صديق عبد الهادي

(1)

هذا المقال لا يقدم رصداً تاريخياً، بقدر ما أنه يحاول أن يبين الخيط الذي ينتظم حقائق تاريخية لأجل الوصول لفهم حقيقة الهدف من وراء الحرب التي تم نقلها إلى أرض الجزيرة وليس إلى أي أرض أخرى، رغم حقيقة أن منطقة الجزيرة في الأساس هي منطقة إنتاج، حيث يبقى الاحتياج إليها مستقرة وآمنة في وقت الحرب لهو أكثر ضرورة منه في أي وقتٍ آخر، أي لا بد أن تبقى بمنأى عن الحرب، وذلك لأنها ستوفر الغذاء المطلوب في ظل مثل هذه الظروف، ولكن السؤال لماذا حدث العكس؟!

(2)

إن منطقة الجزيرة، والتي هي في حقيقة الأمر تضم منطقة وسط السودان بشكل عام، اكتسبت أهميتها القصوى بعد تفكك دولة الفونج وانهيارها الذي تمّ على مشارف القرن التاسع عشر.

ولتبدأ من بعده تحولها التاريخي المعاصر مع تأسيس الدولة التركية في العام 1821. ومن هذه النقطة التاريخية تحديداً، وبمفهومها الحقيقي كدولة مركزية، بدأت العلاقة بين الدولة ووسط السودان، أي علاقتها بالجزيرة. وهي علاقة لم تكن تشبهها أي علاقة أخرى للدولة المركزية مع أيٍ من بقية مناطق السودان الأخرى.

ومنها، فقد مرّتْ أربع دول مركزية على السودان حتى الآن، وتلك الدول المركزية هي الدولة التركية (1821-1885)، الدولة المهدية (1885-1898)، دولة الحكم الثنائي/ الإنجليزي المصري (1898-1956) والدولة الوطنية بعد الاستقلال، أي من عام 1956، وإلى يومنا هذا. وكلها دول مختلفة في طبيعتها وتركيبتها بشكل عام، إلا أنها تشترك في سمة واحدة وأساس، وتلك السمة هي علاقتها بمنطقة الجزيرة تحديداً. اعتمدت كل تلك الدول المركزية في اقتصادها على منطقة الجزيرة باعتبار أنها منطقة زراعية من الدرجة الأولى، وكذلك لقربها من مركز إدارة سلطة الدولة المركزية. وهتان الحقيقتان إستوعبتهما القوى الاجتماعية وأنظمتها الحاكمة التي كانت تدير تلك الدول المركزية. جاء مكتوبٌ لمحمد علي باشا قائلاً فيه “من أجل تعمير الزراعة في سنار التي فتحناها بجهدٍ كبير نحتاج إلى فنيين لهم دراية، فلا تهملوا هذا الأمر وإلا ستندموا عليه كثيراً”. وبسنار يقصد محمد علي باشا دولة الفونج. ومن جانب آخر يمكن أن تكون أكثر عبارة أوضحت وأشارت، ليس فقط للنشاط الذي كان يسود منطقة الجزيرة، وإنما أفصحت عن الارتباط القوي لإنسان الجزيرة بالأرض، هي عبارة الخليفة عبد الله التعايشي في عدم رضائه، وفي ذمِّه لأهل الجزيرة حينما رفضوا الخوض في وحل الحرب الداخلية التي كان يديرها الخليفة داخل دولته، حيث قال إنهم، ويقصد أهل الجزيرة، “يميلون إلى حب الأطيان والإقامة بالأوطان”!.

(3)

ومع بدايات الحكم الثنائي، أي الإنجليزي المصري، كتب “جون ج لانق”، قنصل الولايات المتحدة في القاهرة إلى “ديفيد ج هيل” مساعد وزير الخارجية الأمريكي، قائلاً “تسعى حكومة البلاد بشدة إلى تطوير الموارد الزراعية في البلاد على أسس ليبرالية لتشجيع رأس المال والهجرة. لقد أصبح السفر إلى المدن الواقعة على النيل الأبيض والأزرق أكثر ملائمةً، إذ يمكن لأي مسافر أن يترحل” وإلى أن يقول “هناك احتياج للأدوات والآليات الزراعية… عليكم القدوم باكراً لتأمين موقع راسخ في أسواق البلاد”. إن “تطوير الموارد الزراعية في البلاد على أسس ليبرالية” والذي أشار إليه القنصل الأمريكي في عبارته إنما يعني به المساعي التي تمخض عنها إنشاء مشروع الجزيرة، في نهاية نجاحاتها في 1925. وهو المشروع الذي أصبح تحت سلطة الدولة المركزية الوطنية وأنظمة الحكم التي تعاقبت خلالها منذ الاستقلال، وبعد ذهاب دولة المستعمر.

