لجريدة عمان:
2025-06-03@17:31:06 GMT

بين حاضنتين .. تموضعات التاريخ والمجتمع

تاريخ النشر: 24th, November 2024 GMT

يستلزم الحديث أولا النظر إلى مفهوم الحاضنة الاجتماعية، والحاضنة التاريخية في هذه المناقشة فقط، فالمقصود بالحاضنة الاجتماعية هنا: هو القدرة على احتواء أحداث التاريخ، والاستفادة منها، وعدم تجاوز تأثيراتها، وإن ارتبطت هذه الأحداث بزمن معين، وكان له فترة انتهاء، لأن الأحداث لا تموت موتا مطلقا، وإنما تختفي فورتها الآنية في اللحظة الزمنية لحدوثها، في الوقت الذي تسعى الذاكرة الاجتماعية للاحتفاظ بها لأقصى فترة زمنية ممكنة، وتوظيفها توظيفا بنيويا عبر ذات الذاكرة التي تنقلها من عصر إلى عصر من خلال أجيالها المتعاقبة.

ومن هنا تواردت وتسلسلت إلينا الأحداث والوقائع التاريخية منذ آلاف السنين، ولا زلنا نرويها، ونتحدث عنها، ونتخذها مثلا، وكأننا الشخوص التي عاشت تفاعلاتها المختلفة؛ حيث نمارس هنا دور «شاهد على العصر» مع أننا لم نعش تلك العصور، ولكننا استسغنا هذه السرديات التي نقلها إلينا من كان قبلنا، لأنها جزء من تكويننا الاجتماعي بكل مفرداته، وبالتالي فهذا الرصيد يعود الفضل في بقائه واستمراره إلى الحاضنة الاجتماعية التي ترى فيه بقاءها، وأصالتها، وهويتها.

وبالتالي فالحاضنة الاجتماعية لن تتنازل عنه قيد أنملة، مع ما تلاقيه من صد للحديث عنه، وانتقاد لبقائه على رأس أهميته كل هذه السنين، خاصة من الفئة التي ترى أن كل ما يشير إلى الماضي، يدفن في مقبرة ماضيه، وما النداء الذي ينادى به بضرورة إعادة قراءة النص، أو المفاهيم المصاحبة لذات الفكرة، إلا صورة ماثلة لهذا الاشتباك وعدم الرضى لاستمرار الحاضنة الاجتماعية على قرارها الذي تعض عليه بالنواجذ، وهذا أمر واضح ومسلم به، والكل يعيش تفاصيله، سمه حوار الأجيال، سمه صراع الأجيال، وارتق به إلى حوار الحضارات، أو صراع الحضارات، كل ذلك مفهوم ومقبول، ومع ذلك يبقى للحاضنة الاجتماعية فضل البقاء والاستمرار، تأصيلا للمقولة المتداولة: «الإنسان لن يكون مقطوعا من شجرة» في كل مراحل نموه واستمراره الاجتماعي المتواصل.

