نظرية جديدة لتفسير آلية اختزان الذكريات في العقل البشري
تاريخ النشر: 22nd, January 2025 GMT
تنقسم ذاكرة العقل البشري إلى شقين رئيسيين، أولهما ذاكرة المدى القصير التي تعرف أيضا باسم الذاكرة النشطة، ويتمثل دورها في اختزان كمية محدودة من المعلومات في العقل دون مراجعة على أن تظل متاحة للاسترجاع لفترة زمنية محدودة. وهناك ذاكرة المدى الطويل، وهي التي تقوم بمعالجة الذكريات والاحتفاظ بها إلى أجل غير مسمى.
ويقول العلماء: إن من بين خصائص ذاكرة المدى الطويل أنها تتميز بسعة غير محدودة، وتحتفظ بالذكريات لفترات طويلة دون أن تفقدها، ويسهل استدعاء هذه الذكريات عند الاحتياج إليها. وعادة ما تنقسم ذاكرة المدى الطويل إلى عدة أنواع مثل الذاكرة الصريحة التي تختزن الذكريات والمعلومات التي يتم استرجاعها بوعي، والذاكرة العرضية التي تحتفظ بمعلومات عن الأحداث التي تمر بالإنسان على امتداد حياته، والذاكرة الدلالية التي تختزن معلومات يتم استخدامها في الحياة اليومية مثل معاني الكلمات وطريقة التعامل مع مختلف المعطيات في البيئة المحيطة.
وتضم ذاكرة المدى الطويل أيضا الذاكرة الإجرائية التي تتعلق بالمهارات الحركية للإنسان مثل ركوب الدراجة أو الكتابة بالقلم أو السباحة وغيرها، وهناك أيضا الذاكرة الترابطية التي تسترجع ذكريات محددة من خلال ارتباطها بسلوكيات أو مواقف قديمة بغرض تطويرها واكتساب خبرات جديدة.
وعند تعامل العقل مع المدخلات اليومية، فإنه يقوم باختزان المعلومات في البداية على ذاكرة المدى القصير لبرهة محدودة من الوقت ثم يتخلص من المعلومات غير المهمة تباعا لإفساح المجال لإدخال معلومات جديدة علما بأن الذكريات المهمة تنتقل من ذاكرة المدى القصير إلى المدى الطويل، حيث يتم الاحتفاظ بها لاسترجاعها عند الحاجة إليها. ولكن فريقا من الباحثين من معهد ماكس بلانك بولاية فلوريدا الأمريكية توصل إلى نظرية جديدة تقول إنه من الممكن اختزان الذكريات في ذاكرة المدى الطويل مباشرة دون الحاجة لمرورها على ذاكرة المدى القصير أولا، مما يفتح مجالا جديدا لفهم آلية عمل ذاكرة الإنسان ومعرفة الظروف التي تحيط بمنظومة اختزان الذكريات في العقل البشري.
ويقول الباحث ميونج يون شين رئيس فريق الدراسة: إن «هذا الاكتشاف يماثل العثور على ممر سري يفضي إلى الذاكرة الدائمة داخل العقل»، مضيفا في تصريحات للموقع الإلكتروني «سايتيك ديلي» المتخصص في الأبحاث العلمية أن «النظريات السائدة تشير إلى وجود ممر واحد لانتقال المعلومات من ذاكرة المدى القصير إلى الطويل، ولكننا الآن لدينا دلائل قوية تشير إلى وجود مسارين على الأقل لتكوين الذكريات يمر أحدهما عبر ذاكرة المدى القصير، ويفضي الآخر لذاكرة المدى الطويل مباشرة، وهو ما يدل على أن العقل البشري أكثر مرونة عما كان يعتقد من قبل».