وعلى نفس منوال تأكيد أهمية منطقة الوسط والتي تضم الجزيرة جاءت، أيضاً، أكثر الإفادات إفصاحاً وتركيزاً من الاقتصادي الإسلامي وأحد منظري نظام الإنقاذ “عبد الرحيم حمدي” الذي قال، ” إن الجسم الجيوسياسي في المنطقة الشمالية المشار إليه أعلاه، وسأطلق عليه اختصاراً {محور دنقلا – سنار + كردفان} أكثر تجانساً.. وهو يحمل فكرة السودان العربي/الإسلامي بصورة عملية من الممالك الاسلامية القديمة قبل مئات السنين.. ولهذا يسهل تشكيل تحالف سياسي عربي/إسلامي يستوعبه”. وهو أيضا “الجزء الذي حمل السودان منذ العهد التركي/الاستعماري/الاستقلال.. وظل يصرف عليه.. حتى في غير وجود النفط؛ ولهذا فإنه حتى إذا انفصل عنه الآخرون {إن لم يكن سياسياً واقتصاديا عن طريق سحب موارد كبيرة منه} لديه إمكانية الاستمرار كدولة فاعلة، يصدق هذا بصورة مختلفة قليلاً حتى إذا ابتعدت دارفور.. رغم إمكانية خلق علاقات اقتصادية أكثر مع دارفور، حتى لو انفصلت أو ابتعدت سياسياً.” (انتهى).

عُرف هذا النص في أدب الاقتصاد السياسي السوداني بنص تأسيس “مثلث حمدي”! وهو نص نظري مهم، مثَّلَ ملخص لبرنامج الحركة الإسلامية للتغيير الاجتماعي المتكامل، وكشف عما تضمره الحركة الإسلامية تجاه منطقة الجزيرة وكيفية محاولة تجييرها في صالح ذلك البرنامج الذي يرمي في نهاية الأمر لإقامة الدولة الإمارة!. وبالفعل قد بينت وحددت محاولات تنفيذه شكل العلاقة بين منطقة الجزيرة ونظام الإنقاذ، والتي لا تزال تداعياتها تترى وتتتابع حتى اليوم.

(4)

على ضوء هذه الخلفية المختصرة، ليست التاريخية وحسب، وإنما الاقتصادية السياسية، وكذلك من خلال النظر المتأمل في علاقة منطقة الجزيرة بكل النظم الحاكمة التي مرت على البلاد منذ العهد التركي وحتى الآن نود أن ننظر إلى هذه الحرب الكارثية الغاشمة التي تجري الآن في منطقة الجزيرة، وكما تمت الإشارة في مقدمة المقال، ولنقف أيضاً على طبيعتها، وعلى أصل الأهداف التي خُطِطَ لتحقيقها من وراء زج منطقة الجزيرة في أتونها.