أما الحاضنة التاريخية: فهي غير منكورة، بل متنوعة، وتتضمن تباينات مختلفة، وكل مآلات الأنشطة، والممارسات التي يقوم بها أبناء المجتمع تنضوي تحت الحاضنة التاريخية، فهي الملتحمة على طول خط السير الزمني مع الحاضنة الاجتماعية، والدليل على أن للتاريخ حاضنة قوية، هو ما يشير إليه هذا الكم النوعي، المادي وغير المادي الذي استطاع الإنسان أن يحصده طوال تجربته في الحياة، وظل التاريخ ساعده الأيمن لتوثيق كل صغيرة وكبيرة بذلها الإنسان عبر المساحة الزمنية المتاحة هذه، منذ بدء الخليقة، وإلى يومنا هذا، وما بعده، وفي هذا المكتسب يمكن الخروج بقراءة واسعة عن الإنجازات البشرية المادية وغير المادية أيضا، ومن هذا المكتسب يمكن الخروج بكثير من القناعات، والمواقف، والرؤى، فالتاريخ حفظ كل ذلك، ورصده رصدا متواترا، لا لبس فيه ببعديه المادي وغير المادي، تبقى فقط همة المجتمع الإنساني لكي يغرس فيه أدواته من البحث والتقصي، والتمعن، والتمحيص، فهناك؛ أيضا؛ الكثير مما حُمِّلَ التاريخ فوق ما يحتمل، خاصة عندما تتجاوز الأقوال -وليس الأفعال- المنطق «حدث العاقل بما يعقل» وإن كان في هذه الأقوال ما يذهب كله إلى التمجيد، بالأشخاص على وجه الخصوص، واحتساب ما لم يفعلوه على أنهم فعلوه، وهذه إشكالية كبيرة وموضوعية في كتابة التاريخ، وأمانة كبيرة تقع على عاتق كتاب التاريخ في كل عصر، فالمسألة ليست محصورة بزمنها الآني، بل تنتقل عبر الأجيال «الحاضنة الاجتماعية» مدعومة بأعمار هذه الأجيال «الحاضنة الزمنية» فتتوافق هنا الحاضنتان، ولا تتباينان في حجم المسؤولية، وعلى الإنسان الفرد أن يعي هذه الحقيقة، حتى في التفاصيل الصغيرة من حياتها، فحياته هي انعكاس لمستوى جميع أفراد حاضنته الاجتماعية، ولعل الهوية هنا تلعب دورا محوريا، خاصة من حيث التأصيل، وتلعب مفردات الهوية الدور الأكبر في هذا الاتجاه من حيث مستوى التنوع الذي تعيشه المجتمعات، لتحتكم على أصالتها أكثر وأكثر، والناس عموما يعبرون عن مجتمعاتهم من خلال مفردات هوياتهم، والتي لا تنقطع إطلاقا عن مجريات حياتهم اليومية، فهم ملتحمون معها وبها إلى درجة الاندماج المطلق، الذي يقاس عليه درجة تفوق هذا المجتمع عن غيره، في قدرته على المحافظة على أصالته وتجذره؛ والتجذر هنا هو الحمولة الزمنية التي يسجلها التاريخ.

من ضمن الأسئلة التي يمكن أن تطرح في العلاقة بين الحاضنتين، لتجلية الصورة عن الوقوع في مأزق التباين بينهما، ولتأكيد الفهم على مسألة التوافق والتكامل بينهما أيضا، لشدة التماس بين الوظائف المسنودة إلى كل منهما: ومن ذلك، أيهما متقدم على الآخر، هل الحاضنة التاريخية أم الحاضنة الاجتماعية، هذا من حيث النشأة؟ وأيهما أكثر تأثيرا في مجريات الآخر؛ التاريخية أم الاجتماعية؛ هذا من حيث التفاعل؟ ومع التسليم بأن الإنسان هو الفاعل في أحداث كليهما، فما هو المسوغ الذي يتكئ عليه لكي يجازف بتكرار أحداث التاريخ عبر مقولة: «من ينكر التاريخ، يجازف بتكراره» هذا من حيث الفهم؟ والتكرار هنا هو العودة الدائمة إلى المربع الأول، وكأن ما تم تحقيقه أو إنجازه يذهب في غياهب النسيان، أم أن الحاضنة التاريخية من تعاني من الشتات، هذا من حيث الإهمال؟ نعم، التاريخ يعطي اتساع المساحة الزمنية للبذل والعطاء، ولكن يبقى للحاضنة الاجتماعية القول الفصل في أحياء هذه المساحة، وإشعالها اشتغالا وتفاعلا وتأثيرا، والحرص على الاستفادة من كل موطئ قدم للتاريخ، وهل يمكن أن نقرأ تضادية معينة بين الطرفين: التاريخ والاجتماع هذا من حيث الدلالة؟ والتضادية هنا تذهب إلى أن المساحة الزمنية تظل دائما ضيقة لاستيعاب تفاعلات المجتمع، بينما يرى آخرون أن تفاعلات المجتمع غير قادرة على ملأ فراغ هذه المساحة التي يتيحها الزمن للإنسان، وتعكس الصورة برمتها حالة من المراوحة بين الطرفين، ولكنها تصل ختاما إلى أن كلا الطرفين (الحاضنة التاريخية/ الحاضنة الاجتماعية) يؤسسان منطلقات حياة الناس، ويصلان بها إلى مصاف التميز، ويبقى على الإنسان (الفرد/ المجموع) أن يكون حاضرا بفعله وتأثيره في تفاعلات الحاضنتين.

