سيناريوات مجنونة على الطاولة.. هل تستغل إسرائيل “الفرصة التاريخية” لضرب النووي الإيراني بعد الهجوم الصاروخي؟
تاريخ النشر: 6th, October 2024 GMT
الجديد برس:
حسمت إسرائيل أمرها بالرد على الهجوم الصاروخي الإيراني غير المسبوق على منشآتها العسكرية والأمنية، وسط تعالي الأصوات الداعية إلى استغلال ما يعتقد العدوّ أنها «حالة الضعف» التي تعانيها «حلقة النار»، وخصوصاً في غزة ولبنان، من أجل معالجة أمر المشروع النووي الإيراني.
وفي هذا الإطار، انشغل صنّاع القرار في إسرائيل، خلال الأيام الأخيرة، بالبحث في طبيعة الرّد، وذلك خلال اجتماعات أمنية انعقد بعضها في مقر وزارة الحرب في تل أبيب (الكرياه)، وأخرى تحت الأرض في مقر الاجتماعات السرّي المضاد للهجمات النووية، والمقام في مدينة القدس.
وممّا تسرّب من هذه المداولات، أن الرد الإسرائيلي اتُّخذ، وسيكون «حازماً وقوياً»، من دون أن تُحدد طبيعته، وإن كانت التقديرات أنه قد يتراوح بين استهداف المنشآت الاستراتيجية كالصناعات النفطية الإيرانية بهدف تدمير اقتصاد البلاد، وتنفيذ اغتيالات مُركّزة، وضرب الدفاعات الجوية، أو قواعد عسكرية وأمنية، وصولاً حتّى إلى استهداف المنشآت النووية الإيرانية نفسها.
ولم تقتصر الأصوات الداعية إلى إدخال العالم في «متاهة النووي» على المستويات السياسية، بل امتدت لتشمل جزءاً من الباحثين والمحللين، ما يعني أن الموضوع كان محط تداول بالفعل في أروقة صنع القرار.
وفي السياق، تناول الباحث والمحاضر في قسم «دراسات الشرق الأوسط والإسلام» في «جامعة حيفا»، يارون فريدمان، الرد بضرب المنشآت النووية باعتباره «فرصة ينبغي استغلالها»، على أساس أن التهديدات الاستراتيجية لإسرائيل، والمتمثلة في «حزب الله» و«حركة حماس»، قد زالت بعد عام كامل من الحرب، والتطورات الأخيرة التي تخللها تصعيد مجنون في لبنان، فضلاً عن امتلاك إسرائيل قنابل خارقة للتحصينات التحت أرضية، بـ«إمكانها قصف هذه المنشآت».
واعتبر فريدمان أن من يؤيدون الانتظار حالياً، ويتخذون موقفاً مخالفاً لدعاة الهجوم على المنشآت النووية، ويؤيدون التوصل إلى اتفاق، «هم على خطأ»، كما كانوا خلال «مراهنتهم طوال سنوات على أن نظام آية الله سيؤول إلى السقوط».
والسبب، كما يفسره، قائم على أن تحليل التاريخ الإيراني منذ الثورة سنة 1979 حتى الآن، يثبت أن الآمال التي قام عليها الاتفاق النووي مع إيران «كانت فارغة»؛ إذ إن «القيادة الإيرانية لن تنصاع أبداً للقوانين الدولية، ولن تسمح لمراقبي وكالة الطاقة الذرية بالوصول إلى كل المنشآت».
وحتى لو وُقّع اتفاق ثانٍ، فإن إمكان سماح هذا النظام برقابة فاعلة تشمل كل المنشآت «ضئيل جداً». أمّا في ما يتعلق باستقرار نظام الجمهورية، فيدل التاريخ على أنه صمد في مواجهة اضطرابات أقسى، بينها الحرب ضد العراق، والتي استمرت 8 سنوات، والاضطرابات سنة 2009، وموجات الاحتجاجات المتكررة منذ ذلك الحين.
