تشيني: عرّاب الاغتيالات والتعذيب وتخريب الأوطان
تاريخ النشر: 8th, November 2025 GMT
كان ريتشارد تشيني، الذي توفي الإثنين، هو الحاكم الفعلي للولايات المتحدة معظمَ رئاسة جورج بوش الابن. فلم يكن بوش يقوى على تتبع الإجراءات والخوض في التفاصيل والتعقيدات، وإنما كان مهتما برؤية النتائج وكفى. ولهذا فوض أغلب الصلاحيات الإجرائية لصديق العائلة ذي الخبرة الإدارية والسياسية الموثوقة. فكان تشيني هو الذي تَولَّى كِبْرَ كوارث ذلك العهد المظلم من الضلال الإيديولوجي والتهور العسكري، بل والجنوح الإجرامي الذي وثقه صحافيون أمريكيون ذوو مصداقية عالية مثل سيمور هيرش وبوب وودورد.
وقد بين الصحافي الأمريكي رون سوسكيند في كتابه «عقيدة الواحد بالمائة» أن تشيني وضع، بعد أيام من هجمات 11 سبتمبر 2001، مبدأ إرشاديا مفاده أنه إذا كان ثمة احتمال، ولو بنسبة واحد بالمائة فقط، بأن يحصل الإرهابيون على سلاح دمار شامل، فإن على الولايات المتحدة أن تسارع إلى التحرك على أساس أن هذا الاحتمال هو يقين ثابت. والمعنى أنه لا ضرورة لتوفر الدليل، بل إن مجرد الشبهة ذريعة تفي بالغرض.
والأخذ بالشبهة إنما يفتح المجال واسعا للانتهاكات والغدر والإجرام. فقد تمكن ضابط الاستخبارات العسكرية الأمريكي السابق وين مادسن من التحقق من صحة المعلومات التي كشفها سيمور هيرش عن وجود وحدة سرية من وحدات سي. اي. ايه، معروفة باسم «جناح الاغتيالات»، كانت تتحرك من عام 2001 إلى عام 2008 تحت إمرة تشيني شخصيا. وأعرب مادسن عن يقينه بأن تشيني هو الذي أصدر الأمر باغتيال زعماء أجانب كان بينهم السوداني جون قرنق، واللبناني رفيق الحريري!
وكتب مادسن عام 2004 و2005 أن وحدة سي. اي. ايه. المرتبطة بالبيت الأبيض هذه هي المسؤولة عن تنسيق عملية اغتيال مسؤول جهاز الأمن في ميليشيا «القوات اللبنانية» إيلي حبيقة في يناير 2002 وعملية اغتيال رفيق الحريري في فبراير 2005، وأن الأمر تم عبر تنسيق وثيق مع وحدة إسرائيلية مماثلة كان يديرها مكتب رئيس الوزراء أرييل شارون.
ومن المعروف أن إسرائيل كانت المستفيد الأول من اغتيال حبيقة، نظرا إلى أنه كان يستعد، قبيل اغتياله، للتوجه إلى بلجيكا للإدلاء بإفادة بشأن دور شارون في مذابح صبرا وشاتيلا، وذلك في إطار القضية التي رفعت هناك ضد شارون بموجب قانون بلجيكي كان يتيح (قبل إلغائه) مقاضاة المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. أما اغتيال الحريري فإن مادسن يقول إن الغاية منه كانت توفير المناخ الملائم لزعزعة استقرار لبنان، والانقضاض على سوريا، وإقامة قاعدة عسكرية أمريكية في شمال لبنان والتخلص من حركات المقاومة التي كانت تؤرق شارون، وعلى رأسها «حزب الله».
وكان الصحافي الشهير بوب وودورد هو أول من كشف في «واشنطن بوست» في يناير 2002 وجود خطط أمريكية لاغتيال زعماء في مختلف أنحاء العالم، ثم تمكن مادسن بعد ذلك من تحديد أسماء أول الضحايا الذين اغتيلوا بين نوفمبر 2001 ويناير 2002. واللافت أن مادسن كشف منذ 11 مارس 2005 (أي بعد أقل من شهر من اغتيال الحريري) أن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني نفذ بـ«تفويض أمريكي»، مما حمل وزارة الخارجية الأمريكية على أن تنفي بشدة يوم 13 مايو 2005 «المزاعم الكاذبة» عن تورط أمريكي في اغتيال الحريري. فردّ مادسن من غد بأنه واثق كل الثقة من صحة معلوماته التي استقاها من مصادره الأمريكية والفرنسية والبلجيكية واللبنانية.