هنا؛ أيضا جانب متعلق بذات المسألة أو الفهم، وهو أن ما يحدث في المسألة التاريخية من تفاوت نسبي في شأن التدوين، وفي تجاوز الأحداث، وفي تهجينها، وفي التحايل على أكثرها، هو نوع من التلاعب الذي يحدثه الإنسان، ويتجاوز من خلاله المنطق، حيث تذهب به العاطفة إلى المآلات غير المتوقعة منه كمؤرخ، وكراصد للحقيقة، وكشاهد على عصر لن يشاهده من بعده؛ لطول أزمنة التاريخ، أكثر مما تقع عينه على آثاره، ومحتوياته، وقد تصل إليه مشوهة، وهو يقرأ ما كتب عن تاريخ أصبح شيئا من الماضي، وكتابة التاريخ هي نوع من المجازفة غير محمودة العواقب، في أغلبها، لأن الكاتب لن يكون صادقا، وأمينا، وحياديا، بالقدر الذي يتوقعه منه الآخرون لعوامل اجتماعية، وأغلبها ومطامع ذاتية، وذلك فإن مجمل كتاب الحاضنة التاريخية واقعون في هذا المأزق، وهذا لا ينفي أن هناك رجالا صدقوا ما عاهدوا عليه أنفسهم، بأن يكونوا منصفين، وصادقين، وحراسا أوفياء على أمانتهم التي يحملونها عن طيب خاطر، وهؤلاء كثير منهم أيضا؛ واجهوا في حاضنتهم الاجتماعية الكثير من الصعاب، والطرد من رضى المجتمع من حولهم فـ «الدهر لا يبتغي إلا مادحا ملقا؛ يتغنى بالهوى فوه» وهذا إشكالية موضوعية في الحاضنة الاجتماعية، تتأثر بها الحاضنة التاريخية.

تتبلور عقدة هذه المسألة أكثر في أن الإنسان واقع بين فكي كماشة، فلا الزمن يعطيه صك برهان لكي يكتب ما يريد، ولا المجتمع يعطيه هذا الصك ليعيش كما يريد، وللخروج من هذه العقدة «الإشكالية» أن يكون صادقا صادقا، ويكفيه ذلك.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الحاضنة الاجتماعیة هذا من حیث

إقرأ أيضاً:

مجلس التعليم والتنمية البشرية والمجتمع يعتمد معايير دراسة الطلبة المواطنين للتعليم العالي خارج الدولة

 

 

