الجزيرة:
2025-07-29@10:09:14 GMT

هندسة الانتصار.. كيف خطّطت حماس لمشاهد ما بعد الحرب؟

تاريخ النشر: 20th, January 2025 GMT

هندسة الانتصار.. كيف خطّطت حماس لمشاهد ما بعد الحرب؟

لطالما ملأت هوليود رؤوسنا بحكاياتها عن أبطال الغرب؛ فترى أحدهم منقذا للعالم من غَزو فضائي في إحدى الحكايات، وفي أخرى، نشاهد بسالة البطل وقدراته الخارقة في مواجهة هجمات الأشرار (من الشيوعيين أو النازيين أو غيرهم)، التي كادت تُهلك العالم لولا حضور المنقذ الأبيض. ودائمًا ما يواجه هذا البطل صراعًا مريرًا، يتأرجح خلاله بين النصر والانكسار، ويكون الصمود مفتاحا لغلبته في الأخير، بما يأذن بمشهد ختامي مؤثر تتقن هوليود إخراجه.

يحدث ذلك في الأفلام وفق سيناريو محسوب ومحدد مسبقًا على الورق، وليس مقبولًا بأي حال أن يحيد طاقم العمل عن خطوطه الأساسية، فمن شأن ذلك أن يفسد ذروة الختام. ولكن في مقابل تلك الصورة السينمائية المحبوكة والمغلفة بالبروباغندا، غالبا ما تكون مشاهد البطولة الحقيقية على الأرض أكثر بساطة وواقعية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2القسام في شوارع غزة من جديد.. ما دلالات عروض النصر؟list 2 of 2أبو عبيدة في خطاب النصر.. البلاغة من فوهة البندقيةend of list

أحد تلك المشاهد بلا شك هو ما رأيناه في قطاع غزة، في الساعات الأولى لسريان وقف النار من جانب المقاومة الفلسطينية وشعبها في غزة، وهو مشهد على واقعيته لم يخل من ملحمية واضحة. خرج مقاتلو كتائب القسام بكامل عتادهم العسكري مرتدين زيهم الأخضر الشهير، نظيفا ومرتبا وزاهيا، وكأنهم متوجهون إلى مهرجان أو احتفالية، وسرعان ما انتشر هؤلاء المقاتلون في جميع أنحاء غزة ببراعة ودقة وتنظيم فائقَين، وظهرت معهم سيارات الدفع الرباعي البيضاء ناصعة.

إعلان

بالنظر إلى أن ذلك كله حدث مباشرة بعد 470 يوما من حرب الإبادة التي لم تتورع فيها إسرائيل عن استخدام طريقة مهما كانت لإخضاع شعب غزة ومقاومتها، يبدو ذلك المشهد سينمائيا بامتياز. وللحقيقة، من الواضح أن حركة حماس والمقاومة الفلسطينية تعمدت إظهاره بتلك الصورة لتمرير رسائل مبطنة إلى العالم وبشكل أكثر تحديدا إلى الإسرائيليين، رسائل حول قوة وصلابة مقاتليها بعد هذه الجولة من القتال المطول، وحول حجم التفاف الشعب الغزي حولها رغم إمعان إسرائيل في التنكيل به لدفعه لنبذ المقاومة، وأخيرا حول حيوية وكفاءة تنظيمها الذي أدار المشهد بحرفية بالغة، وعناية مثيرة للانتباه بأدق التفاصيل وأصغرها.

كما هي العادة.. التخطيط والاهتمام بأدق التفاصيل

في الحقيقة كان الاهتمام بالتفاصيل دائما أحد السمات المميزة لحركة حماس، وفي القلب منها جناحها العسكري، كتائب عز الدين القسام. ويرجع ذلك إلى إدراكها أن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وكما أنه صراع حول الأهداف والقضايا الكبرى، فهو أيضا صراع حول السردية والرواية وحتى التفاصيل الصغيرة. تلك التفاصيل، التي تظهر في الصور ومقاطع الفيديو والرسائل الموجهة وغيرها، غالبا ما تكون قادرة على مخاطبة مخاوف الإسرائيليين وغرائزهم واللعب على أوتار انقساماتهم، مما يعكس فهما "مزعجا" من قبل الفلسطينيين لطبيعة خصمهم ودوافعه ومحركاته الأساسية.

