بقلم/ محمد الصالحي

 

في سياق الصراع المستمر بين الكيان الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية واللبنانية، تظهر نظرية قتالية جديدة ومتفردة للمقاومة، وهي التي لا تقتصر على التكتيك العسكري التقليدي أو الاعتماد على خطط استراتيجية تُنفذ من قبل القادة في الميدان، بل تقوم على مجموعة من المبادئ التي تُشَكّل بُنية فكرية، إيديولوجية وتنظيمية بالغة التعقيد، هذه النظرية القتالية، التي تُعتبر استجابة طبيعية للضغوط والتحديات التي فرضها الكيان الإسرائيلي، مكّنت المقاومة من الاستمرار في القتال ضد أعتى الجيوش بأقل الإمكانيات، بل وتفرض على العدو مفاجآت تكتيكية يصعب عليه تحليلها أو معالجتها.

 

فأحد الأبعاد الرئيسية في نظرية القتال لدى المقاومة يكمن في التنظيم العسكري اللامركزي، ففي الوقت الذي تعتمد فيه الجيوش النظامية على هيكل قيادة مركزي، حيث يتحكم القائد في كل خطوة ويتم إقرار الأوامر من أعلى إلى أسفل، تعتمد المقاومة على تكتيك يجعل كل وحدة أو تشكيل عسكري يتمتع بقدر كبير من الاستقلالية، وعلى الرغم من أن القيادة العامة للمقاومة موجودة وتنسق العمليات الكبرى، إلا أن كل مجموعة أو فصيل مُجهز للتعامل مع المواقف القتالية بشكل مستقل، بل ومصمم على اتخاذ القرارات الميدانية بناءً على تقدير الموقف.

 

هذا التنظيم اللامركزي هو الذي مكن المقاومة من الاستمرار في المعركة حتى بعد اغتيال قادتها أو فقدان الاتصال بينهم وبين الوحدات العسكرية، إذ يمكن لكل مجموعة تنفيذ مهماتها العسكرية بدون الحاجة إلى تعليمات فورية من القيادة. ويُعتبر هذا التوجه من أقوى عناصر الصمود، حيث لا يتوقف العمل العسكري على وجود القائد على الأرض، بل على القدرة على التفاعل الذاتي وفقًا للموقف العسكري.

 

إن الطبيعة الصارمة للتدريب العسكري الذي يخضع له مقاتلو المقاومة في لبنان وفلسطين تجعلهم جاهزين لأداء المهام في أي ظرف، حيث يتم تدريبهم على القتال في بيئات معقدة للغاية، حتى في حال فقدان الاتصال مع القيادة أو الوحدات الأخرى، وبذلك، يصبح كل مقاتل جزءًا من شبكة قتالية متكاملة، حيث يتحمل كل فرد مسؤولياته بشكل كامل، حتى في حال تعرضه لضغوط شديدة أو مواجهة للعدو بشكل مباشر.

 

أضف إلى ذلك أن هذه الوحدة القتالية المستقلة تجعل أي عمليات اغتيال أو استهداف للقادة غير فعّالة في تقويض القدرات العسكرية للمقاومة. فهي ليست معتمدة فقط على القادة الكبار، بل على الإرادة الجماعية والانضباط الذاتي لكل فرد في صفوف المقاومة.

 

الركيزة الأساسية التي تُميز نظرية القتال لدى المقاومة هي البنية الثقافية والإيديولوجية التي تترسخ في نفوس المقاتلين، فالإيمان العميق بالقضية، سواء كانت مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين أو الدفاع عن السيادة اللبنانية ضد التهديدات الإسرائيلية، يُعطي المقاتلين قدرة غير تقليدية على الاستمرار في المعركة، هذا الإيمان يتجاوز الجوانب العسكرية البحتة ويعتمد على قيم مثل التضحية، الشهادة، والانتصار بالقضية، وتحرير الارض، وانهاء الاحتلال، ما يجعل من الصعب على العدو الإسرائيلي اختراق هذا العنصر النفسي.