اعتمد مجلس التعليم والتنمية البشرية والمجتمع معايير دراسة طلبة التعليم العالي لمواطني دولة الإمارات خارج الدولة، حيث تهدف المعايير إلى رفع كفاءة وجاهزية الطلبة للدخول في سوق العمل، وتنظيم خيارات الابتعاث الخارجي بما ينسجم مع تطلعات الدولة وخططها الوطنية والقطاعات المستهدفة والتطورات المستقبلية، وبما يدعم تحقيق الاستثمار الأمثل في الكفاءات الإماراتية.
ويأتي ذلك في إطار التوجهات الاستراتيجية لتطوير منظومة التعليم والتنمية البشرية في الدولة، ولموائمة مخرجات التعليم العالي مع مستهدفات التنمية الوطنية واحتياجات سوق العمل،
ويسعى المجلس عبر هذه الخطوة إلى تمكين الطلبة من اتخاذ قرارات تعليمية مدروسة ومبنية على أسس واضحة تضمن جودة البرامج والمؤسسات التعليمية المُختارة، وتعزز فرص الاستفادة من المؤهلات التي يحصلون عليها في مساراتهم المهنية المستقبلية داخل الدولة وخارجها.
واستمدت هذه المعايير من رؤية واضحة لتطوير تجربة التعليم العالي خارج الدولة، من خلال توجيه الطلبة نحو تخصصات ومؤسسات أكاديمية معتمدة وذات كفاءة عالية.
ويتعين على الطلبة الراغبين في الالتحاق بإحدى مؤسسات التعليم العالي خارج الدولة سواءً على نفقتهم الخاصة أو على نفقة إحدى جهات الابتعاث الالتزام بالدراسة في مؤسسات التعليم العالي بحسب التصنيفات المعتمدة من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بحسب المعايير التالية؛ وهي أن تكون ضمن أفضل 50 جامعة في التخصص المراد دراسته (بغض النظر عن التصنيف العام أو بلد الدراسة) وبحسب التصنيفات العالمية المعتمدة من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، أو أن تكون ضمن أفضل 100 جامعة في التخصص المراد دراسته وأن تكون ضمن أفضل 100 جامعة في التصنيف العام بحسب التصنيفات العالمية المعتمدة من الوزارة في حالة الدراسة في أي من أمريكا أو أستراليا ، أو أن تكون ضمن أفضل 200 جامعة في التخصص المراد دراسته وأن تكون ضمن أفضل 200 جامعة في التصنيف العام بحسب التصنيفات العالمية المعتمدة من الوزارة في حالة الدراسة في أي من دول الابتعاث الناطقة باللغة الإنجليزية ما عدا أمريكا وأستراليا ، وأن تكون ضمن أفضل 300 جامعة في التخصص المراد دراسته وأن تكون ضمن أفضل 300 جامعة في التصنيف العام بحسب التصنيفات العالمية المعتمدة من الوزارة في حالة الدراسة في أي من دول الابتعاث غير الناطقة باللغة الإنجليزية.
ونوه المجلس بضرورة الالتزام بالمعايير المحددة لتفادي رفض الاعتراف بالمؤهلات التي يحصل عليها الطلبة خارج الدولة والاعتداد بها لأغراض التعيين أو الترقية أو الحصول على إجازات التفرغ للدراسة، أو إجازات أداء الامتحانات، أو مناقشة الرسائل البحثية أو مزايا المؤهل في القطاع الحكومي الاتحادي في الدولة.
ولضمان توفير منهجية شفافة وعادلة تضمن مراعاة الحالات الخاصة، لاسيما للطلبة الذين يتابعون دراستهم في الخارج حالياً، سيتم منح الطلبة المواطنين الإماراتيين الذين يقومون باستكمال دراستهم خارج الدولة حالياً سواء على حسابهم الخاص أو على حساب جهة الابتعاث مهلة لمدة سنة من تاريخ العمل بهذا القرار لتوفيق أوضاعهم.
كما تم تشكيل لجنة متخصصة برئاسة الأمانة العامة لمجلس التعليم والتنمية البشرية والمجتمع للنظر في طلبات الاستثناء بما يكفل دراستها وفق معايير دقيقة تراعي طبيعة التخصص والمؤسسة التعليمية والظروف الفردية لكل حالة لدعم مصلحة الطالب وتعزيز فرصه التعليمية والمهنية، كما وجه المجلس بالتواصل بشكل مباشر مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي للاستفسار عن التفاصيل المتعلقة بالمعايير المعتمدة وآلية تقديم طلبات الاستثناء.
وتندرج هذه الآلية ضمن مجموعة من السياسات والمبادرات التي يعمل عليها مجلس التعليم والتنمية البشرية والمجتمع مع الجهات المعنية، والهادفة إلى الارتقاء بجودة التعليم العالي، وتعزيز منظومة الاعتراف بالشهادات، ودعم الطلبة الإماراتيين سواء داخل الدولة أو خارجها. وتسهم هذه الجهود في تمكين الكفاءات الوطنية، وتنمية الموارد البشرية، وبناء أجيال يمتلكون المهارات والطاقات والمعارف التي تواكب تطلعات الدولة وتعكس رؤاها المستقبلية.وام


مقالات مشابهة

  • منظمات حقوقية تطالب الحوثيين بالإفراج الفوري عن موظفي الأمم المتحدة والمجتمع المدني
  • مجلس التعليم والتنمية البشرية والمجتمع يعتمد معايير دراسة الطلبة المواطنين للتعليم العالي خارج الدولة
  • اختتام دوري “الفتح الموعود والجهاد المقدس” في مدينة منظر التاريخية بالحديدة
  • مخطط متنزه إسرائيلي يطرد سكان سبسطية من قريتهم التاريخية
  • تنظيم يوم علمي حول البيئة والمجتمع المدني بين الوكالة الوطنية للأمن الصحي ووزارة البيئة
  • حدائق تلال الفسطاط.. مشروع لإحياء القاهرة التاريخية ومصر القديمة
  • بوريطة: الموقف الذي عبرت عنه المملكة المتحدة بشأن قضية الصحراء المغربية سيعزز الدينامية التي يعرفها هذا الملف
  • وجدي زين الدين: إسرائيل ترتكب فظائع غير مسبوقة في غزة.. والمجتمع الدولي يتجاهل المأساة
  • اليونيفيل القطاع الغربي يدعم الشباب والثقافة والمجتمع من أجل السلام
  • الأهلي يكرم «رجال اليد» بعد السداسية التاريخية