وتركز الدراسة على أنزيم معين داخل الخلايا العصبية يطلق عليه اسم CaMKll ويرتبط بتكوين ذكريات المدى القصير. وكان العلماء في السابق يعتمدون على علم البصريات الوراثي لتعطيل عمل هذا الأنزيم بشكل مؤقت. وبنفس الطريقة، اعتمد الفريق البحثي في معهد ماكس بلانك على الضوء لتعطيل آلية تكوين ذكريات المدى القصير داخل عقول الفئران. ومن المعروف أن الفئران تفضل الأماكن المظلمة. وإذا ما أتيحت لها الفرصة، فإنها تتجه إلى المكان المظلم بدلا من المكان المضيء، غير أنه إذا تعرض الفأر لتجربة مخيفة في مكان مظلم، فإن هذه الذكرى المرعبة سوف تعدل سلوكياته وتجعله يتجنب الاتجاه إلى الأماكن المظلمة في المستقبل.
وبحسب موقع «سايتيك ديلي»، لجأ الفريق البحثي إلى تعريض فئران التجارب إلى تجربة مفزعة في أماكن مظلمة، ثم استخدموا الضوء للحيلولة دون اختزان هذا الحدث في ذاكرة المدى القصير لدى الفئران. وتبين من التجربة أنه بعد انقضاء ساعة، عادت الفئران للولوج إلى الأماكن المظلمة دون خوف بمعنى أن الفريق البحثي نجح بالفعل في منع تخزين هذا الحدث في ذاكرة المدى القصير. ولكن الأمر الذي أدهش العلماء بعد ذلك أنه بعد مرور عدة أيام أو أسبوع أو شهر، تغيرت سلوكيات فئران التجارب وأصبحت تمتنع عن دخول نفس الأماكن المظلمة التي سبق أن تعرضت فيها لتجربة مخيفة، وهو ما يدل بشكل قاطع على أن الشعور بالخوف من الظلام، الذي لم يتم اختزانه على ذاكرة المدى القصير بعد تدخل العلماء، قد انتقل بشكل مباشر إلى ذاكرة المدى الطويل لدى الفئران، وهو ما أتاح لهذه الحيوانات استرجاع الشعور بالخوف بعد عدة أيام أو أسابيع أو حتى أشهر.
ويقول الباحث شين: «في البداية شعرنا بالدهشة من هذه الملاحظة لأنها لا تتفق مع أفكارنا المسبقة بشأن طريقة تكون الذكريات، ولم نكن نعتقد أنه من الممكن اختزان المعلومات في ذاكرة المدى الطويل دون الاحتفاظ بها لفترة في ذاكرة المدى القصير، غير انه عندما قمنا بتكرار التجربة عدة مرات باستخدام أدوات بحثية مختلفة، استطعنا التحقق من صحة هذه النتيجة وأصبحنا على قناعة». وأوضح شين قائلا: «لقد تبين لنا أن تكون الذكريات طويلة المدى ليس عملية خطية تتطلب مرور المعلومة على ذاكرة المدى القصير أولا، إنما هي عملية متوازية تسمح بتجاوز ذاكرة المدى القصير في بعض الأحيان».
ويقول الباحث ريوهي ياسودا عضو فريق الدراسة في معهد ماكس بلانك: إن «هذه النتائج جعلتنا نعيد النظر في فهمنا لتكوين الذكريات، ونعكف الآن على محاولة فهم الظروف التي تؤدي إلى تكون ذكريات المدى الطويل مباشرة، علما بان هذا البحث العلمي قد يساعد في إيجاد طرق للاحتفاظ بالمعلومات على ذاكرة المدى الطويل في حالة تضرر ذاكرة المدى القصير لدى البعض جراء تقدم السن أو بسبب مشكلات صحية تؤثر على الإدراك العقلي».
وكالة الأنباء الألمانية «د ب أ»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العقل البشری على أن
إقرأ أيضاً:
الأمل في الأيدي.. طلبة الطب البشري بغزة ينشرون الوعي الطبي المجتمعي
غزة- من دون تردد، اندفع محمد الشيخ نحو خيمة في "مدرسة غزة الجديدة"، اندلعت فيها النيران نتيجة غارة جوية إسرائيلية أوقعت شهداء وجرحى، وكان لتوه قد أنهى دورة تدريبية في الإسعافات الأولية ومهارات التدخل مع الضحايا.