عملية ضرب المنشآت النووية الإيرانية قد تكون مستحيلة من دون مساعدة أمريكية مباشرة
وتابع فريدمان مجادلاً بما سيوفره اتفاق نووي جديد لإيران من مزايا، وخصوصاً على مستوى تحسين اقتصاد البلاد التي تُعدّ ثاني أو ثالث دولة في الشرق الأوسط من حيث مخزونات النفط والغاز، مشيراً إلى أن «تجربة الماضي تدل على أن أغلبية المداخيل التي ستتوفر من رفع العقوبات، ستنتقل إلى الحرس الثوري لإعادة بناء حزب الله في لبنان وتسليح سائر الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في سوريا والعراق واليمن، ومن الممكن أن تحوّل نسبة ضئيلة من هذه العائدات لتحسين حياة المواطن الإيراني» على حد زعمه.
أمّا بالنسبة إلى تعهد إيران بأن مفاعلاتها النووية ستكون لأغراض مدنية فحسب، فاعتبرها فريدمان «حجة سخيفة» نظراً إلى ما تمتلكه البلاد من ثروات نفطية وغازية. وانطلاقاً مما تقدّم، رأى فريدمان أن القضاء على «التهديد النووي الذي يشكل تهديداً وجودياً على دولة إسرائيل ليس مسألة سياسية»، معتبراً أن هجوم إيران الصاروخي على إسرائيل يُشكل «فرصة تاريخية لضرب المفاعلات في إيران، ومن الممكن ألّا تتكرر هذه الفرصة، التي إن أضعناها لن تتكرر أبداً».
مع ذلك، يكشف تحليل معمّق أجرته صحيفة «فاينانشيال تايمز»، أن ضرب المنشآت النووية الإيرانية هو واحد من أعقد التحديات العسكرية بالنسبة إلى إسرائيل، وأن فرص نجاحه منخفضة من «دون دعم أميركي»؛ إذ إن سلسلة من التحديات اللوجستية المعقدة تنتظر القوات الجوية والحال هذه، في مقدمتها المسافة البعيدة التي تتجاوز ألف كلم، ما يتطلب رحلة عبور في مجالات جوية لعدد من الدول، من ضمنها السعودية والأردن والعراق وسوريا، وربما حتى تركيا.
وبالتالي، يمكن لأيٍّ من هذه الدول رصد الطائرات وتنبيه إيران، ما يسمح للأخيرة بالاستعداد للدفاع. أمّا التحدي الثاني، بحسب الصحيفة، فهو إعادة ملء خزانات الوقود؛ حيث تتطلب الرحلة الطويلة إلى الأهداف والعودة استنفاداً كاملاً لقدرات التزود بالوقود الجوي.
ووفقاً لتقرير صادر عن «خدمة أبحاث الكونغرس» الأميركي، فإنه «لن يكون هناك أي مجال تقريباً لحدوث أخطاء أو تأخيرات غير متوقعة. حتّى إن عطلاً فنيّاً صغيراً أو ظروف مناخية طارئة قد تعرّض العملية بأكملها وحياة الطيارين للخطر».
كما أن عملية كهذه عليها التعامل مع الدفاع الجوي الإيراني الذي يحمي المنشآت النووية من خلال أنظمة دفاعية متقدمة، يتطلب التغلّب عليها وجود قاذفات إسرائيلية قريبة من الطائرات المقاتلة لحمايتها، وهذا بحد ذاته يفترض مشاركة 100 طائرة، وهو عدد كبير يمثل عملياً ثلث الطائرات التي يمتلكها سلاح الجو الإسرائيلي. فضلاً عن ذلك، فإن نجاح الطائرات الإسرائيلية في الوصول إلى الأهداف لا يزيل التحدي الآخر المتمثل في تدمير المنشآت ذاتها، والموجودة، وفقاً لتقارير عدّة، في عمق كبير تحت الأرض ومحمية بطبقات صخرية وخرسانية مُسلّحة.
