تضحيات الآباء وعقوق الأبناء في السرد العراقي
تاريخ النشر: 2nd, January 2025 GMT
آخر تحديث: 2 يناير 2025 - 10:23 صباقر صاحب منذ مطلع الرواية يستعيد بطلها جلال الحميد التفاصيل المؤلمة لجحود الأبناء ونكرانهم لتضحيات آبائهم، وهم يرمونهم في دور العجزة، وهي التي كان هناك ما يشبهها في التراث الياباني، حيث تسمى “الأوباسوت” أي وديان الموت الموجودة في اليابان القديمة، حيث يترك الأبناء آباءهم يموتون وحيدين في الجبال والوديان البعيدة عن القرى والبلدات.
. فالأوامر العليا تقضي بضرورة عدم إطعام الأفواه الزائدة، فيقضي كبار السن بعض الوقت في “محمية الموت” معزولين، فيما تحوم العقبان والغربان حولهم بانتظار نفوقهم.. وهو ما يشبه “دور العجزة” في عالمنا المعاصر. الروائي العراقي جمال حسين علي من خلال وضعه هذا العنوان الفرعي” رحلة الأوباسوت الأخيرة” على غلاف الرواية، إنما يؤكد أن جحود الأبناء لآبائهم وتضحياتهم هو مفتاحٌ رئيسٌ في قراءة الرواية. من يجحده الأبناء، هما جلال الحميد، الشخصية المحورية، وزوجته “دنيا”. الحميد “رجلٌ ذو ماضٍ عريقٍ وحافلٍ بالعطاء والإنجازات، لم يسبقه إليه إلاّ أشخاصٌ يُعدّون على أصابع اليد الواحدة”، شخصيةٌ بهذه المواصفات، آل مصيرها المرير إلى العيش بمفردها وسط مقبرةٍ بشريةٍ، في مكانٍ يطلقون عليه” دار العجزة”. قسّم حسين علي الرواية إلى ما أسماه “عنابر”، والعنبر “حجرةٌ واسعةٌ في معسكرٍ أو مستشفى أو نزل، تحتوي الحجرة على أسرّة للنزلاء فيها من جنودٍ أو مرضى أو مسنين”. إذاً المكان الرئيس هنا، النزل الخاص بالعجزة. وهذا يعني أنّ كلَّ ما يدور في الرواية هو عبارةٌ عن تداعيات وإسقاطات الشخصية المحورية جلال الحميد، وهو ملقىً في هذا النزل لمدة خمس سنوات، وهو الشخصية المعمارية الفذّة، هو و زوجته الأستاذة الجامعية والمترجمة والروائية، هنا يحاسب الحميد الجميع وليس فقط أبناءه. مونولوج الراوي المتكلم يتناوب الراوي، عبر العنابر وعددها (7) بمقاطعها الفرعية، الراوي العليم، والراوي المتكلم جلال الحميد، ورويّ الأخير عبارةٌ عن مونولوجٍ مستمر، يلتهم معظم صفحات الرواية، لجهة أنّ الحميد يهجس شعوراً عظيماً بالوحدة، فيحاور ذاته في كلِّ شؤون الحياة، مثلما حياته الخاصة. في مونولوجه المليء بالأسى، يتحدّث عن الخيبة الكبيرة من أبنائهم، حيث تركوا أمهم تستنشق الغاز والمرارة والحرمان والهلع والخوف في أيامها الأخيرة، وهو رموه مع الجيف والجثث المجهولة الهوية خلف السدّة، وهو الذي بنى لعاصمتهم أجمل المباني وأروع الحدائق وأهمّ الجسور. كما أنّ الراوي العليم، يُسهم في سرده الشفاف، برسم الصورة الشاملة عن هذا الرجل، الذي يهجس أنّ فكرة الأسرة الموحّدة دمّرت بيته، كان يريد العيش دائماً مُحاطاً بإطارٍ عائلي، يجمع أولاده وهم رهان المستقبل مع حاضر الزوجة الميتة وماضي الأم الراحلة منذ زمنٍ طويل. يريد العيش بهذا التضافر الزماني مع وحدة المكان بجميع عناصر أسرته في منزل العائلة القديم. لم يفلح في ذلك، وفقاً للتحولات الاجتماعية المعاصرة، فقد هرب الأبناء إلى المستقبل، فأقرّ باستحالة ديمومة الأشياء.. والقذائف المريرة لوجه الحياة