ولأن «مآثر» تشيني لا تنحصر في «الحرب على الإرهاب» واغتيال الساسة الأجانب، فإن أوباما قال عام 2009، في سياق الطرائف التي جرت العادة أن يوشّي بها الرئيس خطابه في حفل العشاء السنوي الذي تقيمه على شرفه جمعية مراسلي البيت الأبيض، إن تشيني لم يتمكن من حضور الحفل لأنه منكب على تأليف كتاب من المحتمل أن يكون عنوانه «كيفية إطلاق الرصاص على الأصدقاء واستجواب المعتقلين». وقد فهم الجميع أن الإشارة الأولى هي إلى رحلة الصيد التي أصاب فيها تشيني صديقه أوائل عام 2006، مما استدعى نقله إلى المستشفى. أما الثانية فتتعلق بما اشتهر عن تشيني من تحمس لممارسات التعذيب التي شوهت سمعة أمريكا والتي كانت تسمى باسم بيروقراطي ملطّف هو «الاستجواب المعزَّز».
تزعّم تشيني تخريب العراق مرتين: الأولى عام 1991 لما كان وزيرا للدفاع في إدارة بوش الأب، والثانية عام 2003 لما كانت شبهة (أي كذبة) أسلحة الدمار كافية للغزو والاحتلال تحقيقا لمآرب صهيونية رُسمت خطتها «الديمقراطية» منذ عام 1996.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه بوش الولايات المتحدة العراق العراق الولايات المتحدة بوش ديك تشيني مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
كواليس سقوط صدام حسين وفضيحة أبوغريب.. تحليل بعد وفاته: ديك تشيني ممّن صمم حرب الإرهاب لكنه فتح صندوق باندورا الذي لم يُغلق بعد
تحليل بقلم الزميل بين ويدمان بـCNN
(CNN)-- كان وزيرًا للدفاع في عهد الرئيس، جورج بوش الأب، خلال عملية عاصفة الصحراء، وكان نائبًا للرئيس في عهد بوش الابن خلال غزوي أفغانستان والعراق اللذين قادتهما الولايات المتحدة، ويُعتبر ديك تشيني، الذي توفي، الثلاثاء، عن عمر يناهز 84 عامًا، أحد أقوى نواب الرئيس الأمريكيين وأكثرهم نفوذًا في التاريخ.
قيل مرارًا وتكرارًا يوم وفاته إن تشيني كان الرئيس التنفيذي للعمليات في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، وبصفته الرئيس التنفيذي للعمليات، كان من أشد المؤيدين وأكثرهم صراحةً لتغيير النظام في العراق - ولعله إرثه الأطول والأكثر ظلمة.
وببساطة، قال في المؤتمر السنوي لقدامى المحاربين في الحروب الخارجية في أغسطس/آب 2002: "لا شك أن صدام حسين يمتلك الآن أسلحة دمار شامل. لا شك أنه يُكدسها لاستخدامها ضد أصدقائنا، وضد حلفائنا، وضدنا".
ببساطة، لم يكن الرئيس العراقي يمتلك أي أسلحة دمار شامل. لم يكن يُكدسها لاستخدامها ضد أحد. ومع ذلك، كانت تلك "أسلحة الدمار الشامل" المزعومة ذريعة لحرب، وما تلاها من احتلال مُكلف، وأخرق، وظالم، فتح بابًا مليئًا بالشر من سفك الدماء والتشريد والإرهاب والاستبداد. ولا يزال الباب مفتوحًا.
وكانت الحملة العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة، والتي ساعد تشيني في التخطيط لها، رائعة من منظور أمريكي. سريعة وحاسمة، لم تستغرق القوات الأمريكية وقوات التحالف سوى 20 يومًا لغزو العراق والوصول إلى بغداد.
كان الاحتلال، الذي يتحمل تشيني أيضًا بعض مسؤوليته، كارثة.