والشيخ (22 عاما) نازح في هذه المدرسة ويقيم فيها مع أسرته منذ بضعة شهور إثر تدمير منزلهم، ويقول للجزيرة نت "كنت على بعد أمتار قليلة من الغارة التي استهدفت خيمة من بين أخرى كثيرة متلاصقة في ساحة المدرسة، ونتج عنها انفجار هائل وحريق، وارتقى شهيدان وجرح 7 آخرون".
كانت هذه أول تجربة عملية للشيخ، في تقديم إسعافات أولية لجريح منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عقب السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
"بإمكانك إنقاذ حياة"، وقد لمس الشيخ بنفسه قيمة الدورة التدريبية التي انخرط فيها تحت هذا العنوان، عندما تدخل مع أحد جرحى قصف الخيمة وكان ينزف بشدة، ويقول "استحضرت ما تعلمته، وضغطت بشكل مباشر على مكان النزيف باستخدام قطعة قماش نظيفة، ولم أسمح لأحد بتحريك الجريح من مكانه خشية أن يكون مصابا بكسور أو أن يؤدي نقله الخاطئ إلى تفاقم إصابته، ومكثت بجانبه حتى حضرت سيارة الإسعاف".
بعد هذه التجربة أدرك قيمة ما تعلمه، وأهمية تعميم التوعية الطبية بالإسعافات الأولية وآليات التدخل الصحيح مع ضحايا الحرب من جرحى وحتى مرضى في الخيام ومراكز الإيواء.
والشيخ واحد من بين نحو 100 شاب وفتاة، تلقوا تدريبات متقدمة ضمن مشروع "الأمل في الأيدي"، وهو مبادرة تطوعية مجانية لطلبة في كلية الطب البشري في جامعة الأزهر بمدينة غزة.
ويضم هذا المشروع 16 متطوعا، بينهم 9 طلاب و7 طالبات من مستويات مختلفة في كلية الطب، اجتمعوا على فكرة "توعية المجتمع طبيا". ويقول ياسر أبو مريم للجزيرة نت إن الفكرة كانت وليدة المجازر اليومية التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في الشوارع والمدارس وخيام النازحين ومراكز الإيواء، وشكلت ضغطا هائلا على المنظومة الصحية الفلسطينية.
إعلانوكانت "مجزرة مطعم التايلندي"، التي ارتكبتها قوات الاحتلال قبل بضعة أسابيع، وأودت بحياة عدد كبير من الشهداء وأوقعت عشرات الجرحى، في منطقة تسوق مكتظة في شارع الوحدة بمدينة غزة، دافعا لهؤلاء الطلبة المتطوعين، الذين صودف وجود بعضهم على مقربة من مكانها، وكان لافتا بالنسبة لهم عدم قدرة الحاضرين على التعامل مع الجرحى.
ويقول أبو مريم (21 عاما)، وهو طالب بالسنة الثالثة في كلية الطب البشري بجامعة الأزهر في غزة، التي تعرضت للتدمير خلال الحرب، "كثيرون يتعاملون مع الجرحى باندفاع لا يستند إلى معرفة طبية، ورغم نيتهم الصادقة والطيبة، فإن تدخلهم الخاطئ قد يضر ولا يفيد، وربما يؤدي إلى فقدان الجريح لحياته".
إلى جانب دراسته للطب، يحمل أبو مريم شهادات تدريب في الإسعافات الأولية حصل عليها من طبيب نرويجي متطوع زار غزة ضمن وفد أجنبي قبل اندلاع الحرب، ومن جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وله تجارب سابقة في المشاركة في مبادرات خيرية لتدريب طلبة المدارس، ورواد المساجد، وفي مؤسسات مجتمعية بمدينة غزة.
وعقب اندلاع الحرب، اضطر للنزوح مع أسرته نحو 10 مرات في المدينة ونحو مناطق جنوب القطاع، وتطوع في "نقطة طبية" داخل مدرسة كانوا يقيمون بها في منطقة "قيزان النجار" بمدينة خان يونس جنوب القطاع، وعندما أجبروا على النزوح نحو مدينة رفح المجاورة تطوع في "نقطة طبية" داخل مخيم النزوح.