إن العلاقة بين الجزيرة وجميع الحكومات المركزية في تاريخ السودان الحديث، كانت في صعودها وهبوطها تخضع للسلاسة مرات وللتوتر مرات أخرى، وذلك بالقطع ما هو من طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وقد كانت تخضع تلك العلاقة كذلك للأشكال والأدوات المعروفة التي تستخدم في الصراع لأجل تحقيق المصالح بين الأطراف، من تفاوضٍ واحتجاجاتٍ وإضراباتٍ وبل اعتصامات خاصة عندما أخذت العلاقة تحتكم لأشكال حديثة وأرقى، تمثلت في القوانين التي حولت تلك العلاقات لتصبح هي الأخرى علاقات حداثية مبنية على عقدٍ اجتماعيٍ وعلى علم، وذلك بفضل الأرضية التي خلقها مشروع الجزيرة كركيزة لنهوض القطاع الحديث. فالاستثناء الوحيد في سجل تلك العلاقة مع الأنظمة الحاكمة في التاريخ الحديث للسودان كانت علاقة منطقة الجزيرة مع نظام الإنقاذ، أي نظام الإسلاميين!، إذ إنه كان النظام الوحيد الذي ناصب المزارعين العداء والفجور في الصراع، حيث تمت فيه ملاحقة المزارعين؛ ومن ثم إيداعهم السجون لا لسبب سوى أنهم مزارعون! وتلك كانت الخطوة الأولى في تغيير طبيعة التعامل مع المشروع ومكوناته البشرية والمادية، وكذلك كانت الخطوة الأولى نحو تفكيكه كوحدة اقتصادية/ اجتماعية. ومن ثم تداعت بعد ذلك، وتلاحقت الدعاوى بفشل المشروع، وكانت في معظمها دعاوى كذوبة قصد منها التمهيد للقضاء على المشروع، وذلك بتصفية ممتلكاته الأساسية؛ ومن ثم بنياته التحتية، وقد كان. وقد قالها الراحل حسن الترابي في دار اتحاد المزارعين حين اجتماعه بكبار موظفي ومهنيي المشروع في أوائل أيام حكمهم، بأن يجب التخلص من مشروع الجزيرة. والمقصود بالتخلص منه، هو أن يتم ذلك عن طريق تغيير طبيعة ملكية الأرض فيه. وكذلك رددها عوض الجاز بأنه لا يود سماع “أن يذهب جنيه واحد لدعم مشروع الجزيرة”!، وكذلك قالها البشير، وحتى البرهان قالها، “عفو الخاطر” في مخاطبته لأحد لواءات جهاز الأمن، وهو من أبناء الجزيرة، “إنت من الجزيرة وكيف وصلت للرتبة دي؟!”. فإن لم يكن ذلك هو العداء المضمر فما العداء إذاً؟!

في ظل نظام الإنقاذ تمت صياغة الأداة القانونية والتشريعية الكفيلة بتصفية المشروع (صدور قانون 2005). وكان ذلك في مواءمة تامة مع الإطار النظري الذي استند إليه “مثلث حمدي”، أي برنامج التغيير الاقتصادي /الاجتماعي/ السياسي للحركة الإسلامية السودانية، والقاضي بإقامة الدولة الإمارة!

(5)

لم تسقط رايات ذلك البرنامج حتى بعد ثورة ديسمبر 2018، بل زاد التمسك به على رأس المصالح الضخمة التي من أجلها تم إشعال الحرب! فشلت كل محاولات تغيير طبيعة ملكية الأرض في منطقة الجزيرة عن طريق “الحرب الناعمة” لأن أهل الجزيرة انتصروا في جميع المواجهات القانونية التي تمت إبان فترة حكم الإنقاذ، وقد نجحت الثورة في تجميد العمل بقانون 2005، وذلك رغماً عن عدم التمكن من إجازة القانون البديل الذي كان تحت الإعداد بعد الثورة.

وضح للإسلاميين أن تغيير ملكية الأرض لن يتم إلا عن طريق الإحلال، أي عن طريق ما يعرف بالتغيير الديمغرافي، وليس بوسيلة “الحرب الناعمة” أي ليس بواسطة التشريع والقانون، وإنما عن طريق “الحرب الخشنة” أي باستخدام الحديد والنار. فلذلك كان قرار اللجنة الأمنية للحركة الإسلامية هو نقل الحرب وبكامل قبحها وقوتها التدميرية إلى أرض الجزيرة، وليس إلى أي منطقة أخرى! فقرار نقل الحرب وإخلاء الجيش السوداني وترك أهل الجزيرة العزل في مواجهة وحشية قوات الدعم السريع ودمويتها، هو قرار لا علاقة له بالتكتيك العسكري أو القتالي أو الحربي، لأن التكتيك العسكري الحصيف والمعروف لا ينقل المعارك إلى مناطق الإنتاج، فالحرب، وكما هو معلوم، تحتاج لأن تكون هناك عملية للإنتاج مستمرة دون اضطراب، وهذا ما تفهمه العقليات الحربية وما تحض عليه كافة العلوم العسكرية. ولكن ما تم من قرار بأن تصبح أرض الجزيرة هي أرض المعركة الأم، فقد كان ذلك هو، وفي صميمه إعلان وإفصاح، بل وتحقيق عملي لحرب كانت مؤجلة ولزمن طويل!. ولا أدلَّ على ذلك من أن العالم كله يشهد اليوم كابوس إخلاء أهل منطقة الجزيرة وبهذا العنف الدامي، ويقف كذلك شاهداً على بدء التمهيد لعملية الإحلال القسري في أرض الجزيرة وكما خطط لها الإسلاميون وحلفاؤهم من برابرة العصر.

فهذه الحرب ليست حرب صدفة، وإنما حرب كانت مؤجلة والآن قد تحققت، وبالفعل.