وبحسب الصحيفة، فإن تدمير هذه المنشآت يتطلب أسلحة خاصة قادرة على اختراق عشرات الأمتار من الصخور والخرسانة قبل انفجارها؛ وفيما تمتلك إسرائيل بالفعل قنابل قادرة على اختراق المخابئ، «إلا أنها قد لا تكون كافية لهذه المهمة المعقدة».
وكما تنقل عن خبراء، فإن السلاح التقليدي الوحيد الذي يمكنه أداء المهمة هو القنبلة الخارقة الضخمة المعروفة باسم «Massive Ordnance Penetrator» والتي يبلغ طولها 6 أمتار ووزنها 14 طناً، وبمقدورها اختراق 60 متراً من الأرض قبل أن تنفجر. ومع ذلك، «ليس واضحاً ما إذا كانت إسرائيل لديها إمكانية الوصول إلى هذا السلاح أو القدرة على استخدامه».
وفي ظل هذه الظروف المعقدة، يُطرح السؤال الأساسي حول ما إذا كانت إسرائيل تمتلك القدرات اللازمة للقيام بمهمة كهذه؛ فحتّى لو كانت لدى إسرائيل قنابل كتلك، فإن الطائرات المقاتلة (F-15 وF-16 وF-35) غير قادرة على حملها بسبب وزنها الثقيل، فيما يستبعد الباحث السابق في وزارة الأمن الإسرائيلية، إيهود عيلام، أن تكون لدى إسرائيل فرصة لضرب هذه المنشآت، لأنها لم تتمكن من شراء قاذفات استراتيجية أميركية مثل «B-2 Spirit»، المطلوبة لإسقاط مثل هذه القنابل الثقيلة.
وتخلص الصحيفة إلى أن عملية كهذه قد يكون مستحيلاً أن تتم من دون مساعدة أميركية مباشرة، وبالتالي، قد تخطط إسرائيل لضرب المنشآت النووية، ولكن من طريق عمليات سرية وسيبرانية وفق ما دأبت عليه في الماضي، عندما استخدمت فيروس «ستوكسنت» الذي نجح في تأخير المشروع النووي، فضلاً عن العملية التي قُطعت فيها الكهرباء عام 2021، وأدّت إلى إتلاف نظام الطاقة الداخلي في منشآت نطنز.
المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية
المصدر: الجديد برس
كلمات دلالية: المنشآت النوویة على أن
إقرأ أيضاً:
“شبكة العنكبوت”: الحرب في عصر الذكاء الاصطناعي
في صورة تعكس لنا كيف أصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعي والمُسيرات قادرة على تغيير قواعد الحرب، تمكنت أوكرانيا باستخدام عشرات الدرونز زهيدة الثمن من تعطيل قاذفات استراتيجية تُقدّر قيمتها بمليارات الدولارات في قلب العمق الروسي، قاصدة قواعد تبعد آلاف الكيلومترات عن كييف فيما يُعرف بـ”التفوّق الجغرافي البديل”، حيث لا يهم أين يقع الهدف بقدر ما يهم هل يمكن الوصول إليه بأسلوب غير تقليدي. حدث ذلك دون الحاجة إلى إطلاق صواريخ بعيدة المدى أو استخدام طائرات ضخمة، فقط أكواخ خشبية بأسقف قابلة للفتح ذاتياً محملة على شاحنات، انطلقت منها عشرات المسيرات نحو أهدافها متجاوزة أنظمة الدفاع الجوي الروسي.
وعلى الرغم من تفوق روسيا كماً وكيفاً منذ بداية الحرب، وامتلاكها للصواريخ البالستية والفرط صوتية وللقاذفات الاستراتيجية؛ فإن هذه العملية تظهر كيف أن الدرونز والذكاء الاصطناعي قادر على ترجيح كفة الطرف الأضعف والأقل من حيث القوة التدميرية، بما يعيد تعريف مفهوم “الردع”، ليصبح القدرة على استهداف نقاط ضعف العدو بذكاء وتكلفة منخفضة، وليس فقط امتلاك القوة المماثلة؛ فقد أثبتت هذه الحادثة أن روسيا غير قادرة على حماية عمقها الاستراتيجي، رغم تفوقها العددي والتقني.