وإذا ما عدنا زمنيا إلى الوراء، بإمكاننا أن نعثر على شواهد عدة على ذلك الاهتمام بالتفاصيل ليس فقط في المشاهد والرسائل الإعلامية ولكن في تنظيم الفعل المقاوم نفسه. من ذلك على سبيل المثال، اللمسات النهائية التي وضعتها المقاومة على عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في وقت كانت فيه إسرائيل تتخبط داخليا على خلفية توترات وانقسامات سياسية طويلة، بسبب مجموعة التشريعات التي دفع بها رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو ضمن خطته "للإصلاح القضائي" التي قابلت رفضا واسعا من قبل الكثير من الإسرائيليين.

إعلان

وكان من شأن هذه الاضطرابات الداخلية أن توفر ما يشبه "الضوضاء الخلفية"، التي عملت على تشتيت انتباه الاستخبارات وأجهزة الأمن الإسرائيلية عن نية حماس وتحركاتها.

سبق ذلك استثمار حماس في البنية التحتية للأنفاق عبر إنشاء شبكة واسعة من الممرات تحت الأرض، تمكّنها من شنّ هجمات مفاجئة، ومن المؤكد أن هذه المرافق ساهمت في إخفاء الاستعدادات وتعزيز عنصر المباغتة، سواء خلال هجوم طوفان الأقصى أو فيما تلاه من المعارك الحضرية داخل القطاع.

كما اتضحت قدرة المقاومة، خلال شهور الحرب، على استغلال بيئة المعركة وتعقيداتها على النحو الأمثل، رغم فارق القدرات بين الطرفين، وهو أمر لا يتأتى إلا من خلال الاستعداد الدقيق بعيد المدى، وفق ما يشرح زميل معهد واشنطن، مايكل نايتس، مشيرا أن حماس أعدت على مدار 15 عاما دفاعا عميقا يدمج التحصينات تحت الأرض وفوقها، فضلًا عن تجهيز حقول الألغام المحتملة والعبوات الناسفة المرتجلة والألغام المضادة للدروع والمباني المفخخة، كما نجحت في تعقيد بيئة العمليات بصورة أكبر بعد احتجازها لأسرى إسرائيليين، مما دفع الداخل الإسرائيلي إلى حالة انقسام بشأن مصير هؤلاء الأسرى طوال مدة الحرب.

حماس أعدّت على مدار 15 عاما دفاعا عميقا يدمج التحصينات تحت الأرض وفوقها (الجزيرة) الحرب كوجه للسياسة

وعلاوة على الشق العملياتي، أدركت المقاومة الفلسطينية منذ اليوم الأول أن الاحتلال سوف يرد بشراسة على هجوم طوفان الأقصى، وتجهزت للصمود أمامه دون نسيان تحقيق أكبر استفادة سياسية ممكنة لقضيتها حتى وهي تخوض الحرب الأكثر شراسة في تاريخها.

وفي هذا الصدد، تمكنت المقاومة والمتعاطفون معها في الخارج من تحقيق إنجازات على محاور عدة، منها النجاح في ضرب سياج من العزلة الدولية حول إسرائيل، واكتساب التعاطف الشعبي خاصة بين الفئات الأصغر عمرا في الغرب، والتي سوف تشكّل الكتلة الانتخابية الأكبر في بلدانها في غضون السنوات القادمة، ومن المرجح أن يكون لها دور في الحد من الدعم الغربي غير المشروط لدولة الاحتلال في المستقبل في حال تحول هذا التعاطف الشعبي إلى قرار انتخابي يوجّه قرار الناخب.

إعلان

كما يمكن ملاحظة أثر الطوفان في إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة المناقشات العربية والدولية.

لقد كان كل يوم، بل كل ساعة، من الصمود للمقاومة وشعبها في غزة يسقط المزيد من الأصباغ عن وجه إسرائيل ويكشف المزيد من الحقائق على معاناة الفلسطينيين وعدالة قضيتهم. وهو ما يشير إليه "جون ألترمان"، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، منوهًا أن حماس لا ترى النصر في عام واحد أو 5 أعوام، بل من خلال الانخراط في عقود من النضال، الذي يزيد من التضامن الفلسطيني ويزيد من عزلة إسرائيل.

وبتعبير آخر، يمكن القول إن ما قامت به المقاومة، يتقاطع مع مفاهيم المنظّر البروسي الشهير "كلاوزفيتز"، الذي رأى في الحرب وجها آخر للسياسة أو شكلا من أشكال العمل السياسي (ونعني هنا العمل السياسي بمفهومه الشامل وليس بمفهومه الحزبي الضيق)، وتمكنت بذلك من إعادة توجيه القوة المفرطة التي يوجهها الاحتلال ضد قطاع غزة كي تعمل ضده، مستغلة تخبط القيادات الإسرائيلية وافتقارها إلى الرؤية بشأن هدفها من الحرب، وافتقادها القدرة على تحقيق ما تريد.