البشع بدأت تقترب أكثر فأكثر بحسب تعبير الحميد، حيث يقفز، في مقارنةٍ مؤلمة، إلى حاله في النزل، فيصف يوميّاته فيه، نهاراً وليلاً، يشعر بالأسى على عدم استطاعته إعادة حياته كما كانت جميلةً وثريّة. تمثيل المرأة العراقية في الرواية من الممكن أن تكون دنيا خطاً روائياً، إذ أولاها الروائي اهتماماً واضحاً، فهي تمثّل المرأة العراقية، خير تمثيل. دنيا، ذات الإرادة الصلبة حاملة المبادئ غير القابلة للثني والتغيير. كان الحميد يلوم دنيا على عنادها، وخشيته على مصير الأسرة بكاملها بفعل مبدئيتها الصارمة، ويستعيد بهذا الشأن ما كتبته دنيا، بأنها لن تجد عذراً لأفعال الخونة والمستهلكين، وفي الوقت ذاته، تريد أن تكون دائرتها المُقرّبة مليئةً بالمخلصين والصادقين. قوة مبدئيّتها تكمن حين تصرّح بأنّها لن تتنازل عن المبادئ حتى لو اقتضى ذلك التضحية بالحميد نفسه. وهو الذي يتحدث بحرقةٍ كبيرةٍ عن غيابها، ويرسم صورة أخاذةً عن يومياته معها. استبعد الحميد فرضية انتحارها، لكنّها حُوربت بشراسةٍ كبيرة، لا يستطيع أي بشر مهما كانت قوّته أن يصمد إزاءها، فقد طُردت من الجامعة وحُرمت من الراتب التقاعدي وسُحبت كتبها من المكتبات العامة وغيرها من المضايقات الشديدة. كان يشدّه أملٌ كبيرٌ بأنّه سيلقاها ذات يوم، وحين سقط النظام وفُتحت السجون والمعتقلات، هام في شوارع العاصمة وقرب المعتقلات لعلّه يعثر عليها. لكنّها تنبّأت بمصيرها، فبعد اتّهامها بالجنون، سيرتّبون انتحارها المُفتعل، وإن لم ينجحوا فسيكون الخطف والقتل وإخفاء جثّتها نهائيّاً. رسائل الوهم الكبير من ضمن الوسائل التي استخدمها الحميد لكي يعالج عقوق أبنائه، كتابة رسائل مُتخيّلةٍ على أنّها منهم، ويرسلها إلى عنوانه هو، العنوان الذي أعطاه إياه طبيب النزل، ويكتب على الظرف اسم أحدٍ من أولاده. غير رسائل الوهم والجنون، عمد الحميد إلى صنع هاتفٍ خشبي، ووضعهُ في مدخل النزل، فكان يرفع السماعة ويتحدث مع دنيا ويبثّها شكواه مما صار عليه مصيره الحزين. غير ذلك كان الحميد يلازم النافذة، بانتظار من لا يأتي، فقد أوصلته معاناته من ترك الجميع له، بدءاً من العائلة إلى الشعور بالاغتراب عن كلّ الناس. حياةٌ عريضةٌ حافلةٌ بالعطاء بين عنابر النزل، وقد قسّم كلّ عنبر، في الرواية، إلى مجموعة مقاطع معنونة، استطاع حسين علي، أن يبعد السأم عن القارئ بهذا الاختزال إلى مقاطع قصيرة، تشدّ القارئ إلى معرفة كلّ شيءٍ عن الحياة العريضة للحميد ودنيا، بدءاً من سرد الراوي المتكلم لكلّ شيءٍ عن ذكرياتهما في موسكو، الدراسة وقصة الحب الجميلة بينهما، وزواجهما هناك، ومن ثمّ عودتهم إلى العراق، في سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت” الجبهة ليست هادئة، بالسماح بعودة اليساريين وفق قانون”عودة الكفاءات”، حيث وضع الحميد عقليّته المعمارية تحت تصرّف العاصمة التي أحبّها، وكذلك عُيّنت دنيا في قسمها القديم في كلية الآداب لتدرّس اللغة والآداب الروسية، حيث التزما السكن في منزل العائلة القديم، حيث يلتمّ الشمل العائلي كلّ يوم جمعة. هنا سردٌ للمضايقات التي تعرّض إليها هذان العملاقان، نتيجةً لعدم انضمامهما إلى صفوف