خطبتا الجمعة بالحرمين: ذكر الله هو الحصن الحصين من البلايا والمحن.. والإنسان ضعيف فعليه ألا يطغى بعلمه ولا يغتر بقوته
تاريخ النشر: 17th, January 2025 GMT
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله، فَمَن لزِم التَّقوى فقد أجاب دَاعِي اللهِ.
وقال: في عالمٍ يموجُ بالأزمَاتِ والتحديات، والأوهام والشِّكَايات، وفي مجتمعات تنتشر فيها أعمال السحر والشعوذة الشيطانية، وأمراض العين والأوبئة النفسية، ومَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنها مِنْ كُرَبٍ واعْتِلال، أو نَقْصٍ في الأنْفُسِ والأمْوَال، إلا من أقدار الباري سبحانه بِابْتِلاءِ الأفْرَاد والمُجْتَمعَات، وهو لِفَرِيقٍ: مِرْقاة في دَرَجَاتِ الكمال، ولآخَر: كَفَّارة لِسَيِّئاتِ الأعمال، ويُحْمَل أمر المُسْلِم كله على الخَيْر، إنْ ألَمَّ بِه البلاء والضَّيْر.
وأكد الشيخ عبدالرحمن السديس أن الوقاية والتحصين طريقٌ لتجنب الضرر أو الاعتلال والمرض، موصيًا المسلمين بتحصين أنفسهم وأولادهم وبيوتهم بالأوْرَادِ الشَّرْعِية، والأذكار الصَّبَاحِية والمسائية، وأذكار الدُّخُول والخُرُوج، والطَّعَام والشَّراب، والنوم والاستيقاظ وغيرها من الأذكار الثابتة عن سيد الخلق، فهي الحصن الواقي بإذن الله، مَع التوكُّل الجازم على المولى البصير السَّميع، وتفويض الأمر لِتَدْبيره المُحْكَم البديع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تٌقْرَأُ فِيه سُورَة الْبَقَرَة”، ولاسيما آية الكرسي وخواتيم السورة، وسورة الإخلاص والمعوذتين كما كان هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
وقال فضيلته: في إغفالِ كثيرٍ من المسلمين تحصين الأنْفُس والأولاد والبيوت، مع ضَعْفِ الجوانب الإيمَانِيّة والعقديّة لَدَى من يُصِيبه الشيطانُ بِمَسٍ أو وَسْوَسَة أو غير ذلك، أو يُصَاب بِعَيْنٍ أو حَسَدٍ، يَنْجَفِلُ بعضهم إلى أحْلاسِ الشّعْوَذة والطّلاسم والخُرَافات، والسِّحر والدَّجَل والمُخَالفات، وتَلَقَّفَهم مَنْ في سِلْكِهِم مِن أدْعِيَاءِ الرُّقية الشرعِيّة، أو مَن يَدَّعون فَكَّ الأعمال وإبطال السِّحر ونحو ذلك فَهَذَا رَاقٍ يُسَفْسِط بِكتابة غامضة ويُتَمْتِمْ، وآخر يُهَرْطِق بِمُبْهم الكلام ويُدَمْدِم، وآخر يَقْطع بأنَّ الدَّاء عَيْن، والعَائِنُ من ذوي القُرْبى، وآخر لا يَنْفكُّ عن ضرْبٍ مُبَرِّح، وجُلُّ هؤلاء الأدْعِيَاء يُمَوِّهون بِإظْهَار سَمْتِ العُقلاء التُّقَاة، وإن هم إلاَّ مِنَ المُخَادِعين الدُّهَاة، المُحْتالِين لابْتِزَاز أموال النَّاس، واسْتِدْرَارِها على غير قِيَاس، وقد يُزَجُّ بوصفاتٍ تُرَوِّجُ للوهم لخداع البُسَطَاء، خاصة مع رواجها في الفضائيات وشبكات المعلومات ومواقع التواصل، بل وبعض التطبيقات الرقمية.
ولفت إمام وخطيب المسجد الحرام الانتباه إلى أن التحصن والتحصين لا يحتاج لِعَنَاءٍ أو تَعَنُّت أو الوقوع في براثن الأدْعِيَاء، بل هو أمان من كل هؤلاء، يفعله المرء بنفسه ومع أهله وأولاده، وهو يستوجب حفظ الأفْرَادِ والمُجتمعات، وغَيْرَة لجَناب العقيدة العتيدة، وحِياض الشريعة البديعة.
وأوصى فضيلته المسلمين بتقوى الله وامْتِثال أوامِرِه، واجْتِنَابِ نَوَاهِيه وزَوَاجِرِه، فإنه جَلَّ جلاله مُطَّلِعٌ على بَاطِن الأمر وظاهِره، وخَلَجَاتِ الصَّدْرِ وسَرَائِرِه.