 

فالمقاتلون في المقاومة لا يرون أنفسهم مجرد جنود في معركة عسكرية، بل أصحاب قضية وطنية ودينية، وهذا الوعي العميق يُشكل درعًا عقائديًا يصعب على أي قوى خارجية، بما فيها الكيان الإسرائيلي، اختراقه أو التأثير عليه.

وعليه، يتجسد في قتالهم نوع من “الحرب غير التقليدية” التي لا تقاس فقط بالخسائر والإنجازات الميدانية، بل بالقدرة على الاستمرار في الصمود وتقديم التضحيات.

كما تتميز التكتيكات القتالية للمقاومة بمرونة عالية، حيث لا تقتصر على مواجهة العدو بأسلوب ثابت، بل تتغير حسب الموقف، من الهجمات المباغتة والكرّ والفرّ إلى استهداف نقاط الضعف في خطط العدو، تعمل المقاومة على تنفيذ عمليات متنوعة تُجبر العدو على تعديل استراتيجياته باستمرار، إن هذا التعدد والتنوع التكتيكي يساهم في أرباك العدو ويدفعه إلى إعادة تقييم قدراته على مواجهة المقاومة.

 

فيما يخص المواجهات المباشرة، فإن المقاومة تجيد استخدام تكتيك حرب العصابات، إذ يتم الاعتماد على الهجمات السريعة ثم الاختفاء، وتدمير المعدات العسكرية لجيش الاحتلال بشكل منهجي. كما أن التفوق الجوي أو البرّي للعدو لم يُحسم لصالحه، بل يُجبر على التكيف مع الظروف المتغيرة في ساحة المعركة.

 

أحد أهم أبعاد النظرية القتالية للمقاومة هو رفضها للاحتكام إلى الحروب التقليدية، بل التوجه نحو “حروب الاستنزاف”. فالمقاومة، أثبتت أن لديها قدرة على استنزاف العدو في المدى الطويل.

فالعمليات الصغيرة والمحدودة التي تؤثر على معنويات العدو وتؤدي إلى إطالة أمد الحرب تُعتبر جزءًا من استراتيجية متكاملة تهدف إلى تدمير قدرة العدو على الاستمرار في الحرب.

 

ومن خلال هذه الاستراتيجية، أصبح الكيان الإسرائيلي في وضع لا يُحسد عليه، حيث تتوالى الضغوط عليه من الداخل والخارج، وأصبح بحاجة إلى تبرير تدخلاته العسكرية أمام المجتمع الدولي.

 

فمن خلال النظرية القتالية للمقاومة، يتضح أن المقاومة الفلسطينية واللبنانية قد نجحت في بناء استراتيجية عسكرية غير تقليدية تقوم على تنظيم عسكري لامركزي، وتدريب استثنائي، وتوظيف ثقافة عقائدية تُعزز من قوة المقاتلين وتماسكهم في مواجهة العدو، هذه النظرية القتالية التي يُعجز العدو عن تحليلها أو تكييفها مع استراتيجياته التقليدية، قد غيّرت موازين المعركة، وأثبتت أن القوة العسكرية لا تأتي فقط من التكنولوجيا المتقدمة أو الجيوش الضخمة، بل من الإرادة الراسخة والقدرة على التكيف مع مختلف الظروف القتالية.