وراء هذا المشهد المعقد، يقف الذكاء الاصطناعي كمحرّك رئيسي غير مرئي، فبرمجة مسارات الطائرات وتفادي أنظمة الدفاع واستخدام أنظمة تمييز الأهداف داخل القواعد العسكرية، كل ذلك يشير إلى أن الخوارزميات أصبحت الآن جزءاً من مراكز اتخاذ القرار العسكري، لا مجرّد أداة للدعم.
عملية شبكة العنكبوت:
في عملية يُقال إنها استغرقت 18 شهراً من التحضير، تم تهريب عشرات الطائرات المسيّرة الصغيرة إلى داخل روسيا، حيث خُزّنت في مقصورات خاصة داخل شاحنات نقل، ثم نُقلت إلى ما لا يقل عن أربعة مواقع مختلفة، تفصل بينها آلاف الكيلومترات، لتُطلق لاحقاً عن بُعد من المسافة صفر باتجاه قواعد جوية قريبة، واستطاعت أن تدمر نحو 34% من حاملات صواريخ كروز الاستراتيجية حسب تصريحات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وقد استهدفت هذه المسيرات اثنتين من القواعد الجوية، فحسب بيان وزارة الدفاع الروسية: “أدى إطلاق طائرات مسيّرة انتحارية من مواقع قريبة جداً من مطارات منطقتي مورمانسك وإيركوتسك إلى اشتعال النيران في عدد من الطائرات”، وفي خطاب له قال زيلينسكي إن117 طائرة مسيّرة استُخدمت في الهجوم على القواعد الجوية الروسية.
وقد تمت عملية شبكة العنكبوت (Spider’s Web) – كما تمت تسميتها- على عدة مراحل، كانت المرحلة الأولى هي مرحلة تهريب الطائرات المسيّرة الصغيرة إلى العمق الروسي عبر مراحل زمنية متقطعة، بعيدة عن أي نمط يمكن رصده. ولتفادي أعين الرصد والمراقبة، تم إخفاء هذه الطائرات داخل هياكل خشبية بدائية الشكل على هيئة أكواخ صغيرة تم تحميلها على شاحنات نقل تجارية؛ ما منحها غطاءً لوجستياً يخفي غايتها العسكرية.
وما بدا للبعض أنه مجرد وحدات تخزين متنقلة، كان في الواقع منصات إطلاق هندسية دقيقة، جُهزت بأسقف معدنية يمكن فتحها عن بُعد، وعند لحظة الصفر، انفتحت هذه الهياكل تلقائياً، لتخرج منها الطائرات واحدة تلو الأخرى، وتنطلق نحو أهدافها دون أن تترك مجالاً لرد فعل استباقي. كان الهدف الأول هو مطار أولينيا، ويبعد نحو 1900 كيلومتر من أوكرانيا، والمطار الثاني هو بيلايا ويقع على بعد نحو 4300 كيلومتر من أوكرانيا.
أما الطائرات المسيرة ذاتها، فهي على الأرجح من طراز FPV (First Person View) وهي نماذج مسيّرة صغيرة الحجم، وخفيفة الوزن، ومجهّزة بكاميرات لبث مباشر، تُدار عن بُعد أو تُبرمج مسبقاً، وتُستخدم عادة في ضربات انتحارية محددة الأهداف؛ إذ تُزوّد غالباً برؤوس حربية صغيرة؛ لكنها كافية لإتلاف طائرات أو إشعال حرائق داخل منشآت عسكرية حساسة، ويتراوح مداها الجغرافي بين 5 و20 كيلومتراً؛ لذا فقد تم التغلب على هذا التحدي الجغرافي من خلالها تهريبها مسبقاً إلى قرب القواعد الجوية المستهدفة في الشاحنات.
