صحيفة التغيير السودانية:
2025-06-24@11:45:52 GMT

سياسات تكريس تقسيم البلاد

تاريخ النشر: 30th, December 2024 GMT

سياسات تكريس تقسيم البلاد

حيدر المكاشفي

كان أحد أقربائي عند بداية الحرب (بلبوسيا) على السكين، وعبثا كنت أحاول إقناعه بأن لا خير يرجى من الحرب بل هو الدمار والخراب والخير كل الخير في إيقافها، وظل قريبي هذا على (بلبسته) على مدى نحو ستة أشهر، كانت خلالها داره الفخيمة بضاحية شرق النيل قائمة لم يطالها أي أذى لم يمسسها سوء، ولم يخسر شيئا من أملاكه، ورغم أني كنت أنبهه بأن داره وأملاكه لن تسلم من الخراب، وسيطالها الدمار و(الشفشفة) يوما ما طالما استمرت هذه الحرب، ولكن رغم تحذيري له ظل على ضلال (بلبسته)، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي هجمت فيه المليشيا والشفشافة على داره، ولم تبق فيها (نفاخ النار)، وتم الناقصة طيران الجيش الذي أخطأ تمركزات المليشيا، ودمر جزءا كبيرا من الدار، وأحالها إلى رماد، ومن يومها (عرف صاحبنا أن الله حق وأن الحرب لعنة)، وتخلى صاحبنا عن البلبسة وأصبح من أكبر لاعني الحرب والمطالبين بإيقافها.

وتلك هي حكاية جحا التي تنطبق على كل البلابسة المغيبين المخمومين من قطيع (السواقة بالخلاء)، فعندما قيل لجحا حسب الرواية وهو بعيد عن بيته، لقد شبت النار في قريتك يا جحا، وعليك أن تعود لتساعد الناس على إطفائها.

قال جحا بيني وبين ناسها خلاف قديم، لا شأن لي بهم. المهم أن الحي الذي أسكنه في أمان. ثم جاء من يقول له النار وصلت إلى حيّك يا جحا، فأجاب لست معنيًّا به، حي بائس ومُتخلِّف، المهم بيتي. وفي الطريق أخبره أحدهم أن النار امتدت الآن إلى بيتك. لم يتردّد جحا كثيرا، فقال لمخاطبة بيتاً متهالك، ليس خسارة. المهم رأسي وما عداه لا يعنيني. لكن ما سكتت عنه الحكاية، هو أنه عندما جاء من يقول لجحا أن النار شبت في رأسك، كان كل شيء قد انتهى..

منذ الأيام الأولى للحرب، كان واضحا لكل ذي بصر وبصيرة فيما عدا مشعلي الحرب من الكيزان وفلولهم والمستفيدين من نظامهم وقيادات الجيش المختطف، أن تطاول أمد هذه الحرب سيؤدي إلى نتائج كارثية مهلكة على البلاد والعباد، وأن كل يوم يمر على الحرب يعني المزيد من الخراب والدمار والضحايا وتوسع رقعة الحرب وجغرافيتها، وهذا ما حدث بالفعل إلى أن وصلت الكارثة الآن إلى ما يهدد وحدة البلاد، وينذر بتقسيمها وتفتيت كيانها الحالي.. فبعد مرور أكثر من عشرين شهراً أضحى خطر تفكيك البلاد وتقسيمها ماثلاً، تجسده مجموعة من سياسات حكومة بورتسودان، وتغذيه جملة من الممارسات يأتي على رأسها خطاب الكراهية الجهوي والعنصري الذي أحدث زلزلة في النسيج الاجتماعي بما يهدد الوجدان الوطني والتماسك المجتمعي والسلام الاجتماعي بالتدابر والتباغض والتباعد والانقسام، وعززت هذا الخطر الماحق، وجعلته واقعا معاشا، ما اتخذته سلطة بورتسودان من سياسات مقصودة، تمثلت في قرار تغيير العملة الذي فرض على الولايات التي تقع تحت سيطرة الجيش التعامل بعملة مختلفة عن تلك التي يتم تداولها في مناطق سيطرة الدعم السريع. وكذلك كان قرار إجراء امتحانات الشهادة السودانية في الولايات التي يسيطر عليها الجيش وعدم قيامها في الولايات التي يسيطر عليها الدعم السريع، إضافة إلى عدم استطاعة قطاعات واسعة من الشعب السوداني استخراج الأوراق الثبوتية، بل وحرمان بعضها لأسباب سياسية وجهوية.