وأبان الشيخ السديس أنه ليس بخاف على الجميع ما يتناوش الأمة من مِحَنٍ وخُطوبٍ ورزايا، وفِتَنٍ وكُروبٍ وبَلايا، لذا فإن من أهم أنواع التحصين في هذه الآونة العصيبة تحصين مدارك الشباب فِكْرِيًا وعَقَدِيًّا، والمسؤولية في ذلك تقع على عاتق العُلماء والدُّعاة، والآباء ورجال التربية والفكر والإعلام وحملة الأقلام؛ فعليهم جميعًا أن يُسْهِمُوا في تحصين الشباب فِكْرِيًا وعَقَدِيًّا؛ والحث على الالتفاف حول عُلَماءِ الأمَّة الرَّاسِخِين، والتحذير من الفتاوى الشاذة والمُحَرِّضَة والمُضَلِّلَة، وتوعيتهم بالتحديات التي تواجههم، في زمن طَغَتْ فيه فتن الشهوات والشبهات والتي جَرَّتْ إلى الأسر والبيوت والمجتمعات، وأخذًا بحُجَزِهم عن الهُوي في سراديب الأفكار النشاز، وبث الوعي في بيان خطط الأعداء وقطع الطريق عليه في تحقيق مآربهم المشبوهة سائلًا الله تعالى أن يحمى شبابنا ومجتمعاتنا من كل سوء ومكروه، وأن يحفظ علينا أمننا وأماننا وعقيدتنا وقيادتنا، إنه قريب مجيب.
* وفي المسجد النبوي الشريف ألقى خطبة الجمعة فضيلة الشيخ عبدالباري الثبيتي، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله فهي سبيل النجاة وزاد المؤمنين، وبها رفع أهل الطاعة إلى مراتب المتقين.
وقال: إن قول الله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} هي آية تختصر مسار الحياة في كلمات بليغة ومعان عميقة، ترسم صورة لمراحل خلق الإنسان، تبدأ بضعف الطفولة وتعلو بالقوة، ثم تعود إلى ضعف يزينه الشيب. آية توقظ العقول لتدرك عجز الإنسان، وتلامس القلوب لتظهر حاجته الدائمة إلى ربه.
وأضاف بأن هذه الآية هي دعوة للتفكر في أطوار الخلق، وفي تقلب الأحوال بين القوة والضعف، وفي قدرة الله المطلقة التي تدبر هذا المسار بحكمة وإتقان. كل شيء بيده، منه المبتدأ وإليه المنتهى. وتأكيدًا على أنه يجب على المسلم أن يعظم شعائر الله في كل وقت وحين، ويزداد التعظيم لحرمات الله في هذه الأشهر الحرم، بترك المحرمات وتجنب المنهيات، والمسارعة إلى فعل الخيرات، والمسابقة إلى الصالحات، بشرط البعد عن المبتدعات، والمجانبة لاختراع المحدثات.
وأوضح إمام وخطيب المسجد النبوي أن الطفولة هي الصفحة الأولى في كتاب الحياة، تبدأ ببراءة ناصعة وضعف يحفه لطف الله ورحمته. طفل صغير لا يملك من أمره شيئًا، أودع الله في قلوب من حوله حبًا وحنانًا، وأحاطه بأيد ترعاه وتخفف عنه ضعفه، مشيرًا إلى أن هذه الآية مشهد مهيب يبين عظمة التدبير الإلهي، إذ يحفظ الله هذا الطفل الضعيف، ويمنحه العون من حيث لا يدري.
وبين فضيلته مراحل نمو الإنسان من خروجه من ظلمات بطن أمه لا علم له ولا قدرة، في عجز تام وجهل مطبق. ثم فتح الله له أبواب العلم، ووهب له السمع والبصر والفؤاد لينهل بها من معين التعلم والمعرفة. مشيرًا إلى أن كل ما اكتسبه الإنسان من علم أو قوة هو هبة من الله وعطاء من كرمه، قال تعالى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
ونوه بأن هذه الآية تغرس في القلوب أدب العبودية، وتزرع في النفوس تواضع المخبتين، فلا يطغى الإنسان بعلمه، ولا يغتر بقوته.
وبين أن على الإنسان أن يدرك أن كل ذرة من قوته وكل حركة في جسده هي نعمة تستوجب شكرًا دائمًا وخضوعًا كاملاً. فالعبد مهما علا شأنه يظل فقيرًا إلى ربه، محتاجًا إلى فضله في كل لحظة، وحياته كلها هبة من الله، تستحق الحمد في كل حين.
فما أعظم غنى الله، وما أبلغ فقر العبد بين يديه.
وأفاد بأن هذه المرحلة تكتب فيها أعظم قصص الكفاح، وتُبنى أقوى صروح الحضارة، فلا تقوم قائمة للأوطان ولا تنهض أمة إلا بسواعد الشباب اليافعة وهممهم العالية.