المصدر: موقع حيروت الإخباري

إقرأ أيضاً:

مونيكا وليم تكتب: القرار الإسرائيلي نحو إعادة احتلال غزة.. الأبعاد العسكرية والإستراتيجية

يشكل قرار الحكومة الإسرائيلية، برئاسة بنيامين نتنياهو، بالمضي نحو إعادة احتلال قطاع غزة وفرض حكم عسكري مباشر، تحولًا استراتيجيًا بالغ الخطورة في مسار الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، يفتح الباب أمام تداعيات عسكرية، وسياسية، واقتصادية، وأمنية عميقة، على المستوي  الإقليمي والدولي.
يأتي هذا التحول مدفوعًا بجملة من العوامل السياسية والأيديولوجية، أبرزها سعي نتنياهو للحفاظ على بقائه السياسي وإرضاء قاعدته اليمينية المتطرفة، التي تنظر إلى القطاع بوصفه جزءًا لا يتجزأ من “إسرائيل الكبرى”. كما يعكس القرار رغبة في حسم معادلة الجغرافيا والديموغرافيا لصالح السيطرة الإسرائيلية، بعد انسحاب عام 2005 الذي جاء بهدف تقليل الأعباء الأمنية والاقتصادية. 
وعند استقراء السياقات السياسية والأمنية، فقد يتبين أن حكومة نتنياهو حافظت على درجة من الغموض الاستراتيجي بشأن خططها طويلة المدى لغزة،وبالتالي وفق المنظور الإسرائيلي، فإن الحكم العسكري يحقق هدفين رئيسيين: أولًا، منع عودة حماس وقطع ارتباطها بالسكان عبر التحكم في المساعدات الإنسانية؛ وثانيًا، إقناع سكان القطاع باستحالة عودة الحركة، وتهيئة المجال أمام قوى مدنية بديلة لإدارة الشؤون اليومية. ومع ذلك، تميل التقديرات إلى أن إسرائيل ستسعى لتقليل الاحتكاك المباشر مع السكان، والاكتفاء بالسيطرة الأمنية على مناطق محددة، وهو ما قد يخلق فراغًا أمنيًا وإنسانيًا يطيل أمد الأزمة.
وعند تفنيد الصورة أكثر بعض الشئ فمن الناحية التكتيكية، يسعى نتنياهو إلى تحقيق مكاسب سياسية مرحلية، عبر المزج بين الضغط العسكري والسياسات العقابية، مثل تجويع السكان، لدفع حماس نحو اتفاق يتيح له تسجيل إنجاز سياسي يمحو أثر إخفاقات 7 أكتوبر،  وعلى النقيض من ذلك، يتبنّى سموتريتش مقاربة أكثر تشددًا، ترتكز على الحسم العسكري الكامل ورفض أي تسويات جزئية، بهدف فرض ما يسميه “النصر الحاسم” وترسيخ سياسة الردع القصوى.
وهو ما ينقلنا إلي عدد من المعطيات التي من شأنها تقويض نجاح هذه العملية، فالمتطلبات العسكرية والاقتصادية، تعد المعطي الأول في هذا الاطار حيث تشير الخبرات الميدانية إلى أن السيطرة على مناطق مأهولة تتطلب ما بين 20 و25 جنديًا لكل ألف مدني،  وبالنظر إلى الكثافة السكانية في غزة، فإن إعادة الاحتلال ستستلزم نشر ما بين 40 و50 ألف جندي، أي ما يعادل فرقتين عسكريتين على الأقل، مع احتمالية زيادة العدد في حال اندلاع انتفاضة شعبية واسعة وذلك في ضوء  مواجهة الجيش الإسرائيلي تحديات عملياتية جسيمة، في ظل إرهاقه بعد جولات القتال الأخيرة، وتزايد حالات رفض الخدمة في صفوف الاحتياط، وارتفاع معدلات الانتحار بين الجنود. كما أن استمرار العمليات الفدائية وتدهور الوضع الإنساني، بما في ذلك سياسة التجويع، قد يدفع نحو دورة جديدة من المقاومة المسلحة، محولًا الاحتلال إلى عبء استراتيجي طويل الأمد،  أما التكلفة الاقتصادية، فتُقدّر بين 32 و48 مليار دولار سنويًا، ما قد يرفع عجز الموازنة الإسرائيلية إلى نحو 6–7% ويجبر الحكومة على تقليص الإنفاق في قطاعات حيوية كالصحة والتعليم، إضافة إلى فرض ضرائب جديدة، وهو ما قد يفاقم الاحتقان الداخلي.