وقد أدت هذه السياسات الممنهجة والمتعمدة إلى تكريس الانقسام القائم أصلا؛ بسبب الحرب التي تقاسم فيها طرفيها السيطرة على أجزاء البلاد، فقد قسمت الحرب السودان إلى جزأين، جزء في غرب السودان في دارفور وكردفان والجزيرة وسنار وهي تحت سيطرة ونفوذ قوات الدعم السريع التي تسعى الآن بخيلها ورجلها للسيطرة على الفاشر، لتبسط نفوذها بالكامل على إقليم دارفور الذي يساوي مساحة دولة فرنسا، وتنفرد به ملكية خالصة لها، وجزء آخر في شرق السودان في كسلا والقضارف والبحر الأحمر، وشمال السودان في نهر النيل والشمالية تحت سيطرة ونفوذ الجيش، في تجسيد عملي على الأرض لما يسمى دولة النهر والبحر أو قل النسخة المحدثة والمطورة لما يعرف بمثلث حمدي.

وأصبحت المناطق تحت سيطرة الدعم السريع تتبع لها بالكامل عسكرياً وإدارياً، وشكلت فيها مجالس للحكم خاصة بها دون أي وجود للحكومة فيها، وقد مثلت هذه الخطوات البداية الفعلية لتقسيم البلاد، وللأسف تسعى بعض القوى السياسية والحركات المسلحة المحسوبة على تنسيقية القوى المدنية والديمقراطية (تقدم) بزيادة الطين بلة لتكريس واقع التقسيم، بعزمها على إنشاء حكومة موازية، ولا تتقاسم قوات الدعم السريع والجيش السوداني المناطق في السودان وحدهما، فهناك فصائل مسلحة تشاركهما السيطرة والنفوذ، فهناك الحركة الشعبية لتحرير السودان التي يقودها عبد العزيز الحلو، وتسيطر على مناطق واسعة في ولاية جنوب كردفان، بل إنها تمددت خلال فترة الحرب الحالية، وتمكنت من زيادة رقعة سيطرتها الجغرافية في ظل انشغال الجيش بالقتال مع قوات الدعم السريع، وأيضا تسيطر حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور على عدد من المناطق في إقليم دارفور.

ولو استمر هذا الحال مع استمرار الحرب ربما يؤدي إلى انقسام السودان ليس فقط لدولتين، بل عدة دويلات، وربما لمشيخات وسلطنات، فبلادنا تعاني أساسا من هشاشة بائنة في وحدتها الوطنية ولحمتها القومية، ولا أجدني مبالغا إذا قلت أننا من نسمي أنفسنا سودانيين، ونعيش على هذه الأرض المسماة السودان، ما زلنا أمة تحت التكوين ووطن تحت التأسيس ودولة لم تتأسس بعد على أسس الدولة الحديثة، وينتظرنا الكثير على هذا المسار الشاق، ولكن للأسف بدلا من أن تتجه العزائم لإنجاز هذا الهدف الكبير، إذا بالبرهان وكيزانه وفلولهم يزيدونها ضعفا وتمزقا بإعادتها إلى تقسيمات المستعمر، الذي قسم البلاد على نهج (فرق تسد) إلى ديار للقبائل، حتى تسهل له السيطرة على كل قبيلة على حدة، فكانت هناك دار داجو، دارتنجر، دار ميدوب، دار زغاوة، دار كبابيش، دار حمر، دار مسيريه، دار برتي، داربرقد، دار مساليت، إلخ إلخ..