وأكد إمام وخطيب المسجد النبوي أن قوة الشباب تزدهر حين تتفيأ ظلال الدين، وتسمو حين تتغذى من معين القيم والأخلاق، وتتجلى في سماء المجد حين تسخر لخدمة البلاد والعباد، ومن أهدر شبابه فقد أهدر عمره كله، فهو لحظة عابرة في زمن الحياة، ومن استثمره في الخير والنفع خلد أثرًا طيبًا، وجنى ثمارًا يانعة في الدنيا والآخرة .
وأشار إلى أن القوة الحقيقية تنبع من روح إيمانية، تشحذ بالطاعة، وتتعزز بالاستغفار، وتثمر بالعمل الصالح. فهي القوة التي تتصل بربها، فيزيدها عزمًا وثباتًا. قال الله تعالى على لسان هود عليه السلام {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}.
وفي الخطبة الثانية أوضح فضيلته أن حدود زمن الطفولة والقوة ثم الضعف والشيبة هي متوسط عمر الإنسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك”.
إنها رحلة قصيرة في ميزان الزمن، لكنها تذكر بالمال المحتوم، وأن النهاية تقترب مع كل لحظة تمرّ.
وفي ختام الخطبة حث إمام وخطيب المسجد النبوي على اغتنام كل لحظة من العمر. فالعمر محدود، والفرصة لا تعود، والأعمار لا تقاس بعدد السنين، بل بما يترك فيها من أثر خالد وعمل صالح .
المصدر: صحيفة الجزيرة
كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية إمام وخطیب المسجد المسجد النبوی أن هذه الله ف إلى أن
إقرأ أيضاً:
ملتقى التفسير بالجامع الأزهر: سيظل ما نعلمه عن خلق الإنسان أقل بكثير مما هو موجود في القرآن
عقد الجامع الأزهر، ملتقى التفسير ووجوه الإعجاز القرآني الأسبوعي تحت عنوان "مظاهر الإعجاز في حديث القرآن الكريم عن خلق الإنسان"، وذلك بحضور كل من: الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، والدكتور محمود صديق، نائب رئيس جامعة الأزهر للدراسات العليا والبحوث، وأدار الملتقى الأستاذ رضا عبد السلام، رئيس إذاعة القرآن الكريم السابق.
في بداية الملتقى أكد الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، أن القرآن الكريم بحر لا ينضب من المعارف والعلوم، وأن آياته تحمل في طياتها من الحقائق العلمية ما يثبت إعجازه يوما بعد يوم، وفيما يتعلق بحديث القرآن عن خلق الإنسان وتكوينه التي لم تكتشف إلا حديثًا، رغم أن القرآن أخبرنا بها منذ قرون عدة، وسيظل ما نعلمه عن خلق الإنسان أقل بكثير مما هو موجود فيه، لأن كلام الله سبحانه الله وتعالى كتاب مفتوح إلى كل الأجيال إلى أن تقوم الساعة.
واستشهد، بقول سهل بن عبد الله: "لو أعطي العبد بكل حرفٍ من القرآن ألف فهم، واستنبط منها ألف حكم، لم يبلغ نهاية ما أودع الله في آيةٍ من كتابه"، مشيرًا إلى أن حديث القرآن الكريم عن خلق الإنسان معجز؛ لأن الحديث عن الإعجاز في خلق الإنسان هو في حد ذاته إعجاز، من خلال الحقائق العلمية التي سبق بها القرآن الكريم العلم الحديث.
وبين رئيس جامعة الأزهر، أن العلم الحديث، على الرغم مما وصل إليه من تقدم، يظل عاجزًا أمام تفسير بعض الأمور، وأنها معلومة ومعروفة في علم الله سبحانه وتعالى، وهو ما بينه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفةً، ثم يكون علقةً مثل ذلك ، ثم يكون مضغةً مثل ذلك ، ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويُؤمر بأربع كلمات: بكتابة رزقه ، وأجله ، وعمله، وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة"، وهو ما جاء في القرآن الكريم ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ۖ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، وهذه الآية إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان ودبر كل شؤونه، وهو ما بينته الآية الكريمة أيضًا: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾.
وأشار رئيس جامعة الأزهر إلى أن القرآن الكريم يؤكد على أصل خلق الإنسان من الطين وهو ما بينه قوله تعالى: (ولقد خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ)، وقوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ﴾، وهو ما يتوافق مع الحقائق العلمية التي تشير إلى أن العناصر الأساسية المكونة لجسم الإنسان موجودة في الطين، هذه الحقيقة التي اكتشفها العلم الحديث بعد قرون كثيرة من حديث القرآن الكريم عن خلق الإنسان، لافتا إلى أن الإنسان رغم كونه مخلوق من طين، لكن بما أودعه الله فيه من أسرار كرمه الحق سبحانه وتعالى على كل المخلوقات، وفضله على كثير من خلقه وشرفه وكرمه بأن جعله خليفة له سبحانه وتعالى في الأرض.
