في السودان، تعيش القوى المدنية اليوم حالة من التشتت والتقلب بين الأهداف الأخلاقية التي تدعو إلى حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، والأهداف السياسية التي تفرضها ظروف الصراع العسكري والأزمة الاقتصادية. ومع تعقيد المشهد الداخلي وتراكم التحديات، أصبح من الصعب التمييز بين المواقف النابعة من دوافع أخلاقية بحتة، وتلك التي تخدم أجندات سياسية معينة، خاصةً في ظل التفاعل المكثف مع تطورات الأوضاع الأخيرة.


إحدى تجليات هذا الصراع برزت فور سماع القوى المدنية بوصول عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء الأسبق، إلى لندن؛ حيث تحول النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة نحو حمدوك، ليتحول التضامن مع الأحداث المأساوية في ولاية الجزيرة إلى استهداف مكثف لحمدوك وتحالف قوى الحرية والتغيير (قحت). هذه الظاهرة تعكس صورة أوسع عن التفاعلات السياسية في السودان؛ إذ إن الأصوات المعارضة لا تتوقف فقط عند حد البكاء على الأوضاع الإنسانية، بل تتحول في كثير من الأحيان إلى حملة منظمة تستهدف مواقف وأشخاص معينين.
خيار القوى المدنية: بين السياسة والمبادئ
بالنظر إلى الأهداف المعلنة للقوى المدنية السودانية، يتضح أن هناك تأكيدًا على أهمية تحقيق التحول الديمقراطي، وضمان سيادة القانون، والمطالبة بالعدالة للمواطنين. هذه الأهداف تضع القوى المدنية في موقع أخلاقي يُلزمها بالدفاع عن حقوق الإنسان ومكافحة الانتهاكات، مثل تلك التي تُرتكب في ولاية الجزيرة ومناطق أخرى. إلا أن التفاعل المتقلب مع شخصيات مثل عبد الله حمدوك، يشير إلى تأثير الأجندات السياسية التي تتخطى أحيانًا حدود التضامن الإنساني.
استغلال معاناة الشعب وتحقيق المكاسب السياسية
اتجاه القوى المدنية - أو بعض الجهات المرتبطة بها - إلى التفاعل الانتقائي مع الأزمات قد يوحي بأن المعاناة تُستخدم لتحقيق مكاسب سياسية معينة. فعندما تحولت هاشتاقات التضامن مع الجزيرة إلى حملة ضد حمدوك وتحالف "قحت"، أُظهر جانب من الانقسام الواضح في الخطاب السياسي للقوى المدنية. هذا التفاعل الانتقائي أثار شكوكاً حول صدق النوايا الإنسانية، وطرح تساؤلات حول مدى إخلاص القوى المدنية لمبادئها.
التخلي السريع عن هاشتاقات التضامن، والانتقال إلى مهاجمة حمدوك، يكشف عن تحالفات وأجندات خفية تهدف إلى إضعاف أي قوة مدنية قد تمثل جزءًا من النظام الذي ساهم في التغيير. بل يظهر أن بعض القوى لم تكن ترى في مسألة الانتهاكات إلا فرصة مؤقتة للضغط على خصومها السياسيين، وأنها قد تكون مستعدة للتغاضي عن أية انتهاكات إن كانت تأتي من حلفاء محتملين أو أطراف غير معادية.
التوازن بين السياسة والأخلاق
أمام هذه التحديات، تواجه القوى المدنية معضلة أساسية: هل يجب أن تستمر في التركيز على الأجندات السياسية البحتة، أم عليها أن تُعطي الأولوية للأخلاقيات التي تأسست عليها من الأصل؟ الإجابة على هذا السؤال معقدة، لأن القوى المدنية تواجه خصومًا من عدة جهات، بما في ذلك الفصائل العسكرية، وبعض التيارات المتحالفة مع المليشيات.
ومع ذلك، يبقى على القوى المدنية، التي تنادي بالحرية والتغيير، واجب العودة إلى مبادئها الأساسية وإظهار التزام حقيقي بقضايا المواطنين والمظلومين، لا سيما عندما يكونون في خطر مباشر. إن فقدان المصداقية تجاه قضايا الشعب وتحويلها إلى أدوات سياسية سيعمق فجوة الثقة بينها وبين الشعب، ويقلل من الدعم الشعبي الذي تحتاجه للبقاء.
الحاجة إلى رؤية موحدة
من المهم أن تتحلى القوى المدنية برؤية موحدة تتجاوز التوترات الداخلية والتنافس على السلطة. فالقوى المدنية، إذا أرادت تحقيق تأثير طويل الأمد وموثوق، تحتاج إلى تقوية تحالفاتها وجعلها ترتكز على أسس متينة لا تتغير بتغير الأحداث. من دون هذا التجديد، قد يصبح وجودها مُهدداً بالتآكل نتيجة للانقسامات الداخلية وعدم الاستمرارية في الدفاع عن حقوق الإنسان.
وفي نهاية المطاف، يحتاج السودان إلى قوى مدنية تنأى بنفسها عن الصراعات الفارغة وتضع المصالح الوطنية فوق كل اعتبار. القوى المدنية، إذا التزمت بمبادئها وابتعدت عن الأجندات السياسية الملتبسة، قد تتمكن من قيادة التحول نحو الديمقراطية وحماية حقوق المواطنين بشكل شامل.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: القوى المدنیة

إقرأ أيضاً:

لا للتأويل ولا للتجزئة… الأردن وطن وهوية واحدة

صراحة نيوز- د.زهور غرايبة تكتب :

في ظل التحولات الإقليمية والتحديات السياسية التي تواجه المنطقة، يبرز في الأردن موقف راسخ يتمحور حول الهوية الوطنية الأردنية الواحدة، بوصفها القاسم المشترك الذي يجمع جميع المواطنين والمواطنات تحت مظلة الانتماء الصادق للدولة الأردنية وثوابتها الواحدة المتمثلة بمؤسستي العرش والدستور، حيث لم تكن الهوية يومًا من الأيام شعارًا، أو عبارات، أو جمل، أو مقولات، إنما وحدة وطنية واحدة تحفظ وحدة الصف وتصون الثوابت الوطنية.