ومثل هذا التقسيم الاستعماري الذي سارت على نهجه (الإنقاذ) المدحورة، وتقتفي أثره الآن شلة بورتسودان يهزم تماما مفهوم الدولة الوطنية الحديثة التي عرفها العالم، وترسخت خلال القرون الأخيرة، وهو مفهوم يقوم على فكرة أن الدولة كيان ضروري لحياة البشر، وأنها تبنى على أساس فكرة جوهرية هي أن الدولة لكل مواطنيها دون تمييز بينهم على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو المستوى الاجتماعي أو المذهب أو أي تباين في أي من الصفات الاجتماعية والسياسية والثقافية

وبلادنا وفقا لهذا المفهوم العصري الحديث، ملك لكل السودانيين، وكل جزء فيها متاح لإقامة وعمل، وتملك أي سوداني وسودانية دون تمييز؛ بسبب القبيلة أو العرق أو النوع أو الدين.. أن حاجة بلادنا الضرورية والملحة اليوم، هي لتكوين الأمة الواحدة وتأسيس الوطن الواحد وبناء الدولة الحديثة، وأن تتوحد كل الجهود، وينصرف الكل بالكلية لأداء هذا الواجب المقدس، الذي يحتاج إلى تضافر الجميع، وتناغمهم بلا أي نشاز، ودون أن يشذ أحد، وهل مثل هذه الغاية الكبرى ستكون موضع خلاف وتنازع، ومن هذا الذي سيجادل ويصارع في أمر بناء وطن متماسك وتأسيس دولة قوية ناهضة وفتية.. المؤكد أن لا أحد يغالط في هذا الواجب المقدس، ولا يتخلف عنه إلا متخلف والبرهان والكيزان، وشلتهم في بورتسودان الذين يعملون الآن عامدين على إعادة البلاد إلى عهود المشيخات والسلطنات..

الوسومحيدر المكاشفي

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الدعم السریع تحت سیطرة

إقرأ أيضاً:

الوَلَد !! لَمَسَ الأسد !!

أسمت حكومة إسراٸيل عدوانها علی جمهورية إيران الإسلامية باسم الأسد الصاعد ماتُرجم بالانجليزية-Operatin rising loin وبالعبربة (عَم كِلافی) أي شعبٌ كالأسد أو شعبٌ كلبوٶة.

وقد توقف غير قليل من المتابعين عند (إسم هذه الحرب) التی اشعلتها إسراٸيل فی 13 يونيو 2025م فأدخلت نفسها والعالم فی ورطة حقيقية مفتوحة علی كل الإحتمالات.

(الأسد) كان هو شعار عرش (محمد رضا بهلوي) إمبراطور إيران الذي أسقطته ثورة إيران الإسلامية بقيادة آية الله روح الله الإمام الخميني، في الحادي عشر من فبراير 1979م، وأُعلنت إيران جمهورية إسلامية، وهدمت أركان عرش امبراطورية آل بهلوی، وأُزيل بذلك شعار (الأسد)، لذا فالدلالة من اسم العملية الإسرائيلية واضحةً، وضوح الشمس في رابعة النهار، وهي تغيير نظام الجمهورية الإسلامية في إيران تحت إدعاء تدمير قدرات إيران النووية !! ويتضح ذلك من الضربة العسكرية الإسراٸيلية، التي أسماها نتنياهو بالضربة الإفتتاحية الناجحة.

فقد نجحت إسرائيل فی اغتيال قادة بارزين فی الجيش والحرس الثوري الإيرانيين وعلماء فی مجال الطاقة الذرية، بجانب إحداث خساٸر واضحة فی مواقع عسكرية ومدنية كثيرة، ظنت إسراٸيل إن عمليتها ستكون كافية لتحريك الشعب الإيراني ليثور ضد حكومته ومن هنا يبدأ (الأسد) فی الصعود وتعود أسرة بهلوي للحكم ومن ثم فلا حاجة لضرب المنشآت النووية الإيرانية، لأن زوال الجمهورية الإسلامية يعني تلقاٸياً زوال التهديد النووي الإيرانی!!