وأضاف رئيس جامعة الأزهر أن آية: ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ تكشف مراحل خلق الإنسان داخل رحم الأم، وهو ما يثبته الإعجاز القرآني الذي سبق العلم الحديث بقرون، حيث تبدأ الرحلة بـ (النُّطْفَةَ)، وهي البويضة المخصبة، التي تتحول بعدها إلى (عَلَقَةً)، ثم تتطور إلى (مُضْغَةً)، ثم (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا)، هذا الترتيب يوافق ما كشفت عنه الأبحاث العلمية في علم الأجنة، حيث تتشكل الهياكل العظمية للجنين في البداية، ثم تبدأ الخلايا العضلية بالالتفاف حول هذه العظام لتكسوها، وتختتم الآية بعبارة (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، في إشارة إلى نفخ الروح في الجنين، مما يجعله كائنًا حيًا يمتلك إرادة وإحساسًا، وتختتم الآية بتمجيد وتعظيم الله تعالى ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، وهو اعتراف بعظمة هذا الخلق ودقته.
كما قال الدكتور محمود صديق، نائب رئيس جامعة الأزهر، لا يزال العلم إلى يومنا هذا لم يكتشف كل ما أثبته القرآن الكريم من إعجاز علمي، وهذه الحقيقة أثبتها قول الحق سبحانه وتعالى: "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً"، وسيظل حديث القرآن الكريم عن خلق الإنسان معجزاً، وهذه الحقيقة عبر عنها الحق سبحانه وتعالى في قوله: “وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ”.
وقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة علمية أخرى وهي أن الله جعل الإنسان في مكان آمن ومحكم لا مثيل له، قال تعالى:" ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ"، تظهر هذه الآية دقة الوصف القرآني، فـ"قرار مكين" هو الرحم، الذي يعد البيئة المثالية والآمنة لتطور الجنين، وعلى الرغم من التطور العلمي الهائل، لا يزال العلماء عاجزين عن ابتكار رحم صناعي يماثل في دقته وفعاليته الرحم الطبيعي، وهذا يعد دليلاً على إعجاز القرآن الكريم وسبقه العلمي، الذي لايزال العلم عاجزا أمام الحقائق العلمية التي سبق بها.
وأكد نائب رئيس جامعة الأزهر، أن التعبير القرآني في قوله تعالى: "فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً"، يعد إعجازا علميا واضحا؛ جيث إن هذا الوصف القرآني يتطابق تمامًا مع ما تظهره الفحوصات والأشعة للجنين في هذه المرحلة، حيث يبدو وكأنه قطعة لحم ممضوغة، وهذا التطابق الدقيق بين الوصف القرآني وما كشفه العلم الحديث يثبت عظمة القرآن الكريم وروعته في التعبير، ويعد دليلاً على أنه كلام الحق سبحانه وتعالى، وفي سياق الإعجاز القرآني حول خلق الإنسان أيضا، جاء قوله تعالى: "فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا"، فقد كان العلماء يظنون أن تكوّن اللحم يسبق العظام، ولكن مع تطور العلم ، اكتشفوا الحقيقة التي أخبر عنها القرآن الكريم قبل أكثر من 1400 عام، وهي أن العظام تتخلق أولًا، ثم يأتي اللحم ليكسوها.
وأشار الدكتور صديق إلى أن السنة النبوية الشريفة قد سبقت العلم الحديث في الحديث عن الإعجاز في خلق الإنسان، وقد جاء هذا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّه خُلقَ كلُّ إنسانٍ من بني آدمَ على ستِّينَ وثلاثمائةِ مِفصلٍ"، وقد ظل هذا العدد لغزًا لم يكتشفه العلم الحديث إلا في عام 2006م، عندما تمكن العلماء من تحديدها على النحو التالي: ١٤٧فصل في العمود الفقري، و١٥ مفصل في الحوض، و٨٨ مفصل في الأطراف السفلية للإنسان، و٨٦ مفصل في الأطراف العلوية منه، و٢٠ مفصل في الرأس، مما يؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلقى الوحي من الله، وأن ما جاء به من حقائق علمية لا يمكن أن يكون من عند البشر.
يذكر أن ملتقى "التفسير ووجوه الإعجاز القرآني "يُعقد الأحد من كل أسبوع في رحاب الجامع الأزهر الشريف، تحت رعاية فضيلة الإمام الأكبر وبتوجيهات من فضيلة الدكتور محمد الضويني وكيل الأزهر الشريف، ويهدف الملتقى إلى إبراز المعاني والأسرار العلمية الموجودة في القرآن الكريم، ويستضيف نخبة من العلماء والمتخصصين.