(6)

إن العالم، وكل العالم، ملزم قانونياً وأخلاقياً بالعمل على وقف عملية الاقتلاع التي تتم الآن في حق أهل الجزيرة وذلك بأن يمتثل لنص قوانين الأمم المتحدة وخاصةً إعلانها المتعلق بحماية حقوق السكان الأصليين (295/61)، الصادر في 13 سبتمبر 2007. وخاصةً المادة (10) المتعلقة بحماية الأرض. فأهل الجزيرة، ولا شك، ممنْ تنطبق عليهم تلك الحماية وفقاً للتعريف الذي تتبناه الأمم المتحدة بخصوص أرض السكان الأصليين.

لنعمل جميعاً على المطالبة بوقف هذه الحرب ولنعمل على المناشدة بالحماية ليست لأهل الجزيرة وحدهم، وإنما التمسك بالحماية لكافة أهل السودان.

الوسومصديق عبدالهادي

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: منطقة الجزیرة مشروع الجزیرة نظام الإنقاذ العلاقة بین أهل الجزیرة أرض الجزیرة عن طریق

إقرأ أيضاً:

عادل الباز يكتب: سياسة امريكا.. ثلاثية وقدها رباعي.!!

1 في أي تحليل سياسي، لا بد من النظر في السياق الذي تجري فيه الأحداث وترتيبها زمنيًا لمحاولة فهم وتفكيك وكشف الأهداف التي تسعى إليها الأطراف الفاعلة في القضية محل البحث. في هذا الإطار، نسعى لقراءة البيان الأخير الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية بشأن الحرب في السودان، والذي يفضح “ثلاثية” قائمة على المصالح، وازدواجية المعايير، والتواطؤ، وتُقدَّم كأنها مشروع سلمي وأخلاقي وإنساني، بينما هي مجرد أداة لتحقيق المصالح، وإدارة النفوذ، وتمتين التحالفات.
2
ما إن عاد ترامب محمّلًا بالتزامات تريليونية من الإمارات، حتى بدأت أجندة الاتفاقيات السرية، وخاصة فيما يخص السودان، تتكشف شيئًا فشيئًا. وكما يرغب السيد ترامب في أن يحصد الدولار الإماراتي، هناك أجندة إماراتية لا بد من تمريرها عبر أمريكا لتصبح تلك التريليونات مستحقة و”حلالًا” وواجبة الدفع.
3
فما إن عاد السيد ترامب، وبعد أقل من أسبوع، حتى أُثيرت كذبة “الأسلحة الكيميائية” التي يُزعم أن الجيش استخدمها ضد المتمردين، ثم أعقب ذلك الإعلان عن عقوبات ستصدر خلال شهر يونيو على قادة الجيش بناءً على تلك الكذبة. وسرعان ما استدعت الخارجية الأمريكية ثلاثة سفراء من الإقليم، هم سفراء مصر والإمارات والسعودية، للقاء نائب وزير الخارجية الأمريكي، كريستوفر لانداو، والمستشار الأول لشؤون أفريقيا، مسعد بولس.
هكذا أصبح اللعب على المكشوف. الإمارات لا تعطي ولا تشتري سلاحًا أمريكيًا لوجه الله؛ فهناك متطلبات يجب على أمريكا تلبيتها، خاصة إذا كانت تلك المتطلبات تخص دولة لا تعني أمريكا في شيء، ولا يضيرها أن تدينها أو تفرض عليها عقوبات، أو حتى تضربها عسكريًا.
4
متطلبات الإمارات تتمثل في مساعدتها على الخروج من ورطتها التاريخية التي دخلت فيها برجليها، وغرقت فيها حتى أذنيها،وتلطخت أيديها بدماء السودانيين حين دعمت ومولت ميليشيا مجرمة، لأجل ذلك استدعى السيد كريستوفر السفراء الثلاثة: ريما بنت بندر آل سعود من المملكة العربية السعودية، والسفير معتز زهران من جمهورية مصر العربية، على عجل. ثم أصدرت الخارجية بيانًا يدعو إلى وقف الحرب فورا في السودان، وليس في غزة أو أوكرانيا! ففي حين تسارع الولايات المتحدة لإدانة السودان وفرض عقوبات عليه، نراها تدافع عن إسرائيل التي ترتكب كل ما في دفاتر الحروب من جرائم، بل وتزوّدها بالسلاح والدعم السياسي الكامل لإنجاز مهمتها في إبادة شعب غزة.!
