فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد في المجتمعات الحديثة و في ظل الدولة الحديثة على ضؤ الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإقتصادي.
ريموند أرون منذ مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم أي منذ قبل ما يقارب القرن من الزمن كان له جهد فكري فيما يتعلق بنظرية التاريخ و فيها قدم فلسفة نقدية للتاريخ عكس فيها مفهوم تاريخ الفلسفة الى فلسفة التاريخ مثلما فعل نيتشة كفيلولوجست بارع في عكس مفهوم قوة الإرادة الى إرادة القوة و هنا تكمن جهود ريموند أرون الفكرية التي لا نجدها في مجهود المؤرخ التقليدي السوداني الذي عجز أن ينفلت من مدار الهيغلية و الشيوعية و قد بلغت منتهاها في الفلسفة المثالية الالمانية.
و هذا هو التغيّر في فلسفة التاريخ التي فتحت لريموند أرون فكرة ديالكتيك لزماننا الراهن و فيه يصبح علم الإجتماع بعد معرفي في صميم الديالكتيك و هذا ما عجز عن فهمه الشيوعيون السودانيون و فيه يتحدث ريموند أرون عن مفهوم القرار و الإختيار لفهمه لنظرية التاريخ و فيها يقول بأن فهمنا للتاريخ ينبغي أن يكون بمعنى فهمنا لمشاكل الراهن من زماننا بعيدا عن حكي المؤرخ التقليدي السوداني في إنحباسه في مفهوم الوثيقة المقدسة.
عند أرون إن مسيرة الإنسانية مأساوية و تراجيدية بلا قصد و لا معنى و لا تحل بغير معادلة الحرية و العدالة كروح للفكر الليبرالي الذي لا يعرف نهاية للتاريخ كما تتوهم الهيغلية و الشيوعية في عقل يسوق التاريخ لنهاياته بعكس ريموند أرون فهو يرى أن مسيرة الإنسانية التاريخية لا تتوج بنهاية فهي مفتوحة على اللا نهاية في عالم تمسك مشاكله تلابيب بعضها البعض في تسلسل لا نهائي لا تحله غير فكرة الشرط الإنساني.
و هي روح الفكر الليبرالي في تقديمه لمفهوم الشرط الإنساني و هو عند ريموند أرون أن تتقدم السياسة على كل من علم الإجتماع و الإقتصاد أي أن الشرط الإنساني أي السياسة هي التي تتقدم على علم الإجتماع و علم الإقتصاد و هذا هو سر قوة أفكار ريموند أرون في كتابه التخلص من وهم التقدم و هو كتاب أيضا يقول كثير من الباحثين بمثلما أعطى ريموند أرون أولوية للسياسة إلا أننا نجد في طياته إهتمامه بالإقتصاد و هذا يحتاج لقراءة متمهلة لهذا الكتاب الفريد لأن الفكر الليبرالي يتأرجح ما بين شقيه السياسي و الإقتصادي لكي يتوازن.
و هذه الدقة التي تصل لدرجة الغموض في كتاب ريموند أرون ناتجة من أنه فيلسوف و مؤرخ و إقتصادي و عالم إجتماع ملم بالنظريات الإقتصادية و آداب تاريخ الفكر الإقتصادي و بالتالي يعرف أن قوة الفكر الليبرالي كامنة في هشاشة الليبرالية أي أن قوة الليبرالية الحديثة كامنة في هشاشتها التي لا تصان بغير فكرة الشرط الإنساني.
و هنا وجب التنويه لحديث ريموند أرون عن هشاشة الليبرالية التي تمثل في نفس الوقت قوتها لأنه كان يلاحظ لحظة مفصلية و هي لحظة نهاية الليبرالية التقليدية و بداية الليبرالية الحديثة و هو يشاهد تنامي أفكارها أمام ناظريه خطوة بخطوة و خاصة في إختلافه مع فردريك حايك في إعتراضه على التدخل الحكومي و قد وصفه ريموند أرون بأنه أي فردريك حايك بأنه ماركس اليميني و فكرته النيوليبرالية بأنها ماركسية يمينية و المضحك عندنا في السودان يتحدث الشيوعيون السودانيون عن شرور النيوليبرالية و ما دروا أنها ماركسية يمينية و فهمها يحتاج لفن القراءة الغائب من دفاتر النخب السودانية.
علي أي حال إنتهت ديناميكية النيوليبرالية كماركسية يمينية و العالم اليوم يتهئ لديناميكية من صميم الفكر الليبرالي و هي الحماية الإقتصادية و قد أقدمت عليها بريطانيا في خطوة الخروج من الإتحاد الأوروبي و هذه واحدة من إبداعات الفكر الليبرالي التي لم تتمتع بملاحظتها النخب السودانية بسبب كساد الفكر السوداني و فراغ ساحته من الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإقتصادي لذلك يجهل كثر من النخب السودانية بأن فلسفة الفكر الليبرالي ليست نظم حكم فحسب بل فلسفة لترسيخ فكرة العيش المشترك بعد إضافة مفهوم الدولة كمفهوم حديث في ترسيخها لفكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و قد أصبحت بديلا للفكر الديني أي أن الديمقراطية لا تستقيم بغير فصل الدين عن الدولة.
