لجريدة عمان:
2025-06-11@05:35:36 GMT

رؤى أدبية من زمن النهضة الثقافية!

تاريخ النشر: 11th, January 2025 GMT

رؤى أدبية من زمن النهضة الثقافية!

(1)

..... ونستكمل الحديث في هذه الحلقة من (مرفأ قراءة) عن الرائد النهضوي الكبير إسماعيل مظهر (1891-1962) رائد "التيار العلمي" في الفكر العربي الحديث، ذلك التيار الذي ينتصر للعلم ونظرياته، ويبشر بإنجازاته، وأحد أكبر المثقفين المصريين والعرب الذين مارسوا أدوارا معرفية وثقافية جليلة من خلال نشاطه العلمي والتأليفي والترجمة، وكتابة المقالات، وإصداره الصحف والمجلات، وعضويته النشطة في المجامع العلمية واللغوية المختلفة.

فضلا على ارتباط اسمه بالصحافة ونهضتها في فترة ازدهارها وتنوعها خاصة في مصر، وفي القلب منها ارتباطه الوثيق بمجلة (العصور) على وجه التحديد والتي صدرت خلال الفترة (1927-1930)، وكان شعارها "حرر فكرك من كل التقاليد والأساطير الموروثة حتى لا تجد صعوبة ما في رفض رأي من الآراء أو مذهب من المذاهب اطمأنت إليه نفسك، وسكن إليه عقلك إذا ما انكشف لك من الحقائق ما يناقضه".

وعلى الرغم من نشاطه الكبير والوافر وأعماله العلمية والثقافية والتنويرية الكبرى، فإنه لم ينل ما هو جدير به من اهتمام مؤرخي الفكر العربي.. ونقف في هذه الحلقة عند واحد من إصدارته المهمة التي ترى النور للمرة الأولى، ضمن مشروع إعادة بعث وإحياء تراث إسماعيل مظهر النهضوي، العلمي والفكري والثقافي..

وقد صدر، في هذا الإطار، خلال الأعوام القليلة الماضية، عدد من المجلدات التي تضم ما تفرق من شتات الدراسات والبحوث والمقالات التي لم تجمع بين دفتي كتاب، فضلًا على إعادة إصدار ترجمته التأسيسية لكتاب تشارلز داروين «أصل الأنواع» في مجلدين كبيرين، وهو العمل الكبير الذي ارتبط به اسم إسماعيل مظهر في الثقافة العربية الحديثة.

(2)

"والواقع الذي لا مراء فيه، أننا لم نُعِدّ للعلم عدته الواجبة، فقد سبقنا عالم الغرب في مضمار العلم، وقطع فيه شوطًا طويلًا، وخلفنا، حيث كنا عالة على المبتكرين فيه. والسبب الأكبر في ذلك أننا نقلنا من العلم شذورًا، ولم ننقل أصولًا. فمن حيث المراجع لم ننقل شيئًا يذكر إلى لغتنا. إنما نقلنا بقدر ما مسّت حاجتنا إلى التعليم، وهي حاجة محدودة. وكذلك لم نعن بالتمرس على أسلوب التفكير العلمي، وهو أسلوب له حدوده وله منطقه وله مقاييسه. ولا يقتصر هذا الأمر على العلم وحده، بل إن حالنا في الفلسفة وفي الأدب، هو حالنا في العلم تمامًا. ففلسفتنا قشور، وأدبنا يفتقد العنصر الجوهري للابتكار، عنصر النقد"..

(رؤى أدبية؛ من تراث مقالات إسماعيل مظهر، 2025)

هذه الفقرة مقتبسة من واحدٍ من نصوص إسماعيل مظهر القيمة التي كتبها في الثلث الأول من القرن العشرين، وتظهر إلى أي مدى استنارة فكره ووعيه، ولمسه لجذر الإشكالية التي ما زلنا نلف وندور حولها: كيف نحدد احتياجاتنا، ونرسم سبل التلاقي مع غيرنا ومع الآخر عمومًا، خاصة إذا ازدوج سلوكه ما بين وجه حضاري مشرق متقدم ويعج بالنهضة العلمية والفكرية والثقافية، ووجه استعماري توسعي بغيض، يقوم على استنزاف ثروات وموارد الشعوب النامية أو التي تأخرت عن ركب التقدم، وكان استعماره لها سببا رئيسا في ذلك التخلف والتأخر!

مثل هذه الفكرة/ الأفكار، وغيرها، مما يمثل خير تمثيل الحيوية التي كان يصطخب بها فكرنا العربي الحديث -آنذاك- سنجدها في كتاب إسماعيل مظهر الذي يصدر في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025 بعد أيام قليلة. الكتاب عنوانه «رؤى أدبية ـ من تراث مقالات إسماعيل مظهر»، جمعه وأعده للنشر حفيده إسماعيل جلال مظهر الذي أخذ على عاتقه مشكورًا، الحفاظ على إرث جده، وجمع ما تفرق منه وما لم ينشر، وكان هذا الكتاب واحدًا منها.