5
… ولكن لماذا تطالب أمريكا بوقف الحرب في السودان تحديدًا؟ يقول البيان:
“انطلاقًا من إدراكهم أن الصراع في السودان يهدد المصالح المشتركة في المنطقة، وتسبب في أزمة إنسانية كبرى”.
والسبب الثاني:
“الولايات المتحدة لا تعتقد أن هذا النزاع قابل للحل العسكري”.
وبناءً عليه :
“ينبغي على المجموعة الرباعية أن تبذل جهدًا مشتركًا لإقناع الأطراف المتحاربة بوقف الأعمال العدائية والتوصل إلى حل تفاوضي”.
ولتغطية الأسباب الحقيقية التي دفعت أمريكا لهذا التدخل العاجل جاء في البيان :
“أكد نائب الوزير، في ضوء التأثير الإقليمي المتزايد للأزمة السودانية، التزام الولايات المتحدة بالعمل عن كثب مع دول المجموعة الرباعية من أجل معالجة هذه الأزمة”.
ثم ماذا بعد؟
“ناقش كريستوفر معهم الخطوات التالية لتحقيق هذا الهدف”، وهو إيقاف الحرب!
هذا بيان “تعاين فيه تضحك وتمشي ما تجيه راجع!”، لأنه بيان تتدثّر فيه المصالح بالأكاذيب، ويثير الغثيان في كل فقرة من فقراته!.
6
انظر – يا هداك الله – إلى مقولة:
“الصراع في السودان يهدد المصالح المشتركة”؟
أي مصالح مشتركة تلك التي تهددها حرب السودان الآن وهي تجري على سهول كردفان وأقاصي دارفور؟ هل لأمريكا، أو مصر، أو السعودية، أو الإمارات مصالح مشتركة هناك؟ بل هل لهذه الدول مصالح مشتركة في السودان أصلًا؟ وما هي؟ وهل تلك المصالح التي في البحر الأحمر، يهددها السودان أم تهددها الحرب في اليمن؟ وماذا فعلت أمريكا لحماية المصالح المشتركة في البحر الأحمر بسبب حرب اليمن؟ وماذا عن الموانئ والقواعد العسكرية الاماراتية المنتشرة في البحر الاحمر والتى تهدد بالفعل الأمن الإقليمي ؟. إن الحديث الفضفاض عن “مصالح مشتركة” يخفي خلفه رغبة إماراتية – بتواطؤ أمريكي – في بسط النفوذ على موانئ السودان وسواحله، وتأمين خطوط الذهب والموارد الطبيعية، حتى وإن تم ذلك عبر حروب الوكالة.
7
ولكن هب أن هناك مصالح مشتركة فعلًا، فبعد أكثر من عامين من الحرب المستمرة ، كيف اكتشفت أمريكا فجأة أن تلك المصالح المشتركة المزعومة تهددها حرب السودان؟ ولماذا الآن؟
بعد أن وعدت الإمارات باستثمار تريليون و300 مليون دولار في أمريكا وبعد أن تم دحر وهزيمة الجنجويد في خمس ولايات، والزحف مستمر لتحرير بقية الولايات؟ الآن فقط وفي هذه اللحظة أصبحت الحرب تهديدًا وجوديًا للمصالح المشتركة؟!
قل يا ايها المنافقون الكاذبون من يصدقكم؟!!
8
بصفاقة مدهشة، يتحدث البيان عن أن الحرب تسببت في “أزمة إنسانية كبرى”، وهذا يحدث في حين أن إدارة كريستوفر نفسها أصدرت قبل شهرين قرارًا بوقف المساعدات الأمريكية التي تقدمها (USAID) للسودان، مما زاد من تفاقم الأزمة الإنسانية التي يتحدثون عنها!
كيف تتحدث أمريكا عن أزمة إنسانية وتمنع الإغاثة عن السودان؟ بلاش استهبال.
9
يقفز البيان مباشرة إلى النتيجة:
“هذا النزاع غير قابل للحل العسكري”
منذ متى عرفتم أن هذا النزاع غير قابل للحل العسكري؟ قبل هزيمة الجنجويد؟ أم بعدها؟
حين كانت الميليشيا متمددة في طول البلاد وعرضها، لاذوا بالصمت، حتى تكمل الميليشيا مهمتها في ابتلاع البلد عسكريًا. أما الآن بعد أن دُحرت، فجأة “لا حل عسكريًا للصراع”! في وقت يُحرز فيه الحل العسكري تقدمًا حاسمًا على الأرض!!.