علي أي حال نكتب هذا المقال و ليس السودان وحده على مفترق طرق بل العالم العربي و الإسلامي غارق تحت أزمة حضارته العربية الإسلامية التقليدية في مفترق طرق أيضا لذلك وصيتنا للنخب السودانية بأن تنتبه لهذا المأزق التاريخي و تنتهز الفرصة بأن تكون في مقدمة النخب الناهضة و المفارقة لنهضة العالم العربي و الإسلامي العرجاء التي إمتدت على مدى قرن و نصف و ها نحن على نهاياتها الأكيدة.
و بالتالي تكون دعوتي للنخب السودانية للإنفتاح على الفكر الغربي لأنه يلخص تاريخ الإنسانية لذلك يجب فتح الباب الذي أغلقه كل من الامام محمد عبده و جمال الدين الأفغاني بنهضتما العرجاء و هذا الباب الصدي يجب فتحه بفكر ريموند أرون و خاصة من فكره في كتابه التخلص من أوهام التقدم.
أدرك بأن مثل هذه التوصيه أو الدعوة لنخب سودانية غارقة في فكر الخلاص الأخروي أي فكر وحل الفكر الديني لا معنى لها.
و لكن عزاءنا في إنتصار ريموند أرون على نخب زمنه المحبوسة في أفق الماركسية في زمنهم و قد إنتصر بعد صبر دام ستة عقود. و هنا نقول أن حال العالم العربي و الإسلامي التقليدي لا ينتظر ستة عقود لإنهيار حضارته الإسلامية العربية التقليدية التي قد وصلت لمنتهاها رغم خيانة النخب العربية لموجات الربيع العربي و قد أفسدها الإسلاميين لصالح دكتاتوريات عربية و ممالك و سلطانات سوف تجبر أي يجبرها سير الأحداثة المتسارعة في العالم من حولنا على الإصلاح السياسي قريبا جدا.
لأن تغلبات العالم قد أصبحت سريعة و لا يمكن أن يكرر الزمن تجربة كل من الغذافي و صدام حسين و غيرهما أي من فشلوا في ترسيخ قيم الجمهورية لذلك نقول للبرهان و هو واهم بأن يحقق أحلام والده بأن زماننا زمن التغيرات المتسارعة لا تستطيع مقاومتها غير النظم الليبرالية و ليس البرهان وحده حتى نظام السيسي في مصر في مهب الريح أي أمام تغيرات هائلة في ساحة العالم من حولنا فكل من يحلم بتأسيس نظام حكم تسلطي كما يفكر السيسي في مصر هو أمام الرياح هباء في المستقبل القريب.
الأحسن حال من السيسي في مصر هو آبي احمد في أثيوبيا عبر تجربته الديمقراطية رغم تعثرها على أقل تقدير يسير بإتجاه التغيير بعكس السيسي في مصر فهو يقاوم التغيير في وقت عجزت مصر بأن تصبح دولة صناعية و هي دولة بلا مستقبل ما لم تنجح في أن تكون دولة صناعية و تستطيع أن تنقل تجربة الغرب الصناعية.
في ختام هذا المقال نعود الى ريموند أرون و هو يقدّم فكرة أي أن لأول مرة يصبح تاريخ الإنسانية تاريخ واحد و بالتالي دراسة تاريخ السودان لوحده أو تاريخ قارته التي ينتمي لها لا يغني عنه شئ و هذا ما يفعله المؤرخ التقليدي السوداني و بالتالي على النخب السودانية بأن ترى أن تاريخ الإنسانية لأول مرة يصبح تاريخ واحد و دراسة إمكانية نهضتنا لا تكون بغير فهم الراهن السوداني من خلال فهمنا لتاريخ الإنسانية الذي قد أصبح تاريخ لكل البشر بعد الثورة الصناعية كما يقدمه ريموند أرون.
لاحظ ريموند أرون أن وجست كونت في فكرة الوضعية المنطقية قد إعتمد على فكرة المجتمع و الثورة الصناعية و هو وثوقي أيضا كماركس و حتمي في إعتماد ماركس على الصراع الطبقي في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي. رفض ريموند أرون كل من الوضعية المنطقية لأوجست كونت و ماركسية ماركس و قدم بدلهما ديمقراطية توكفيل و هي تقدم فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و يصبح الفكر الليبرالي بديلا للفكر الديني و عليه لمن يريد المزيد قراءة كتاب التخلص من أوهام التقدم لريموند أرون.

