تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

 

الأدب هو الجسر الذي نعبر به من حاضرنا المثقل بالقيود إلى عوالم الحلم والانعتاق، هكذا تبدو رواية "فتاة وبحيرتان" للكاتبة أماني القصاص، نصا بديعا يجسد هذا الجسر بكل تفاصيله. تُلقي الرواية الضوء على أشواق الإنسان وأحلامه وتطلعاته، وتغوص في أعماقه  لتكشف عن تناقضاته وصراعاته والبحث في الماضي لينجو من الحاضر، وعن الحرية للتخلص من القيود.

من خلال الرواية، تصحبنا الكاتبة في رحلة نتعرف فيها على ذواتنا وما يحيط بها من ظلال وأغلال. تقول البطلة: "بحيرتنا كانت تغمرها الظلال، بينما بحيرة جنيف تسبح في النور". بهذا التباين، ترسم الرواية صورة لعالمين متناقضين يعكسان حالة الاغتراب والتشتت التي تعيشها البطلة.

رواية "فتاة وبحيرتان" ليست مجرد نص أدبي، بل هي شهادة على التحولات الثقافية والاجتماعية التي يعيشها إنسان هذا العصر. بلغة رائقة وناصعة وسرد متقن، تقدم الكاتبة أماني القصاص عملًا يلامس أوجاع القارئ وتساؤلاته حول الهوية، الاغتراب. تقول البطلة: "هل أنا حقًا هنا؟ أم أنني مجرد امتداد لذاكرتي التي لا ترحل؟". هذا التساؤل يختزل روح النص، مما يجعله جديرا بالقراءة.

تتمحور الرواية حول حياة البطلة التي نشأت في قرية تحكمها القيود المجتمعية والتقاليد الصارمة. على الرغم من انتقالها إلى جنيف، حيث تعيش حياة تبدو أكثر حرية، يبقى الماضي حاضرًا في أحلامها وكوابيسها. تقول البطلة: "لا أعلم لماذا اعتدت الصحو في نفس الموعد وفي أذني نفس الهمسات والخطوات". هذه الكلمات تعبر عن الصراع الذي تعيشه بين أغلالها الإجتماعية وتوقها للحرية.

تستخدم الكاتبة ضمير المتكلم الذي يسمح للقارئ بالغوص في أعماق الشخصيات والوقوف على أبعادهاالمختلفة والمتعددة. كما تعتمد الرواية على المونولوج الداخلي بكثرة، مما يضفي أبعادًا عميقة على النص. الزمن في الرواية يتنقل بين الماضي والحاضر، مما يعكس طبيعة الصراع الذي تعيشه البطلة.

تنقسم الرواية إلى مراحل متباينة، حيث تُبرز كل مرحلة تحولًا في شخصية البطلة أو صراعًا داخليًا. تبدأ الرواية بوصف مرحلة الطفولة كإطار يمثل القيود الاجتماعية، ثم تنتقل إلى المرحلة الثانية في جنيف، والتي تعكس وعود الحرية والانفتاح. هذا البناء يجعل الرواية أشبه بسيرة ذاتية مشحونة بالتوتر والحنين.

البطلة هي المحور الرئيسي للرواية، شخصية تعيش حالة من الاغتراب الدائم. تقول البطلة عن نفسها: "رغم الجمال والسحر الذي يحيطني في جنيف، إلا أنني أرى بحيرتي القديمة في كل مكان". هذه الكلمات تعكس تمزقها بين ماضيها وحاضرها.

يمثل الزوج نموذجًا للرجل الذي يعيش في حالة من الفوضى والفشل رغم محاولاته للسيطرة على محيطه. يظهر ذلك بوضوح في مشاهد الخلاف بينه وبين البطلة، حيث تقول له: "من يرتضي بالزواج من ساقطة يكون أحط إنسان في الدنيا". هذا الحوار يعكس الصراع بينهما كرمز لصراع أكبر بين السلطة الذكورية والبحث عن الحرية.