ورغم امتلاك إسرائيل اليد العليا من حيث التقنيات والأسلحة والدعم الغربي غير المشروط، فإنها كانت تتحرك في الأخير على الرقعة التي صنعتها المقاومة الفلسطينية وصممتها بنفسها. وكأن ما دار هو لعبة شطرنج بين خصمين، تمكّن خلالها أحدهما من توجيه الآخر نحو نقلات إجبارية ودفعه إلى التحرك وفق ما يريد.

وكان الختام لذلك، هو قبول إسرائيل بوقف الحرب وتبادل الأسرى مرغمة لا طائعة بعد أشهر من رفضها الصفقة نفسها، تلك الصفقة التي وُصفت بـ"صفقة الاستسلام" من قبل بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية وقادتها الذين اعتبروها إعلان هزيمة لإسرائيل، فاستقال على أثرها الوزير اليميني المتطرف إيتمار بن غفير وحزبه من الحكومة والكنيست الإسرائيلي، فيما اعتبرها وزير المالية اليميني بتسلئيل سموتريتش صفقة "كارثية".

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (وسط) ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، ورئيس الأركان هرتسي هاليفي (وكالات) رسائل حماس

نخلص من ذلك إلى أن قوة حماس تمثلت بشكل أساسي في تقديرها وحسابها لكل خطوة، واعتبارها أن ما هو فرعي يقع على الدرجة نفسها من الأهمية التي يحظى بها الرئيسي، وكان ذلك سبيلها لتحقيق التوازن (بل والتفوق النسبي) بشكلٍ ما أمام فارق القوة بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، مما يدفعنا بالضرورة إلى إعادة النظر في المشاهد التي أعقبت وقف إطلاق النار في غزة، واعتبارها أيضًا جزءًا ضمن أهداف حماس وإستراتيجيتها طويلة النفس لمجابهة دولة الاحتلال.

إعلان

وفيما يبدو، أرادت المقاومة -في المقام الأول- أن تثبت لإسرائيل، أن ما أعلنه نتنياهو في وقت سابق، حول القضاء على حماس وتدمير قدراتها العسكرية، باعتباره هدفا لحربه الضارية على القطاع ومسوغا لتدميره، هو أمر لم يتحقق، والدليل، تمكّن أفراد حماس من استعادة السيطرة على القطاع في غضون دقائق من إعلان وقف إطلاق النار، وظهورهم بالزي الموحد البرّاق والمركبات العسكرية والنشاط الجمّ، وكأنهم لم يتأثروا بخوض هذه الحرب الطويلة بتاتا، وفي ذلك رسالة إلى عدوهم بأنهم على استعداد لتحمل حرب أطول إذا ما اقتضت الظروف.

كما حملت هذه المشاهد نوعا من استعراض القوة، الذي يحطم أي ادعاء نصر يزعمه نتنياهو أمام شعبه، كما يساهم في تدني الروح المعنوية لعدوهم الإسرائيلي، الذي استُهلك ماديا وبشريا ونفسيا على مدار هذه الشهور، دون تحقيق أي من أهدافه الرئيسية. وفي السياق ذاته، ينفي ظهور أفراد القسام في وسط غزة واستقبالهم بهذه الحفاوة من قبل الأهالي، الشائعات التي تداولتها بعض وسائل الإعلام الغربية، والتي زعمت خلالها أن أهالي القطاع يحمّلون المقاومة وزر تعرضهم للقصف الإسرائيلي على مدار هذه الشهور، كما يُبطل ذلك أي محاولات للوقيعة بين القسام وبين حاضنتها الشعبية في غزة.

أكثر من ذلك ينطوي مشهد غزة الموحدة -على ذلك النحو- على رسالة أخرى للاحتلال، مفادها أن قوة القسام البشرية قابلة للتجدد والتعويض بل وللزيادة مما يبدد اعتقاد الاحتلال في إمكانية القضاء على المقاومة، عبر إسقاطه أكبر عدد من الشهداء وسط صفوفها. وأكثر من ذلك تُظهر الترتيبات والتحركات المنظمة من أفراد الحركة داخل القطاع، أن المقاومة الفلسطينية نجحت ولو نسبيا في تجديد هيكلها القيادي بعد اغتيال الاحتلال لعدد من قادتها البارزين وعلى رأسهم إسماعيل هنية ويحيى السنوار، وهو ما يهدم نظرية تقويض الحركة من خلال استهداف قادتها.