الحزب الحاكم آنذاك. وكيف أنّ الحميد الكبير السن أُجبر على التطوع العسكري في أثناء حرب الخليج الأولى، وكان تصرّفه مع تلك المضايقات حكيماً، من باب الحفاظ على مرتّبه، بعد أن سُحبت جميع المشاريع منه، لكي يؤمّن مصاريف البيت، ومتطلّبات أولاده الذين بلغوا المراحل الجامعية. هذه العائلة الفذّة كانت تدفع ثمن سكوتها وليس كلامها، كانت القاعدة الجهنّمية للنظام آنذاك: من ليس معنا فهو ضدّنا. المصير المجهول كان طبيب النزل يؤكّد للحميد بأنّه ليس في بيته، بل في نزلٍ سيُغلقُ قريباً بعد أن رفعت الحكومة الدعم عنه. على لسان الطبيب، يرد تحليلٌ حقيقي، عن حالة الحميد الإنسان المؤمن بالماضي، وذكرياته هشَّمت توازنه. فهو رجلٌ أحبّ امرأته ورفض تصديق رحيلها، مثلما رفض تصديق عقوق أبنائه، الخلل في أنّه كان يراهم بالصورة التي يتمنّاها هو، وليس بصورتهم الحقيقية. هنا خللٌ بين الأحلام والواقع، هو الذي أوصله إلى هذه الحال. كانت حوارية الحميد مع الطبيب في غاية الحزن، لأنّ الطبيب يسرد عبر إجاباته عن أسئلة الحميد، وقائع مصيره الحزين، فبيت العائلة باعه الأولاد وتقاسموا حصّته وهاجروا، ومن خلال انثيالات الطبيب، نفهم أنّ هذه النهايات المؤلمة حدثت في أيام وباء كورونا أواخر عام 2019 وما بعدها، وهنا يدخل في خطاب عتبٍ مع أبنائه، ضمن مونولوجه المستمر، وهو يلمّ حاجياته في النزل، لكي يغادره إلى حيث لا يعرف. روايةٌ أخرى تذكّر الحميد أنّ أولاده كلّهم في الخارج، وأنّه في أثناء انتفاضة تشرين 2019، كان يعرض كتبه في ساحة التحرير معتبراً ذلك ” نوعاً من التظاهر والرفض للأوضاع ومساندةٍ للناس الذين خرجوا مطالبين بحياة كريمةٍ ووطنٍ محترم”. وفي أثناء إلقاء الغازيات كاد يختنق، فحمله شباب، ظناً منه بأنّهم طلاّبه يسعفونه، والحقيقة أنّهم اختطفوه ووضعوه في صندوق سيارة، متعرّضاً إلى الإهانة والضربٍ، ومن ثمَّ رموه خلف السدة. بعد العيش خمس سنوات في النزل، قرّر الحميد، بأن يموت واقفاً في قبرٍ صمّمه وبناه في نفسه، ومعه مخطوطته، التي يمكن أن تكون هذه الرواية، والتي لغاية نهايتها، ليس هناك يقين؛ ما هو مصير الحميد، إذ يسرد الراوي، في الصفحات الأخيرة من الرواية بأنّه ” لا تزال القصة الغامضة لجلال الحميد غامضة”. وأخيراً، هذه روايةٌ تمثّل خير تمثيل حبكة تضحيات الآباء، عقوق الأبناء، في السرد العراقي، فنتألم ونحن نقرأ كيف الأبناء يلقون آباءهم في مهالك شديدة القسوة. هنا سردٌ مؤثرٌ إلى حدّ إيلامنا وإرعابنا عن مآلات المجتمع ، فحين يكون أبناؤه على هذا النحو، فهو سيسير نحو التفكّك المجتمعي.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: جلال الحمید
إقرأ أيضاً:
الشخصية المصرية بين الرواية والدراما المرئية في الأعلى للثقافة
في لحظة تتعانق فيها الكلمة بالصورة، والعقل بالإبداع، ينطلق مؤتمر "الرواية والدراما المرئية" في دورته الثانية، تحت عنوان مقومات الشخصية المصرية بين الرواية والدراما المرئية، دورة السيناريست أسامة أنور عكاشة، ويأتي هذا المؤتمر ليعيد طرح السؤال الأزلي حول العلاقة الجدلية بين السرد والمرئي، بين الحكاية المكتوبة وتجسيدها على الشاشة.