الأب في الرواية هو شخصية مضيئة، يقدم الحنان والدعم الذي تفتقده البطلة في علاقاتها الأخرى. في ذكرياتها عنه، تقول: "كان أبي يأخذنا إلى البحر، وكان يحمل لنا الشوكولاتة من سفراته البعيدة". يمثل الأب الحلم الجميل، البعيد عن القيود.

تمثل الشخصيات الثانوية في الرواية أدوات سردية تعزز من فهم القارئ للصراع الذي تعيشه البطلة. الأصدقاء والزملاء في جنيف يقدمون وجهات نظر مغايرة للحياة، لكنهم لا ينجحون في سد فجوة الحنين لدى البطلة.

تمثل البحيرتان رمزًا للصراع في الرواية. البحيرة الأولى، المرتبطة بالقرية، تعكس القيود والتقاليد، بينما تمثل البحيرة الثانية، بحيرة جنيف، الحرية والانفتاح. تقول البطلة: "لا تطغى مياه بحيرتنا المالحة والحلوة على الأخرى، ولا تتجانس رغم الاتصال". هذه العبارة تختزل جوهر التوتر الذي تعيشه البطلة.

يمثل الحنين ثيمة أساسية في الرواية. تعيش البطلة حالة من الانفصال عن حاضرها بسبب ذكرياتها القوية. تقول: "أمر يوميًا بجوار بحيرة جنيف، لكنني أبحث عن بحيرتي القديمة في عيون الناس". هذه الثنائية تبرز استحالة الهروب من الماضي.

تناقش الرواية مفهوم الحرية بشكل معقد، حيث تظهر أن الحرية ليست غيابًا للقيود فقط، بل هي عراك مستمر مع الذات والمجتمع. في جنيف، تشعر البطلة بأنها محاصرة بغربتها، حيث تقول: "جمال الطبيعة هنا يحاصرني أكثر مما يحررني".

تُبرز الرواية سؤال الهوية من خلال شخصية البطلة التي تجد نفسها ممزقة بين جذورها وحياتها في أوروبا. تقول البطلة: "لدي حب وبساطة انتماء النشأة، ولدي حب النور والرقى والحرية". وهو ما يجعل من البحث عن الذات موضوعًا مركزيًا.

تعتمد الرواية على السرد غير الخطي، حيث يتنقل الزمن بين الماضي والحاضر بشكل متكرر. كما تستخدم الكاتبة تقنيات الحلم والتداعي الحر للأفكار كأدوات تُبرز من خلالها تداخل الوعي واللاوعي.

اللغة في الرواية ثرية وتزخر بالصور البديعة. تصف البطلة بحيرة جنيف قائلة: "مساحات زرقاء مفتوحة تحتضن الأفق، لكنها لا تملك دفء بحيرتي الصغيرة المغلقة". هذه العبارة تعكس مهارة الكاتبة في تحويل الطبيعة إلى استعارات تعبر عن مشاعر البطلة

تتنوع الحوارات في الرواية بين الداخلي، الذي يكشف عن أعماق البطلة وأزماتها، والخارجي، الذي يبرز الصراعات مع الشخصيات الأخرى. تقول البطلة: "هل أنا حقًا هنا؟ أم أنني مجرد امتداد لذاكرتي التي لا ترحل؟".

تشير الرواية إلى أن الحرية ليست مجرد غياب القيود، بل هي عملية معقدة تتطلب التوازن بين الطموحات والواقع. تقول البطلة: "حتى الحرية المطلقة تحتاج إلى سياج من القبول".

تقدم الرواية نقدًا حادًا للمجتمع الشرقي وتقاليده التي تُثقل كاهل المرأة. تقول البطلة عن قريتها: "العيب كان يملأ الهواء، حتى أننا كنا نتنفسه دون أن ندري".

بأسلوب فني مميز. تُبرز الرواية أهمية تناول موضوع الهوية والبحث عن الجذور في سياق العولمة، مما يجعلها وثيقة  تعكس التحولات الثقافية والاجتماعية التي يمر بها الإنسان في لادنا.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: الذی تعیشه فی الروایة فی جنیف التی ت

إقرأ أيضاً:

النضال من أجل الحرية كل لا يتجزأ

يمثل الأستاذ أحمد نجيب الشابي الذي تم الزج به أخيرا في السجن عن سن تناهز الـ 81 سنة نموذجا للنضال الكلي الذي لا يتجزأ من أجل الحرية والديمقراطية والتعايش السلمي ووحدة المجتمع ومدنية الدولة، ورفض الاستثناء والإقصاء والاستئصال وتخوين المخالفين أو ظلمهم.