(3)

محرِّر كتاب «رؤى أدبية» سجل على غلافها الخلفي أنه "كتاب يسعد دار المعارف أن تقدمه لقرائها ومحبيها، وتستعيد به تقليدا عظيما لطالما كان "علامة" مميزة على رؤيتها وتصوراتها لسياسات النشر ضمن أدوارها الثقافية والمعرفية الكبرى. تستعيد دار المعارف مرة أخرى حضورها ومكانتها العظيمة، بوصل ما انقطع، واستئناف دورها في نشر الأعمال الثقافية الكبرى، من تراث الآباء المؤسسين للثقافة المصرية والعربية، وخاصة في فترة ازدهارها ونهوضها (1941-1963)، حينما كانت الدار الوحيدة تقريبًا المعنية بنشر النتاج الفكري والثقافي والإنساني لكبار المفكرين والمثقفين المصريين والعرب؛ طه حسين، محمد حسين هيكل، عباس محمود العقاد، وإبراهيم المازني، وأحمد أمين، ومحمد كرد علي، وعلي أدهم، وعشرات غيرهم"..

يأتي هذا الكتاب القيم ليكمل ما سبقه من الكتب التي صدرت من تراث مقالات إسماعيل مظهر التي لم تجمع من قبل بين دفتي كتاب واحد، واخترنا له عنوان (رؤى أدبية ـ من تراث مقالات إسماعيل مظهر)، ويضم مجموعة من أندر وأنفس مقالات "مظهر" التي نشرها خلال الفترة من سنة 1928 وحتى 1961. ومدارها كله البحث عن "التجديد" الأدبي والفكري والنقدي والعلمي، والاشتباك مع قضايا العصر العلمية والثقافية، وهي في الوقت ذاته دليل على حيوية مصر وخصوبتها في الثلث الأوسط من القرن العشرين.

وهي -في مجموعها- تمثل ما أظنه صورة حية بل نابضة بالحيوية على واقع ثقافي وفكري، تمتد جذوره البعيدة إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حينما بدأت بشائر "النهضة" التعليمية والفكرية التي أرسى أساسها الجد العظيم رفاعة الطهطاوي (1801-1873)، وتسلم الراية من بعده تلميذه علي باشا مبارك، ثم عَلَمَا هذه الفترة بامتياز السيد جمال الدين الأفغاني، وصنوه وتلميذه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1849-1905). ومن عباءة الشيخ الجليل المستنير، خرجت صفوة العقول المصرية منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، وهي الفترة التي شكلت ما نطلق عليه في الأدبيات التاريخية الثقافية "حقبة مصر الليبرالية" أو "شبه الليبرالية".

(4)

ضم الكتاب الذي ينشر للمرة الأولى مقالات من المجلات والصحف نشرت بين عامي 1927 و1960، وهي مجلات "العصور" الشهرية، و"أبوللو"، و"المقتطف"، و"الرسالة"، و"الرأي العام"، و"الحديث السورية"، و"المصري"، و"الجمهورية"، و"المجلة"، بالإضافة إلى مقالين لم يستدل جامعهما على مكان نشرهما، عثر عليهما في أوراق إسماعيل مظهر الخاصة.

في مقاله "أكل السحت"، كتب إسماعيل مظهر في جريدة "العصور"، العددين 31، 32 يبين هدفه من الكتابة إلى شباب مصر والعالم العربي، يقول: "ونحن إنما نريد بما نكتب أن نغرس فيه (يقصد شباب مصر والعالم العربي) روح الفضيلة وحرية الفكر والضمير". وهذه العبارة تكاد تكون هي روح إسماعيل مظهر وفكره، الجامعة بين الإنسانيات والطبيعة، النزعة الأخلاقية والنزوع العلمي، الجمع بين الأدب والعلم، ولعل في موضوعات المقالات وعناوينها ما يدل على ذلك بل يثبته!

وتنوعت مقالات الكتاب -بعد ذلك- بين الأدب والفكر والعلوم والنظرات النقدية، وشملت ضمن ما شملت من مقالات وموضوعات متنوعة: تأملات في الأدب والحياة، وحرية الفكر، والقصة- مناظر الحياة (وهنا تصورات مبكرة للغاية عن حضور فن القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث)، ومقال عن "الرجعية الفكرية" وكيف تنظم الدعوة لإحيائها في مصر والعالم العربي!! ومقال مهم آخر عن "حرية الفكر" وأثرها في تكوين الحضارة الإنسانية، وأكل السحت، واعمل لدنياك، وأدكتاتورية في الأدب؟

وفي الأدب والحياة، صحافتنا تنحدر، حياة الأدب، أدب حائر بين القديم والجديد، والأدب الحائر بين الجمال والسوقية، والأدب الحائر بين الأصالة والاصطناع، وأدب الفساد، وزعامة الأدب في الشرق العربي، وأدب الجريمة، والأدب الذي احترق، ونداء الجنس وأدب الإسفاف، وأخيرا الأدب والحضارة.