إذا كان الادعاء أنه “ليس هناك حل عسكري”، فما هو الحل إذًا؟
يقول البيان المهترئ:
“وقف الأعمال العدائية والتوصل إلى حل تفاوضي”.
بالله شوف! أليس هذا السيناريو قد تكرر سابقًا؟
ألم تدعُ أمريكا في الأسبوع الثالث للحرب إلى حل تفاوضي؟ وافق الجيش على ذلك وذهب وتم توقيع اتفاق جدة كأول حل تفاوضي.
فما الذي حدث؟ لم تُنفذ الميليشيا الاتفاق الذي شهد عليه العالم والرباعية.
لم تُحاسب أو تُعاقب الميليشيا، بل واصلت أمريكا في تدليلها وبريطانيا في حمايتها في مجلس الأمن فلماذا تدعو أمريكا الآن إلى حل تفاوضي جديد وكأن ما جرى على يديها لم يكن؟ وكيف نثق في “حل تفاوضي” ثانٍ بينما الأول لا يزال معلقًا؟
حل تفاوضي الآن بدون تنفيذ الأول يعني ببساطة إعادة الميليشيا إلى دائرة الفعل العسكري والسياسي مجانًا. وهذا هراء. وهيهات أن يحدث.
10
في ختام البيان هناك إشارة مهمة ولكنها مبهمة تقول:
“ناقش كريستوفر معهم – السفراء – الخطوات التالية لتحقيق هذا الهدف”.
ما هي تلك الخطوات التالية؟
ماذا يُخبئون لنا؟ وإلى أين يسيرون؟
لا بد أن هذه “الخطوات التالية” لا تزال قيد التشاور، أو لم يتم الاتفاق عليها بعد. ومن المرجح أن تشمل:
– استخدام دول أخرى كأدوات ضغط
– آليات من منظمات دولية ومجلس الأمن
– تصعيد سياسي بمزيد من العقوبات
– تصعيد عسكري محتمل، قد يشمل ضربات دقيقة تستهدف مواقع وشخصيات هامة.
كل ذلك قد يكون من أجل التمهيد لمؤتمر إقليمي أو حتى دولي، لعملية تفاوضية تشارك فيها الإمارات – ممولة الحرب ومرتزقة الجنجويد – ليجلسوا على طاولة واحدة مع الضحايا .!
هدفهم: التوصل إلى اتفاق مفروض يحقق ما لم تستطع الإمارات وميليشياتها تحقيقه بالحرب.
لكن هيهات! لماذا؟
لأن الذي يفاوضهم هذه المرة ليس الجيش، ولا الحكومة، بل الشعب.
ولن يستطيع أحد أن يتحدث باسمه أو يوقع نيابة عنه.
الشعب يعرف تمامًا ما يريد:
المليشيا وممولوها وأعوانها… خارج المشهد السياسي والعسكري.
غير ذلك؟ بل بس ، ولتَركب أمريكا وسدنتها وعملاءها أعلى بواخرها لتغزونا… فليس لدينا ما نخسره.
بلادنا وقد دمروها، لم يتبقَّ إلا كرامتنا
وهذه لن نفرط فيها ما دمنا نخوض معركتنا الأخيرة تحت راياتها.

عادل الباز

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • هل ينجز كامل إدريس شيئاً بكتابيه؟
  • الغاء المباراة الودية بين منتخبي تونس وجمهورية إفريقيا الوسطى التي كانت ستلعب بالدار البيضاء
  • التناقضات والمعايير المقلوبة في اعتذار مبارك الفاضل
  • مركز الملك سلمان للإغاثة يوزع 348 أضحية في محلية ود مدني الكبرى بولاية الجزيرة السودانية
  • عادل الباز يكتب: سياسة امريكا.. ثلاثية وقدها رباعي.!!
  • بسبب الحرب.. انهيار أدوات مواجهة الكوارث البيئة في السودان
  • والدة جندي إسرائيلي قتيل : جثة ابني تلاشت وكذلك القوة التي كانت معه
  • والدة جندي إسرائيلي قتل بكمين خان يونس: جثة ابني تلاشت وكذلك القوة التي كانت معه
  • عاجل. عمدة موسكو: إسقاط ٩ مسيرات أوكرانية كانت متجهة نحو العاصمة الروسية منذ منتصف الليل
  • "الكوليرا في زمن الحرب".. ألف حالة يوميا بالخرطوم وتحذيراتٌ من كارثة محقّقة