المؤتمر ينظمه نادي القصة برئاسة الكاتب السيناريست محمد السيد عيد، وجمعية أصدقاء مكتبة الإسكندرية برئاسة الأستاذ عصام عزت، ويُقام المؤتمر بالمجلس الأعلى للثقافة يومي الأحد والإثنين 9 و10 نوفمبر، عند الخامسة مساءً، برئاسة المخرج الكبير عمر عبد العزيز، وأمانة الدكتورة زينب فرغلي.
في الجلسة الافتتاحية التي يشارك فيها الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة الدكتور أشرف العزازي، يتجلى الحس الثقافي في أبهى صوره، إذ تمتزج أصالة الإبداع بروح التكريم، كما يحضر الأستاذ حمدان القاضي منسق عام المؤتمر، ليؤكد على عمق التعاون بين المؤسسات الثقافية التي ترى في الفن مرآة للوعي الجمعي وذاكرة الأمة.
ويشهد الافتتاح تكريم رموز شكلوا ملامح الدراما المصرية والعربية، حيث يُكرم السيناريست الكبير محمد جلال عبد القوي، والفنانة القديرة سهير المرشدي، والفنان المتألق رياض الخولي، والمخرجة والكاتبة الكبيرة هالة خليل، اعترافًا بإسهاماتهم في إثراء المشهد الدرامي العربي، كما يُوزع خلال الحفل جوائز مسابقة السيناريو، وتُكرم لجنة التحكيم برئاسة الكاتب الكبير سمير الجمل، في احتفاءٍ يليق بمسيرة من أخلصوا للفن كتابةً وصورة ووجدانًا.
أما الجلسة البحثية الأولى، فتتخذ طابعًا فكريًا عميقًا، إذ يتحدث فيها الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة، والدكتور حسن حماد، أستاذ فلسفة الجمال وعميد آداب الزقازيق الأسبق، إلى جانب السيناريست اللامع عبد الرحيم كمال، في حوار يربط بين فلسفة الجمال وتحولات السرد البصري في الدراما.
وفي الجلسة البحثية الثانية، يلتقي الفكر بالنقد التطبيقي، حيث يتحدث السيناريست سمير الجمل، والدكتورة رشا صالح، والدكتور عادل ضرغام، والدكتور حسام جايل، في جلسة يديرها الكاتب عبده الزراع، لتتجلى الرؤى المتعددة حول آليات تحويل النص الروائي إلى رؤية درامية قادرة على حمل المعنى الإنساني والجمالي.
أما اليوم الثاني، الإثنين 10 نوفمبر، فيشهد الجلسة الثالثة التي يشارك فيها الدكتور حسين حمودة، والدكتورة سحر شريف، والدكتور محمد عبد الله حسين، والدكتور طارق مختار، بإدارة الأستاذ حسن الجوخ، حيث تُناقش ديناميات التلقي وتحولات السرد في الدراما المرئية المعاصرة.
ثم تأتي الجلسة الرابعة التي تضم الدكتور خيري دومة، والدكتورة عزة بدر، والدكتورة هويدا صالح، والدكتورة ندى يسري، ويديرها الدكتور منير فوزي، لتتناول جدلية العلاقة بين النص الأدبي والدرامي في ضوء المتغيرات الثقافية الراهنة.
ويُختتم المؤتمر بجلسة ختامية تُتلى فيها التوصيات على لسان الدكتورة زينب فرغلي، وتتخللها التكريمات التي تقدمها القاصة منى ماهر، في لحظة احتفائية تُكرس للإبداع كقيمة وجودي عليا، وللثقافة كجسر بين العقل والحلم.
هذا المؤتمر لا يكتفي بأن يكون فعالية ثقافية تقليدية، بل يُعيد التأكيد على أن الرواية والدراما وجهان للوعي الإنساني نفسه، فالرواية تصوغ الوجدان بالحروف، والدراما تجسده بالضوء والصوت، وبين الكلمة والمشهد، تنبثق أسئلة الفن الكبرى: كيف تُصاغ الحقيقة في الخيال؟ وكيف تتحول الحكاية إلى وعي جمعي يرى ذاته في المرآة المرئية؟.
إنه مؤتمر يجمع الفلسفة بالسرد، والعلم بالخيال، والفكر بالفعل، في تلاق يؤكد أن الإبداع هو الشكل الأسمى من أشكال الوعي، وأن مصر كعادتها ما زالت تُنجب منابر الفكر والجمال وتفتح أبوابها للحوار والتنوير.