(5)

وفي العلوم، وتاريخ العلوم والأحياء الطبيعية، سنجد مقالا طريفا ومثيرا عن "حيوان المرجان"، و"الغيالم" أو "السلاحف البحرية"، وارتحال صديق وحول نقد كتاب "الذخيرة" في علم الطب، وعناق الأدب والعلم، ومن وحي المعرفة، وأخيرا العلم وكفايات العقل الإنساني..

وتبقى الإشارة إلى أن إسماعيل مظهر قد يكون أول من دعا إلى ضرورة إخراج المعجم التاريخي للغة العربية في مقاله المضمن بالكتاب وعنوانه "اللغة العربية وحاجتها إلى معجم لغوي تاريخي".. لكن هذا حديث آخر..

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: رؤى أدبیة من القرن فی الأدب

إقرأ أيضاً:

رحلة سول بيلو من مونتريال إلى نوبل.. سيرة نجاح مهاجر

في أحد أحياء مونتريال الكندية، وُلد سول بيلو الذي يصادف اليوم ذكرى ميلاده عام 1915 لعائلة يهودية مهاجرة من روسيا.

 لم تكن طفولته مترفة ولا سهلة، لكنها كانت غنية بالتجارب، مليئة بصراع الهوية، واكتشاف الذات، والسعي المستمر لإثبات الوجود في مجتمع جديد، بلغته المختلفة وقيمه المتغيرة.

طفل يتحدث اليديشية في البيت، والفرنسية في الشارع، والإنجليزية في المدرسة.

كان تعدد اللغات هذا بداية لموهبة لغوية استثنائية، لكنه كان أيضًا مقدمة لعمر كامل من الأسئلة حول “من أكون؟” سؤال لم يتوقف عن طرحه، لا على نفسه، ولا على أبطاله في رواياته.

انتقلت عائلته إلى شيكاغو وهو في التاسعة من عمره، وهناك بدأ تشكيل وعيه الاجتماعي والثقافي. 

بين أحياء المدينة الفقيرة، والتفاوت الطبقي، وأحلام المهاجرين، وجد بيلو مادة خام لأدبه القادم.

رغم أنه درس علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) في جامعة نورث وسترن، إلا أن الكتابة كانت دائمًا هي الملاذ، لم تكن رواياته فقط حكايات؛ كانت محاولات لفهم الإنسان، المجتمع، والحياة الأمريكية بكل تناقضاتها.

في عام 1953، أصدر روايته الشهيرة “The Adventures of Augie March” التي شكلت علامة فارقة في الأدب الأمريكي.

 شخصية أوغي كانت تجسيدًا لروح التمرد، والبحث عن الذات، والانطلاق من العدم إلى كل شيء صورة قريبة جدًا من سيرة بيلو نفسه.

ومع مرور العقود، أصبح بيلو أحد الأصوات الكبرى في الأدب الأمريكي،حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1976، لتتوج مسيرة امتدت لسنوات من الكتابة الجادة والعميقة.

وصفته الأكاديمية السويدية بأنه “كاتب يجمع بين الرؤية الثقافية الشاملة والفهم الدقيق للطبيعة الإنسانية”.

لكن وراء هذا المجد الأدبي، ظل بيلو دائمًا “الابن المهاجر”، يحمل قلق البدايات، وفضول الباحث، وألم المنتمي إلى أكثر من عالم ولا ينتمي بالكامل لأي منهم.

في أعماله مثل Herzog وMr. Sammler’s Planet وHumboldt’s Gift، تكررت أسئلة: من نحن؟ إلى أين ننتمي؟ وهل يمكن للفرد أن يفهم نفسه وسط ضجيج العالم. 

طباعة شارك سول بيلو الأنثروبولوجيا الأدب الأمريكي جائزة نوبل الرؤية الثقافية

مقالات مشابهة

  • رحلة سول بيلو من مونتريال إلى نوبل.. سيرة نجاح مهاجر
  • خلال لقائه رئيس مجلس الشورى في دولة قطر: رئيس البرلمان العربي يشيد بالجهود التي يقوم بها أمير دولة قطر لوقف حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني
  • أحمد سعد يُشعل حربًا بين سحر الجعارة ومظهر شاهين.. ما القصة؟
  • صوفان: وجود شخصيات على غرار فادي صقر ضمن هذا المسار له دور في تفكيك العقد وحل المشكلات ومواجهة المخاطر التي تتعرض لها البلاد.. نحن نتفهم الألم والغضب الذي تشعر به عائلات الشهداء، لكننا في مرحلة السلم الأهلي مضطرون لاتخاذ قرارات لتأمين استقرار نسبي للمرحلة
  • جمعيتا «الصحفيين» و«النهضة النسائية» تتعاونان لتأهيل الشباب وتمكينهم
  • في ذكرى ميلاده.. أحمد خالد توفيق العرّاب الذي غيّر وجه الأدب العربي
  • زوجة إسماعيل الليثي تخرج عن صمتها: مفيش تريند.. اللي قلته حقيقي
  • أحمد سعد من الحج لـ حفلة الساحل.. حكاية صورتين قلبو السوشيال ميديا
  • شَظَفُ الطَّبْع
  • النبي الذي فداه الله بكبش عظيم.. إسحاق أم إسماعيل؟ على جمعة يحسم الجدل