لكن ما حدث كان هو العكس تماماً،فقد استوعبت إيران الدولة،الصدمة، وملأت الفراغات التی أحدثتها الإغتيالات، بين قادة الجيش والحرس الثوري الإيراني، وبدأت فی الرد داخل العمق الإسراٸيلي، بالطاٸرات المسيَّرة وطيف واسع من الصواريخ البالستية والصواريخ الفرط صوتية واستهدفت مقار أمنية وعسكرية وبحثية وتقنية،إسراٸيلية، مما يدل علی تماسك الجمهورية الإسلامية الإيرانية وقدرتها علی التصدي للعدوان الصهيوني ولايزال العرض مستمراً .

ولابد إن إسراٸيل قد علمت الآن بأنها أقصر قامةً من إيران بالرغم من تفوقها الجوي في سماء إيران، وقد جأرت بالشكوی وأعلنت عن حاجتها لإنخراط ماما أمريكا في الحرب بشكل صريح، إذ لا يكفي الإمداد الذي تقدمه أمريكا بالأسلحة المتطورة والذخاٸر الذكية ووساٸل الحرب السيبرانية، بجانب المشاركة في الدفاع الجوي باسقاط المسيرات الإيرانية الذی تقوم به حاملات الطاٸرات الأمريكية، وطاٸرات رافال الفرنسية انطلاقاً من الإمارات، وطاٸرات تايفون البريطانية انطلاقاً من قبرص، وإن افلتت الصواريخ والمسيرات الإيرانية من كل هذا فإن في انتظارها شبكة معقدة من الصواريخ الإعتراضية الإسراٸيلية الأمريكية، مثل حيتس 3 وحيتس 2 ومقلاع داٶود ومنظومة ثاد والقبة الحديدية وغيرها، ومع كل ذلك تصل صواريخ ايران الی قلب إسراٸيل بل كل الأراضي التي تحتلها اسراٸيل، وتوجع وتشعل النيران، وتُبقی الصهاينة في الملاجٸ،وتزيد الجبهة الداخلية الصهيونية هشاشةً، وأمريكا تقدم قدماً وتٶخر أخریٰ ، وعينها علی ماسيجره تدخلها الصريح من ويلات لها أول وليس لها آخر، أقلها إغلاق مضيق هرمز الذی يمر به رُبع التجارة العالمية مثل النفط وغيره. وتغيرت اللغة من تدمير البرنامج النووي الإيراني، إلیٰ اغتيال المرشد علي خامنئي، كهدف من هذه الحرب.

الامبراطور الأثيوبی هيلاسلاسي عندما كان يجلس علی عرش يهوذا وشعاره (الأسد) !! كان شديد الحفاوة بالأُسود، يرعاها بنفسه في قصره الامبراطوری، وقد نُقِل عنه قوله:-
(من السهل أن تُطلِق الأسد من القفص، ولكن من الصعب جداً أن تُعيده إليه). ويبدو إن نتنياهو لم يفهم الدرس لأنه غبی بإمتياز.

اللهم نصرك الذی وعدت

محجوب فضل بدري

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • السودان: دولتان عربية وإفريقية تعترفان برعاية مليشيا “الدعم السريع”
  • كامل إدريس يودع رسائل عاجلة في بريد “الأمم المتحدة”
  • حميدتي: سيطرة «الدعم السريع» على المثلث الحدودي تهدف لتأمين السودان ومحاربة التهريب
  • مسؤولة أممية: خطر الإبادة الجماعية في السودان لا يزال مرتفعاً وسط هجمات عرقية تقودها للدعم السريع
  • نحو 2500 طالب وطالبة يجسلون لامتحانات الشهادة الثانوية السودانية بمدينة جدة
  • السودان: توقعات بطقس حار إلى حار جداً في معظم أنحاء البلاد اليوم
  • الوَلَد !! لَمَسَ الأسد !!
  • دمج وزارة الري في وزارات أخرى: قرار غير موفق!!
  • تركوا جثثهم وهربوا.. درموت يسرد تفاصيل معركة الجيش السوداني ضد الدعم السريع
  • إعتقال صحفي سوداني في معبر أرقين بتهمة التعاون مع الدعم السريع