ايضا الانقسامات داخل القيادة الإسرائيلية، أذ كشف تقارير للقناة 12 الإسرائيلية عن معارضة مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي لخطة السيطرة الكاملة على غزة، مبررًا رفضه بالحفاظ على حياة الرهائن، الذين يُقدر أن نحو 20 منهم فقط ما زالوا على قيد الحياة،  وقد أيّد موقفه رئيس الأركان إيال زامير ورئيس الموساد ديفيد برنياع، بينما دعمها وزير الدفاع يسرائيل كاتس ووزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، الذي أبدى استعدادًا لتعليق العملية إذا توفرت صفقة جديدة.
وبالتالي معارضة الجيش الإسرائيلي لإعادة احتلال غزة ترجع لأسباب أمنية ، إذ تنطوي العملية المشار إليها على تحديات عملياتية كبيرة، خاصة في ظل الإرهاق الذي يعانيه الجيش الإسرائيلي بعد جولات القتال الأخيرة فهو لا يزال منهكاً، إلي جانب تزايد حالات رفض الخدمة في صفوف الاحتياط، وارتفاع معدلات الانتحار بين الجنود. كما أن استمرار العمليات الفدائية وتدهور الوضع الإنساني واستخدام ورقة التجويع الحالية، قد يذكيان دورة جديدة من المقاومة المسلحة، بما يحوّل الاحتلال إلى عبء استراتيجي طويل الأمد وذلك بالتزامن مع أن  إسرائيل لا تزال تحافظ على حالة تأهب قصوى بسبب الحرب الأخيرة مع إيران، كما ان إسرائيل لا تزال تحتل أراض في جنوب لبنان وجنوب سوريا.
هذا إلي جانب غياب الاجماع الاجتماعي، فقد يعد هذا القرار مثيرًا للانقسام، فبينما تدعمه القوى اليمينية المتشددة، تشير الملابسات الميدانية إلى عدم شعبيته بين قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي منها اقتحام المتظاهرين استديوهات القناة 13، الأمر الذي قد يدفع الحكومات المقبلة، خصوصًا بعد انتخابات 2026، إلى إعادة النظر فيه أو الانسحاب مجددًا.
ختاماً، إن إعادة احتلال غزة وفرض حكم عسكري ليست خطوة ميدانية فحسب، بل مقامرة استراتيجية تحمل كلفة اقتصادية باهظة، وانعكاسات دبلوماسية سلبية، ومخاطر أمنية متجددة. ورغم تسويقها كحل نهائي لإنهاء حكم حماس، إلا أن المؤشرات ترجّح أنها قد تفتح فصلًا جديدًا من عدم الاستقرار، وتكرّس واقعًا أكثر تعقيدًا على جميع المستويات.

طباعة شارك بنيامين نتنياهو قطاع غزة احتلال قطاع غزة

مقالات مشابهة

  • استشهاد 9 مواطنين فلسطينيين جراء قصف للعدو على خان يونس ومدينة غزة
  • 187 مليون ريال استثمارات استراتيجية جديدة في "حرة صلالة"
  • باسم نعيم : نتنياهو يواصل “الأكاذيب” التي اعتاد عليها منذ بداية الحرب
  • سلاح المقاومة!
  • مونيكا وليم تكتب: القرار الإسرائيلي نحو إعادة احتلال غزة.. الأبعاد العسكرية والإستراتيجية
  • مسيرة بجامعة حجة تضامناً مع غزة
  • خريس: للسيادة العادلة التي تصون إنجازات المقاومة
  • ما خطة نتنياهو العسكرية لاحتلال غزة؟ وكيف ستواجهه المقاومة؟
  • “القسام” تدك موقع قيادة وسيطرة للعدو الصهيوني شرق مدينة غزة
  • وقفة لقطاع التعليم في حجة نصرة للشعب الفلسطيني