taheromer86@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الثورة الصناعیة النخب السودانیة الفکر اللیبرالی تاریخ الإنسانیة السیسی فی مصر فی فرنسا هذا ما فی کتاب هذا هو

إقرأ أيضاً:

بقال.. يدخل (الجمهورية الحرة) ويفضح أزمة النُخبة السودانية

أحمد عثمان جبريل

“إذا كان الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب؛ ولكن السكوت عندما يغدو جريمة، فالكلام يصبح ضرورة.”
— جبران خليل جبران

1
السودان الذي مزقته الحرب، لا تكون المعارك دوماً على أطراف مدنه، بل قد تدور رحاها في قلب الهاتف الذكي، داخل غرفة محادثة صغيرة، بين نخبٍ اعتادت أن تعتبر نفسها صوت العقل في زمن الضجيج.
هكذا كان المشهد مساء أمس الأحد في قروبنا مجموعة “الجمهورية الحرة” حين ظهر اسم إبراهيم بقال سراج فجأة بين عشرات الصحفيين والسياسيين منهم قادة أحزاب ووزراء سابقين ومهنيين ومثقفين.

لم يكن ظهوره عادياً، بل كاشفًا، لا عن موقف فردي، بل عن حالة وطنية تتخبط بين الغفران والرفض، بين الذاكرة والإنكار، بين الحكاية التي نريد أن نصدقها، والواقع الذي يرفض أن يُروى بلغة واحدة.

2
مجموعة “الجمهورية الحرة” ليست مكاناً عابراً. إنها واحدة من تلك الدوائر الرقمية التي تُنظَر إليها كمرآة للوعي العام السوداني، حيث تتجاور أسماء من تيارات متناقضة: من يرفض الحرب، ومن يبررها؛ من كان في قلب القرار، ومن ظل يكتب عنه من بعيد؛ من غنّى للثورة، ومن صمت عنها.

لكن هذا التنوع، الذي يُفترض أن يكون مصدر ثراء، أصبح هشّاً عند أول اختبار حقيقي: دخول شخص يُعدّ من رموز الطرف الآخر.

تحول القروب من مساحة للنقاش إلى ساحة للاشتباك، وانكشف مرة أخرى عجز النخبة عن أن تصير في طليعة المصالحة، لا في ذيل ردود الأفعال.

3
لم يكن الجدل حول بقال في جوهره عن بقال نفسه، بل عمّا يمثله.
هل هو عائد نادم؟ أم مُطرود يبحث عن مأوى؟ هل يُمثل اختراقاً ناعماً للوعي العام؟ أم هو ببساطة سوداني يريد أن يقول شيئاً في مكانٍ ما؟.
هنا برزت المعضلة الحقيقية: ليس عن من “يأتي”، بل من “يُسمح له بأن يتكلم”..
في زمن الحرب، صار للكلام ثمن، وللصمت دلالة، وللانضمام إلى قروب واتساب معنى سياسي، وأحياناً خيانة موصوفة.

4
لم تعد ساحات القتال تُرسم على الخرائط فقط، بل تُرسم في المجموعات المغلقة، على الشاشات الصغيرة. ما يعني أن المعارك تقدمت من الخنادق إلى الحروف، ومن البنادق إلى المواقف.
وإذا كانت “الجمهورية الحرة” نموذجاً، فهي تُثبت أن الفضاء الرقمي ليس أكثر تحررًا من الواقع، بل أحيانًا أكثر ضيقًا، لأنه يحبس الآراء داخل مربعات صغيرة، ويقذفها في دوائر مغلقة من التقييم والتخوين.
لقد تحوّلت أدوات التواصل إلى أدوات قصف رمزي، لا تقل ضراوة عن الرصاص، لكنها تصيب الروح لا الجسد.