كيف لا وقد باشر النضال منذ ستينيات القرن الماضي في الجامعة التونسية بالانتماء لحزب البعث العربي الاشتراكي وحوكم بـ 11 سنة سجنا قضى منها سنتين وتم وضعه في الإقامة الجبرية بمدينة باجة التي سرعان ما غادرها إلى الجزائر ثم إلى فرنسا حيث انسحب من البعث وخاض تجربته السياسية الثانية مع منظمة آفاق العامل التونسي دفع ثمنها حكما غيابيا بـ 12 سنة سجنا ثم كانت تجربته السياسية الثالثة بتأسيس التجمع الاشتراكي التقدمي الذي تحول بعد 1987 إلى الحزب الديمقراطي التقدمي والذي جسد من خلاله قناعاته بالتنوع الفكري والسياسي داخل البلاد وفي الكيانات السياسية وعلى رأسها الحزب الديمقراطي التقدمي الذي كان رأس حربة في مقاومة استبداد نظام بن علي وفساده وكان لقياداته وعلى رأسهم الأستاذ نجيب الشابي دورا أساسيا في تحرك 18 أكتوبر 2005 وتوحيد المعارضة في هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات التي صدرت عنها وثائق مهمة حول مدنية الدولة والمرأة والحريات العامة والفردية. والتي مثلت تجربة رائدة في العمل السياسي المشترك وساهمت في تنضيج الاوضاع لقيام ثورة الحرية والكرامة دون أن تتطور إلى جبهة سياسية وطنية بعد أن اختلفت السبل بمكوناتها إثر ثورة الحرية والكرامة.

ويبقى الأستاذ نجيب شخصية محترمة ثابة على المبادى والقيم الإنسانية بقطع النظر عن الاتفاق معه أو الاختلاف لما له من رصيد نضالي ديمقراطي ثري وغني بالدروس والعبر وله من الخيارات والمواقف التي طبعت مسيرته، وقد تعرض لها في كتابه "المسيرة والمسار / ما جرى وما أرى" وهي ككل تجربة بشرية فيها الصواب والخطأ والأكيد أنها نابعة إما من اجتهاد جماعي مع رفاق دربه أثناء كل تجاربه أو اجتهاد شخصي من منطلق تقدير المصلحة الوطنية ودوره في التأثير في الأوضاع وصناعة الأحداث كفاعل سياسي له طموحاته السياسية المشروعة دون ارتباطات أو ارتهانات أو زبونية سياسية.

إن معرفته من قريب تؤكد عمق إنسانيته وتقديره لغيره والتزامه الصارم بعهوده ووعوده ونزاهة معاملاته والرجولة في تصرفاته التي تعد عملة نادرة في هذا الزمن الرديء كما تدحض عنه عدة انطباعات تبدو سلبية وهي في حقيقتها غير ذلك.وهو الرجل الذي يقبل النقد لمسيرته ومواقفه ويستمع بإنصات ويقبل المراجعة والتصويب وقد حصل ذلك في أكثر من مناسبة في حوارات مطولة معه حول بعض مواقفه وتحالفاته أيام الثورة وأثناء عشرية الانتقال الديمقراطي. ولعل من أبرزها موقفه من الإسلاميين الذين يتباعد عنهم أحيانا حد التناقض والصراع ويتقارب معهم أحيانا أخرى حد التماهي والتحالف  فهو ناقد لمنطلقاتهم الفكرية والسياسية ومجادل لهم فيها من داخل نسقها بقطع النظر عن وجاهة آرائه من عدمها ومنافس لهم سياسيا وبشراسة في الاستحقاقات الانتخابية ومدافع عنهم في المحاكم مؤمن بحقهم في المشاركة  السياسية، حيث سجل له التاريخ السياسي التونسي الحديث مرافعتة الشهيرة عن حركة الاتجاه الإسلامي وقيادتها في محكمة أمن الدولة سنة 1987 وكتاباته في مجلة الموقف التي كان يديرها  سنة 1988 حول ضرورة ضمان الحريات السياسية للجميع بما في ذلك الإسلاميين حد تشبيه بعض خصومه له بنجيب الله آخر حاكم لأفغانستان موالي للاتحاد السوفييتي الذي حصل بينه وبين المجاهدين الأفغان تقارب أثناء إرغامهم للسوفييت على الانسحاب.