لقد أكد جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين في كل خطاباته ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية الواحدة التي يشترك بها جميع الأردنيين والأردنيات في مختلف أرجاء الوطن وخارجه، وتمثل تأكيده أيضًا في رفض الهوية الجامعة من خلال اللاءات الثلاث التاريخية، أن الأردن ثابت على مواقفه: كلا للوطن البديل، كلا للتهجير، والقدس خط أحمر، كما لم تأتِ الرسائل الملكية من فراغ، بل كانت ردًا واضحًا على كل محاولات العبث بالهوية أو المساس بالحقوق التاريخية والسيادية للأردن.

ومع ذلك، تتعالى بين الحين والآخر أصوات تنادي بما يسمى “الهوية الجامعة”، وهي دعوة يراها البعض انعكاسًا للتعددية والانفتاح، لكنها في جوهرها قد تشكل انزلاقًا خطيرًا نحو إذابة ملامح الهوية الوطنية الأردنية الصلبة في مزيج من الهويات الفرعية أو الهجينة، التي تحمل أحيانًا أبعادًا سياسية أو أجندات خارجية غير معلنة، هذا الطرح، وإن بدا للبعض مبادرة لتقريب وجهات النظر، إلا أنه يفتح الباب أمام إعادة تعريف الانتماء بطريقة فضفاضة، ما قد يزعزع أسس الولاء والانتماء الحصري للأردن.

خطورة هذا الخطاب تكمن في قدرته على التسلل الناعم إلى بنية المجتمع، مستفيدًا من الشعارات الجذابة والمصطلحات الفضفاضة التي تُسوَّق على أنها دعوة للوحدة، بينما هي في الحقيقة تطرح صيغة بديلة لمفهوم الدولة الوطنية، ومع مرور الوقت، يمكن أن يتغلغل في المناهج، والإعلام، والمناقشات العامة، ليؤثر بشكل مباشر في تشكيل وعي الأجيال القادمة، ويعيد صياغة تصورهم لهويتهم وأولوياتهم الوطنية.

إن مواجهة هذا الطرح لا تعني رفض التنوع أو التعدد الثقافي والاجتماعي الذي يزخر به الأردن، بل تعني الحفاظ على الإطار الناظم لهذا التنوع، وهو الهوية الوطنية الأردنية الواحدة لكل الأردنيين والأردنيات دون استثناء، باعتبارها الضمانة الأساسية لوحدة المجتمع وتماسكه، فغياب المواجهة الواعية والمدروسة لمثل هذه الأفكار يترك فراغًا قد تملؤه سرديات بديلة تُضعف الثوابت وتشتت الولاءات، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى خطاب وطني متماسك قادر على تحصين الداخل في وجه الضغوط الخارجية والتحديات الإقليمية.

مسؤولية التصدي لهذه الدعوات لا تقع على عاتق جهة واحدة فقط، بل هي واجب وطني يتشارك فيه الجميع: من المواطنين والمواطنات، إلى المسؤولين وأصحاب القرار، مرورًا بالمنابر الدينية، والمؤسسات التعليمية، ووسائل الإعلام، فترسيخ الهوية الوطنية الأردنية هو خط الدفاع الأول في مواجهة محاولات التشويه والتفكيك، وهو السبيل للحفاظ على الأردن قويًا وموحدًا أمام أي تحديات قادمة.

إن المرحلة الحالية تتطلب رفع مستوى الوعي، ليس فقط بالشعارات، بل بالممارسات اليومية التي تعزز الانتماء، وتحترم التنوع تحت سقف الهوية الأردنية الواحدة، دون السماح لأي هوية بديلة أو موازية بأن تحل محلها، فالأردن الذي ورثناه من الآباء والأجداد، والذي ندافع عنه اليوم، يستحق أن يبقى موحدًا، صلبًا، ورافعًا راية الثوابت الوطنية.

مقالات مشابهة

  • التضامن الاجتماعي تطلق فعاليات المرحلة الثالثة من مبادرة «أحلام الأجيال»
  • التضامن الاجتماعي: انطلاق فعاليات المرحلة الثالثة من مبادرة أحلام الأجيال
  • انطلاق النسخة الثانية لمهرجان الأفلام الأوروبي .. سبتمبر القادم
  • الثوابت الوطنية الأردنية
  • تمتد حتى عام.. تفاصيل الخطة العسكرية التي صادق عليها زامير للسيطرة على غزة
  • بالفيديو.. ظهرت وهي تخاطب احتفال لزملائها.. شاهد مقطع مؤثر يدمي القلوب للطبيبة السودانية “روعة” التي قتلها طليقها مسدداً لها 16 طعنة في حادثة بشعة بمدينة مروي
  • لا للتأويل ولا للتجزئة… الأردن وطن وهوية واحدة
  • تنسيق المرحلة الثالثة 2025.. الكليات والمعاهد التي تقبل من 55% علمي وأدبي
  • فيدان: نعمل مع سوريا على وضع حلول للمشاكل التي تواجهها في هذه المرحلة بهدف القضاء على المؤامرات وتذليل العراقيل وتطوير جميع المجالات وفي مقدمتها الاقتصاد لخلق أجواء مناسبة لعودة اللاجئين
  • قائمة المعاهد والكليات التي تقبل من 55% بتنسيق المرحلة الثالثة 2025