إعلان

وفي الختام، جاء تسليم الأسرى، ليتوج رسائل حماس السياسية في مشهد النصر. ظهرت الأسيرات الإسرائيليات الثلاث في أفضل هيئة ممكنة، بثياب نظيفة وضفائر معقودة بعناية ووجوه مطمئنة لا توحي إطلاقا بقضائهن 15 شهرا كاملة في الأسر تحت وطأة القصف والحصار والتجويع. ناهيك بالهدايا التي وزعّها عليهن رجالُ القسّام وشملت خريطة لقطاع غزة وشهادة إفراج وصورا تذكارية من فترة الأسر.

يشير ذلك المشهد أن الأسيرات حظين بأفضل معاملة ممكنة وفق الظروف المتاحة، تماما كما تأمر الشريعة الإسلامية الغراء. تتناقض تلك الصورة تماما مع صورة الأسيرة الفلسطينية المفرج عنها من سجون الاحتلال خالدة جرار، إذ بدت مذهولة ومنهكة بشكل واضح وبحاجة إلى من يتناول يدها ويسندها خلال سيرها. وتكفي هذه المقارنة كي تبرهن للعالم على الفارق الإنساني والأخلاقي بين الطرفين، لمن أراد أن ينتبه أو يعتبر.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات أبعاد المقاومة الفلسطینیة على مدار من ذلک فی غزة من قبل

إقرأ أيضاً:

المقاومة ليست خيارا ديمقراطيا

في زمن خُلطت فيه المفاهيم، وغُيّبت فيه المعايير، باتت المقاومة تُساءل كما تُساءل الحكومات، ويُحاكم المقاوم كما يُحاكم الفاسد، ويُطلب منه ما لا يُطلب حتى من المحتل. وهي مفارقة أخلاقية قبل أن تكون سياسية.

المقاومة، في جوهرها، ليست خيارا ديمقراطيا، ولا خاضعة لمعادلات التصويت وصناديق الاقتراع، ولا ينتظر أصحابها نتائج استطلاع رأي ليقرروا ما إذا كان من "اللائق" أن يقاوموا أم لا. هذا المنطق، في ذاته، يحمل كارثة فكرية وإنسانية؛ لأنك ببساطة تساوي بين شعب واقع تحت الاحتلال، ومحتلٍ غاصبٍ يستبيح الأرض والإنسان.

من قرر أن يقاوم لا يحتاج إلى تفويض من أحد، ولا يستأذن المقهورين في الدفاع عنهم.. لا ينتظر أن يُنصَّب رسميّا على مشروع الدفاع، فالمقاومة ليست وظيفة تُرشَّح لها، بل هي فعل ينبثق من أعماق الروح الحرة التي ترفض الذل. حتى لو قرر الناس كلهم أن يرضخوا، فمن حق الفرد أن يتمرد، ولو خضع الملايين تحت نير الاستعمار، فصوت واحد يصرخ في وجه الباطل كافٍ ليبدأ التغيير.

يُساءل المقاوم عن مصير المدنيين، بينما يُعفى المحتل من أي مساءلة وهو يقصف البيوت، ويدفن العائلات تحت الأنقاض، ويهدم المدارس والمساجد والمستشفيات
تاريخ الأمم يعلّمنا أن التحرر لا يُنتزع بتوقيع العرائض، ولا يُنال ببلاغات الشجب وحدها.. لم يُقم ثوار الجزائر استفتاء عاما قبل أن يبدأوا ثورتهم ضد المستعمر الفرنسي، ولم ينظّم الفيتناميون مؤتمرات حوار قبل أن يخرجوا لمواجهة المحتل الأمريكي، ولم يكن الجيش الجمهوري الأيرلندي بحاجة إلى أغلبية برلمانية لكي يدافع عن حقوق شعبه. هذه النماذج وغيرها لم تفكر بمفردات "التوافق الوطني" تحت وطأة الاحتلال؛ لأنها ببساطة كانت تعرف أن الحرية لا تأتي على طبق من فضة، ولا تهبط عبر البريد السياسي.

في المقابل، نحن نعيش اليوم حالة غريبة من "الترف السياسي"، حيث يُطلب من المقاوم أن يقدم تقريرا شاملا عن جدوى فعله، وتكلفته، وتداعياته الاقتصادية والدبلوماسية. يُساءل المقاوم عن مصير المدنيين، بينما يُعفى المحتل من أي مساءلة وهو يقصف البيوت، ويدفن العائلات تحت الأنقاض، ويهدم المدارس والمساجد والمستشفيات. يُطلب من المقاوم أن "يُراعي"، وأن "يتأنى"، وأن "يفكر بعقل الدولة"، مع أنه لا يملك دولة أصلا، ولا أرضا آمنة، ولا سيادة على شبر واحد من بلاده.