5
السودان اليوم بلا سردية جامعة.. كل فريق يملك حكايته، وشهيده، وجراحه، وخارطته الأخلاقية الخاصة.
العودة لم تعد فعلاً سياسياً فقط، بل اختبارًا أخلاقيًا معقدًا: من يمكنه أن “يعود”؟ ومن يملك مفاتيح الغفران؟ ومن يقرر شروط التوبة؟
أمام هذه الأسئلة، بدا النقاش حول بقال اختصارًا مصغرًا لما هو أكبر بكثير: وطن بكامله عاجز عن تخيّل مشهد يُفتح فيه الباب أمام المختلف دون أن يتهمه بالخيانة أو النفاق أو الانتهازية.
وإذا لم نقدر على استيعاب المختلف داخل مربع نص، فكيف سنستوعبه في شارع أو حي أو مستقبل؟

6
الديمقراطية الرقمية التي تمنح الجميع الحق في الظهور، لا تضمن بالضرورة القبول.
وعندما عُرضت قضية بقال، قفز الى ذهني في ان الموضوع لم يكن السؤال فقط: “هل نقبله في المجموعة؟”، بل: “إذا كنا نرفض عودته إلى الوطن، فهل نقبله في قروب واتساب؟”
وهذا هو بيت القصيد: هل يُفترض على مجموعة واتساب أن تكون أكثر رحابة من وطن جريح؟
هل مجرد الانضمام إلى مساحة افتراضية يُفسر كتطبيع؟ أو قبول غير مشروط؟
أم أننا أمام تمثيل رمزي لمأزق أكبر: لا توجد آلية للعودة، لا سياسية ولا وجدانية، تجعل من خرج عن “السردية الكبرى” قادرًا على العودة دون أن يظل متهماً إلى الأبد.
وفي غياب هذه الآلية، تظل “الجمهورية الحرة” مجرد نسخة رقمية من وطن مغلق، لا تقبل الغريب، ولا تسامح القريب الذي تغيّر وجهه.

7
قد تكون مجموعة واتساب مجرد شاشة صغيرة في هاتف، لكن في السودان، الشاشة تُكمل المشهد: وطن تتنازع فيه الحكايات، وتنهار فيه السرديات الواحدة لصالح مشهد رمادي لا يعرف النور ولا الظل.
في “الجمهورية الحرة”، كما في شوارع الخرطوم ونيالا وبورتسودان، لا أحد يسمع الآخر.
لا أحد يصدق الآخر. لا أحد يسامح الآخر.
المشكلة لم تعد في الحرب وحدها، بل في الخطاب، في الذاكرة، في الحق الحصري بالكلام.
وحتى يعود الوطن، يجب أن نحرر الكلمة قبل الأرض، والضمير قبل العَلم، والمجموعة الصغيرة قبل الدولة الكبيرة.. إنا لله ياخ.. الله غالب.

الوسومأحمد عثمان جبريل

مقالات مشابهة

  • هجوم بطائرات مسيرة على العاصمة السودانية
  • دار الإفتاء: "الجهاد الرقمي" سلاح خبيث.. خدعة لتجنيد الشباب ونشر الفكر التكفيري
  • 17 منظمة تطالب الحوثيين بسرعة الإفراج عن المحامي "صبرة" وبقية المختطفين
  • تناولها بانتظام.. أطعمة تعزز صحة العظام وتحميها مع التقدم في العمر
  • السفير معتز أحمدين: إسرائيل أول من ابتكر فكرة الميليشيات لزعزعة استقرار الدول
  • الوعي الأخلاقي بين الانتماء الديني والانفتاح الإنساني في الفكر الإسلامي.. كتاب
  • مندوب سابق في الأمم المتحدة: إسرائيل أول من ابتكر فكرة الميليشيات بالدول
  • بقال.. يدخل (الجمهورية الحرة) ويفضح أزمة النُخبة السودانية
  • السفير معتز أحمدين: إسرائيل أول من ابتكر فكرة الميليشيات في الدول
  • حسن يحيى: الأزهر يبني جسور الحوار مع الشباب ويحصّن عقولهم من الفكر المنحرف