وبحسب ما ورد في التقارير الإعلامية الأوكرانية، فإن الخسائر الواردة نتيجة عملية “شبكة العنكبوت” قد تكون كبيرة، وعلى الرغم من صعوبة التحقق من دقة حجم الخسائر؛ فإنها تشير إلى استهداف نحو 41 قاذفة استراتيجية من أصل نحو 120 تمتلكها روسيا، منها Tu-95 وهي قاذفة استراتيجية تستخدم في الهجمات بعيدة المدى، وTu-22 وهي قاذفة قادرة على ضرب أهداف برية وبحرية، وطائرات رادار من طراز إيه-50. أما الخسارة الأكبر فتتمثل في القاذفة Tu-160 الأسرع من الصوت، وقد تم تدمير طائرتين منها، وهو ما وصفه أحد المعلقين الأوكرانيين بأنه “خسارة لوحدتين من أندر الطائرات، كأنها أحصنة وحيدة القرن وسط القطيع”، خاصة أن الطائرات Tu-160 وTu-95 لم تعد تُنتج؛ مما يجعل استبدالها شبه مستحيل . من جهته، أعلن جهاز الأمن الأوكراني (SBU) أن الخسائر تُقدّر قيمتها الإجمالية بنحو 7 مليارات دولار .
ومن المرجح أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد أسهمت في التخطيط لهذه العملية، بدافع الضغط على الرئيس الروسي للدخول في مفاوضات جادة لإنهاء الحرب. ففي أغسطس 2023 تحدثت كاثلين هيكس، نائبة وزير الدفاع الأمريكي، في خطاب بعنوان “الحاجة الملحة إلى الابتكار”The Urgency to Innovate أمام الجمعية الوطنية للصناعة الدفاعية، عن ضرورة تطوير نظم ذكية غير مأهولة ورخيصة نسبياً يمكنها القيام بعمليات عسكرية تكتيكية، وفي خطابها أعلنت عن مبادرة أطلقت عليها اسم “المستنسخ” Replicator، وهي استراتيجية تسعى من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية لتطوير تقنيات تعمل بالذكاء الاصطناعي يمكن التضحية بها، يشمل ذلك أساطيل من الأسلحة والمعدات غير المأهولة والذكية والرخيصة نسبياً. وقد وصفت هيكس، هذه الأسلحة والمعدات بأنها “قابلة للتضحية”؛ بمعنى أنها يمكن أن تتعرض للتدمير دون التأثير في سلامة المهمة، ودون تكبد خسائر مالية باهظة، وهو ما حدث بالفعل في عملية شبكة العنكبوت، حيث تم إطلاق العشرات من الطائرات المسيرة رخيصة التكلفة للقيام بمهام انتحارية، مكبدة الروس خسائر كبيرة دون تحمل تكلفة مالية كبيرة.
تغير قواعد الحرب:
في المنظورات التقليدية، كان توازن القوى يُقاس بعدد الدبابات والمقاتلات وحجم الميزانيات العسكرية. أما اليوم، فإن الذكاء الاصطناعي يُدخل عاملاً نوعياً جديداً يتمثل في القدرة على إنشاء جيوش آلية من مركبات غير مأهولة رخيصة التكلفة، فضلاً عن قدراته الأخرى التي تتمثل في اتخاذ القرار الأسرع والأدق بناءً على تحليل لحظي للبيانات؛ مما يعني أن الجيوش الأصغر حجماً تستطيع أن تُعادل أو تتفوّق على قوى أكبر إذا امتلكت أنظمة ذكية لتحليل الحركة، والتوجيه، وتحديد الأهداف؛ أي إن توازن القوة لم يعد مرهوناً بمن يمتلك أكثر؛ بل بمن يفهم أسرع ويتصرف أذكى.