صحيح أننا نحب أن يُراعي المقاوم شعبه، وأن يحفظ ما استطاع من الأرواح، ولكن لا يمكن أن نحمّله وحده مسؤولية جرائم عدوه، ولا يجوز أن نخضعه لمقاييس الدولة المستقرة وهو يواجه كيانا عدوانيّا مسلحا مدعوما من أقوى القوى على وجه الأرض. من الظلم أن يُساءل من يدافع، بينما يُترك من يعتدي.

ليست القضية هنا أن نقدّس المقاومة أو نمنع انتقادها، ولكن أن نُعيد الأمور إلى نصابها، أن نفهم أن الاحتلال هو أصل الجريمة، وأن كل ما يتبعه من دم ودمار، هو نتيجة مباشرة له. ومن الظلم أن تُلقى الفاتورة على من يقاوم بدل أن تُحاسب من يحتل
ثم ما البديل؟ هل يُطلب من الناس أن ينتظروا رحمة المحتل؟ أم أن يقيموا مؤتمرات "سلام داخلي" وهو يذبح أبناءهم؟ هل المطلوب أن يُجروا انتخابات تحت الحراب ليقرروا إن كانوا يحبون المقاومة أم لا؟! وهل يفترض بالمقاوم أن يختبر شعبيته تحت القصف؟ هذا العبث لا يُقال في سياق الاحتلال، بل في أروقة دول تعيش استقرارا نسبيّا وتملِك قرارها السيادي، أما نحن، فالمعادلة مختلفة تماما.

أحيانا، حين تكثر الأصوات التي تُسائل المقاومة، أشعر أن البعض يتمنى لو لم تكن هناك مقاومة أصلا، كي لا يُحرَج أمام العالم، أو كي لا يضطر لتبرير موقفه. وهنا يصبح الخطاب الإنساني أداة للهروب من المعركة، بدل أن يكون حافزا لها. نريد مقاوما بلا معركة، ونضالا بلا ثمن، وتحررا بلا مواجهة. وهذا لا يحدث إلا في الخيال أو في كتب الأطفال.

إن المقاومة، بطبيعتها، مكلفة، وكل مقاومة حقيقية تحمل في طياتها ثمنا باهظا. هذا لا يعني أن نستسلم للفجائع، ولا أن نحتفي بالألم، ولكن أن نُدرك أن الصراع مع المحتل ليس مباراة متكافئة، بل هو معركة وجود، ومن يطالب المقاوم بأن يتصرف كما لو أنه يعيش في دولة ذات سيادة فإنه ببساطة لا يفهم معنى الاحتلال.

ليست القضية هنا أن نقدّس المقاومة أو نمنع انتقادها، ولكن أن نُعيد الأمور إلى نصابها، أن نفهم أن الاحتلال هو أصل الجريمة، وأن كل ما يتبعه من دم ودمار، هو نتيجة مباشرة له. ومن الظلم أن تُلقى الفاتورة على من يقاوم بدل أن تُحاسب من يحتل.

إن من حق كل شعب واقع تحت الاحتلال أن يختار طريقه نحو الحرية، ومن حقه أن يخطئ، وأن يتعلم، ولكن لا أحد يملك الحق أن يسلبه هذا الخيار باسم الديمقراطية أو الواقعية السياسية؛ لأن الحرية لا تُقاس بحسابات صندوق، ولا تُمنح بإجماع النخب، بل تنتزع بقرار فردٍ يرفض أن يعيش عبدا.

مقالات مشابهة

  • الفظائع التي لن ينساها التاريخ
  • رئيس شعبة العمليات السابق في جيش الاحتلال: العالم يتوحد ضد “إسرائيل” وذاهبون لفشل مطلق
  • المقاومة ليست خيارا ديمقراطيا
  • كيف يستخدم الاحتلال الجغرافيا ضمن هندسة تجويع الغزيين؟
  • ماذا وراء تهديد إسرائيل بـضغط عسكري حقيقي في غزة؟
  • قيادي في "حماس": لا نستبعد استهدافا جديدا لقادتنا بعد فشل المفاوضات
  • حماس:  لجوء الاحتلال لإنزال مساعدات جوًا فوق مناطق بغزة خدعة لذر الرماد في العيون
  • كيف تعاطت المقاومة الفلسطينية مع التهديدات الإسرائيلية الأميركية؟
  • تضحيات النصر القادم
  • حماس تفعل بروتوكول الموت | هل بدأ العد التنازلي للأسرى الإسرائيليين؟