وخلال تطوعه، اكتسب أبو مريم خبرات يقول إنه ما كان ليكتسبها في هذه المرحلة من عمره من دون تعامله المباشر مع جرحى الحرب، علاوة على حالات مرضية وبعضها خطيرة، ناجمة عن تداعيات العدوان والحصار وسوء التغذية وقلة الدواء.
وعندما عاد إلى شمال القطاع عقب اتفاق وقف إطلاق النار في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، اجتمع شمل أبو مريم مع عدد من زملائه من طالبات وطلاب كلية الطب، وكان من النواة الأولى التي أسست مشروع "الأمل في الأيدي"، لإيمانه بأهمية نشر وتعزيز الوعي الطبي المجتمعي، ومهارات الإسعافات الأولية، ودورها في تدعيم أداء المنظومة الصحية، وتصحيح التصرفات الخاطئة الشائعة في التعامل مع مختلف الإصابات ميدانيا.
إعلانويقول أبو مريم إن الاستهداف اللحظي على مدار الساعة وفي كل مكان من جانب قوات الاحتلال، خلال هذه الحرب غير المسبوقة، يستدعي تعليم قطاعات واسعة بهذه المهارات التي قد تكون كفيلة بإنقاذ حياة جرحى أو مرضى في حال التدخل السليم وفي الوقت المناسب.
اهتمام واسع
ومن الميدان إلى المستشفيات والمنازل، يهتم هذا المشروع التطوعي بنشر مفاهيم "الإسعاف النفسي الأولي"، الذي يهتم بالجريح وذويه في مرحلة الاستشفاء والتعافي. وتقول الطالبة المتطوعة ليان العكلوك (20 عاما) للجزيرة نت إن "شعبنا عظيم ويعاني الويلات جراء هذه الحرب ويستحق من كل منا أن يخدمه في مجال تخصصه".
وتدرس العكلوك في السنة الثالثة بكلية الطب البشري بجامعة الأزهر، وهي ابنة طبيب الأعصاب الفلسطيني المعروف أسامة العكلوك، وقد اختارت التطوع ضمن مشروع "الأمل في الأيدي" انطلاقا من إيمانها بأن "الطب مسؤولية إنسانية".
وهي تدرك الضغوط الهائلة على الكوادر الطبية جراء الاستهداف الممنهج من قوات الاحتلال الإسرائيلي للمنظومة الصحية، الذي أدى إلى استشهاد أكثر من 1400 من الأطباء والممرضين والعاملين في القطاع الصحي، واعتقال وجرح عشرات آخرين، وخروج غالبية المستشفيات والمراكز الصحية عن الخدمة.
وتقول إن هدفها وزملائها في المشروع هو نشر التوعية الطبية المجتمعية، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، من أجل تخفيف الضغط عن كاهل الكوادر الطبية في المستشفيات والمرافق الصحية القليلة التي لا تزال تعمل بإمكانيات ضعيفة.
وخلال مشاركتها في الفعاليات التدريبية، لمست العكلوك اهتماما واسعا من المتدربين على تعلم مهارات الإسعافات الأولية، والإسعاف النفسي الأولي، إدراكا منهم بأن الإلمام بهذه المعرفة قد ينقذ حياة جريح أو مريض إذا تم التعامل معه بالطريقة الصحيحة.
إعلانويتشاطر الذكور والإناث هذا الاهتمام، وبحسب العكلوك فإن 50% من الذين انخرطوا في التدريبات كانوا من الفتيات، وبينهن نازحات في الخيام ومراكز الإيواء، وتوضح "لدينا خطة لمواصلة العمل على نشر التوعية على نطاقات أوسع لمواكبة الأعداد الهائلة من الجرحى والمرضى الذين تدهورت حالاتهم الصحية بسبب قلة العلاج والأدوية".