فلم تعد الأفضلية في التفوق النوعي وحده؛ بل بات العدد الكبير من الوسائل الذكية والمنخفضة الكلفة يشكل بحد ذاته سلاحاً نوعياً يعجز الخصم التقليدي أحياناً عن احتوائه، فتحولت المُسيرات إلى “صواريخ كروز” الطرف الضعيف، فهي رخيصة ومتوفرة بكثرة مقارنةً بنظم الدفاع الجوي الكفيلة بإسقاطها أو مقارنة بالأهداف القادرة على إصابتها، فإسقاط طائرة مسيّرة تجارية زهيدة الثمن لا يتعدى ثمنها بضعة آلاف من الدولارات باستخدام صاروخ باتريوت بقيمة 3.4 مليون دولار هو معركة استنزاف، وإن لم تسقط فهي قادرة على تخريب مقاتلات وقاذفات استراتيجية ثمنها عشرات الملايين من الدولارات.
هذا الاختلال الصارخ بين “تكلفة التهديد” و”تكلفة الرد عليه” يكشف عن معضلة استراتيجية لم تجد الجيوش الكبرى بعد حلاً جذرياً لها: كيف يمكن مواجهة سلاح بسيط ومنتشر، دون الإفراط في استخدام وسائل دفاع باهظة وغير مستدامة. ومن هنا، يتّضح أن الحرب لم تعد تُخاض فقط على أساس من يمتلك السلاح الأقوى؛ بل أيضاً على من يستطيع الإنهاك بأقل تكلفة وأكبر مرونة، وهو بالضبط ما يجعل الطائرات المسيّرة، حين تقترن بالخوارزميات، سلاح المرحلة المقبلة.
هذا التطور يُعيد تعريف مفهوم “التفوق” من خلال “الكم” و”الضخامة” إلى التفوق النوعي، فحينما يمتلك الخصم المزيد من السفن والمزيد من الصواريخ والمزيد من المقاتلين، في مقابل محدودية الأسلحة والأفراد التي يمتلكها الطرف الآخر؛ تصبح الأسلحة القابلة للتضحية في هذه الحالة فعالة أمام الكتل الضخمة مرتفعة التكلفة. وفي هذه الحالة تستطيع الجيوش الصغيرة زيادة فاعليتها وتأثيرها أمام الجيوش الضخمة عبر أدوات ذكية ورخيصة، وبالمثل تستطيع الحركات المسلحة والجماعات الإرهابية أن تمتلك ميزة نسبية من خلال هذه التقنيات في مواجهة الجيوش النظامية؛ مما يغير من معادلة التفوق العسكري.
كما أن المفهوم التقليدي للردع تأثر أيضاً بتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ إذ لم يعد بمقدور أي خصم أن يعرف على وجه اليقين ما الذي يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تنفّذه وما هي قادرة عليه، فهي تقنيات مربكة لساحة المعركة ولأدوات القتال التقليدية، كما أنها قللت من فاعلية الردع التقليدي؛ لأنها جعلت كلفة الهجوم منخفضة، فحين تتاح وسائل الضرب بتكلفة زهيدة يصبح من السهل المبادرة فيسقط معها الردع؛ ومن ثم أصبحنا أمام بيئة ردعية جديدة، لم تعد تقوم على وضوح العقوبة؛ بل على ضبابية القدرة وتعدّد سيناريوهات التهديد، حيث الخوف لا يأتي مما نعرفه؛ بل مما لا نستطيع التنبؤ به.
وما حدث في عملية شبكة العنكبوت أثبت مفهوم “شبكية” الحرب؛ أي لامركزيتها، فمجموعة من المسيرات، التي قد يتم تجميعها محلياً، تتحكم فيها مجموعة من الخوارزميات، وتنطلق من شاحنات قد تكون ذاتية القيادة في مناطق متفرقة من الدولة، وتتوجه لضرب قواعد عسكرية شديدة التأمين أو حتى بنية تحتية حرجة أو اغتيال قادة سياسيين وعسكريين، دون الحاجة إلى وجود مقاتلين على الأرض أو إرسال صواريخ عبر الحدود، وبعد كل ذلك قد لا يتبنى هذه العملية أحد ويظل المتهم الرئيسي هو “الذكاء الاصطناعي”.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”