وبعد أسابيع من سقوط صدام حسين في إبريل/نيسان 2003، بدأت الاضطرابات في مدن مثل الفلوجة والرمادي، وبعد بضعة أشهر كانت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة تكافح، وفي العديد من المناطق فشلت في الحفاظ على النظام.
وكانت إخفاقات ذلك الاحتلال كثيرة، تتعلق بالأمن والحوكمة والاقتصاد وتوفير الخدمات البلدية الأساسية.
ببساطة، وقع الأمريكيون طواعيةً في وضعٍ كانوا فيه غافلين إلى حدٍ كبير (أو، كما يجادل النقاد، غير مبالين طواعيةً) عن تعقيدات مجتمعٍ عريق.
وقال لي أبو كاظم، صاحب متجرٍ في بغداد، بعد عامٍ من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة: "كان صدام يعرف خصومه، وقتلهم. لكن الأمريكيين، حتى لو لم يكونوا جادين، لا يعرفون من هذا ومن ذلك. لقد وضعونا جميعًا في خطر".
في ذلك الوقت أيضًا، برزت فضيحة تعذيب في سجن أبو غريب ببغداد. صدمت صور المعتقلين العراقيين وهم يُجرّدون من ملابسهم ويُساء معاملتهم، التي نشرتها وسائل الإعلام، العالم.
قال لي حيدر صبار علي: "كانوا يشتموننا. 'اصمت! تباً لكم! تباً لكم!".
وكان حيدر السجين رقم 13077 في سجن أبو غريب، أحد أولئك الذين صورهم حراس السجن في الجيش الأمريكي في أوضاع عذاب مختلفة.
قال لي حيدر في أبريل/ نيسان 2004: "إذا تكلمت، كانوا يضربونك بشدة في أماكن حساسة، في الكلى والصدر والحلق. كانت أجسادنا مليئة بالكدمات".
وكان حيدر شرطيًا مروريًا في عهد صدام حسين، ولم تُوجَّه إليه أي تهمة قط، وأُطلق سراحه في أوائل عام 2004.
أدان نائب الرئيس آنذاك، تشيني، المسؤولين عن فضيحة التعذيب، ودافع في الوقت نفسه عن أسلوب الإيهام بالغرق كوسيلة فعّالة لاستخلاص معلومات استخباراتية حيوية (يقول العديد من خبراء الاستخبارات إن الإيهام بالغرق تعذيب، وأن ضحاياه مستعدون لأي شيء لتجنب المزيد من الانتهاكات).
اليوم، استقر العراق. لم تعد بغداد ساحة حرب. لا يزال الفساد يُعيق البلاد، وقبل بضع سنوات فقط، تمكّنت (بمساعدة الولايات المتحدة والتحالف) بعد سنوات من الحرب من هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، والذي كان بدوره نتيجة مباشرة للغزو والاحتلال الأمريكي. إيران، عدو بغداد اللدود في عهد صدام حسين، تتمتع الآن بنفوذ كبير في العراق، نتيجة مباشرة أخرى للغزو الأمريكي.
إلى جانب الورطة الأخلاقية والتكلفة البشرية للمغامرات العسكرية الأمريكية الخارجية، هناك الضرر الاقتصادي الدائم للحروب التي كان تشيني من أشدّ مناصريها. ووفقًا لمشروع تكاليف الحرب بجامعة براون، كلّف الصراعات بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 الولايات المتحدة 8 تريليونات دولار.
ويمكن ربط أخطاء ما بعد 11 سبتمبر/أيلول التي لعب تشيني دورًا فيها بصعود داعش، وعدم الاستقرار الدائم في الشرق الأوسط، وأزمة المهاجرين، وعبء الديون الهائل (38 تريليون دولار وما زال العدد في ازدياد) الذي يخيم على الاقتصاد الأمريكي.
وسيكون من الظلم إلقاء اللوم على تشيني وحده في محنة العراق، ومحنة الشرق الأوسط الأوسع نطاقًا. ففي النهاية، هو مجرد واحد من سلسلة طويلة من القادة الأمريكيين الذين تلاعبوا بالمنطقة بنتائج وخيمة، وتركوا الولايات المتحدة في وضع يزداد خطورة.