إن معرفته من قريب تؤكد عمق إنسانيته وتقديره لغيره والتزامه الصارم بعهوده ووعوده ونزاهة معاملاته والرجولة في تصرفاته التي تعد عملة نادرة في هذا الزمن الرديء كما تدحض عنه عدة انطباعات تبدو سلبية وهي في حقيقتها غير ذلك.

أما بخصوص تعاطيه مع المرحلة الحالية التي يعود فيها إلى السجن بعد ما يقارب النصف قرن من النضال السياسي السلمي الديمقراطي، حيث كان تقديره لما حصل سليم من الوهلة الأولى حين اعتبر أن تدابير 25 تموز / يوليو 2021 انقلابا على الديمقراطية رغم ما صاحب العشرية  من سلبيات كان من أشد معارضيها لأن الحل بالنسبة إليه يكمن في إصلاح النظام الديمقراطي من داخله بآليات الديمقراتية نفسها وليس بإجراءات من خارجها.

وقد اعتبر من البداية أن وحدة المعارضة مدخل أساسي لعودة الديمقراطية فانطلق في مشاورات وتنسيق مع بعض الأطراف السياسية والشخصيات التي يلتقي معها في الموقف لتأسيس إطار سياسي نضالي إلا أن المواقف لم تكن ناضجة لتك الخطوة الأمر الذي جعله يتجه لتأسيس جبهة الخلاص الوطني مع بعض مكونات مواطنون ضد الانقلاب الذين تقدموا أشواطا في العمل السياسي والميداني المشترك ومع أطراف وشخصيات أخرى، وقد مثلت خير تعبير عن قناعته الراسخة بالنضال السلمي مع جميع مكونات الساحة السياسية بما في ذلك الإسلاميين (النهضة / ائتلاف الكرامة / العمل والانجاز) من أجل عودة النظام الديمقراطي والاحتكام لإرادة الشعب وقد جعل الجبهة إطارا مفتوحا للجميع انخراط أو تنسيقا  إلا من استثنى نفسه.

لهذه الأسباب يتم سجنه رغم أنه أحد أبرز شيوخ النضال الديمقراطي في تونس وأحد أهم مدارسه المخضرمة وذات المرجعيات الفكرية والسياسية المتنوعة دون اعتبار لسنه الذي قضى منه ما يزيد عن النصف قرن من النضال دون كلل أو ملل أو تردد أو تراجع، وتجاوز كل العقبات والمطبات وهو اليوم يضرب مثالا حيا للتضحية من أجل المبادئ والأفكار والقناعات التي لا تتجزأ ولا تقبل المساومة .

*كاتب وناشط سياسي تونسي 

مقالات مشابهة

  • العراقيون في خطر.. الحرية محاصرة بـالخوف والملاحقات اليومية
  • انتصار الحبسية.. فنانة تنسج حكايات الماضي في صورة
  • بين مفاخرة ترامب بإنهاء 8 حروب ونتائج وساطاته الفعلية.. ماذا تقول الوقائع الميدانية؟
  • حماس: تقرير العفو الدولية مغلوط ويتبنى الرواية الإسرائيلية
  • «قتل الجماعة للواحد»
  • غوتيريش: الأمم المتحدة ستلتقي طرفي النزاع السوداني في جنيف
  • النضال من أجل الحرية كل لا يتجزأ
  • ابن سائق محمد صبحي يقلب الرواية المتداولة رأسًا على عقب .. تفاصيل
  • كارما وزميلاتها وعلقةموت.. معركة لأجل القصاص والبراءة.. من ينتصر؟
  • تأجيل محاكمة عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد القصاص لجلسة 2 فبراير