بعد سنوات من الدمار الذي طالها، استعادت المنارة الحدباء، رمز جامع النوري الكبير، مكانتها في سماء الموصل، شامخة بحجارتها الأصلية، تمامًا كما كانت على مدى قرون قبل أن تدمر خلال حقبة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية وما تبعها من معارك طاحنة في المدينة.

ومنذ أن أعلنت القوات العراقية في أواخر عام 2017 دحر التنظيم، أطلقت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) مشروعًا طموحًا استمر 5 أعوام، استهدف إعادة ترميم أبرز المعالم الأثرية في الموصل.

وكان جامع النوري الكبير ومنارته الحدباء في صدارة هذه الجهود، حيث استعادت المئذنة هيئتها الأصلية، وفق ما يؤكده عبد الله محمود، مشرف الهيئة العامة للآثار والتراث على أعمال الترميم، قائلًا: "المنارة اليوم نسخة مطابقة للأصل، بحجارتها القديمة التي لطالما شكلت هوية الموصل".

بدورها، أشادت مديرة اليونسكو، أودري أزولاي، خلال زيارتها للجامع النوري الكبير يوم الأربعاء، بأعمال الترميم التي أنجزت، معربة عن سعادتها برؤية المئذنة البالغ عمرها أكثر من 850 عامًا وهي تعود إلى موقعها في قلب المدينة.

وقالت أزولاي من باحة المسجد: "أن تكون هذه المئذنة واقفة هنا خلفي، يعني أن الموصل استعادت جزءًا من تاريخها وهويتها"، مشيرة إلى أن المشروع اعتمد على "طرق تقليدية" لضمان الحفاظ على الطابع الأثري للمعلم التاريخي.

إعلان

ورغم أن المنارة اشتهرت بكونها مائلة، فإن المهندسين المسؤولين عن الترميم حرصوا على الحفاظ على هذا الميل تمامًا كما كان في ستينيات القرن الماضي، مع تدعيم الأساسات لتجنب أي تزايد في انحنائها مستقبلا، وهو التحدي الذي واجهته منذ تشييدها في القرن الثاني عشر.

ويوضح محمود تفاصيل عملية الترميم قائلًا: "احتاج بدن المئذنة من الداخل إلى 96 ألف طابوقة جديدة، بينما تم استخدام 26 ألف طابوقة قديمة للحفاظ على الطابع التراثي للواجهة الخارجية"، في محاولة لإعادة بناء المئذنة بطريقة تحترم أصالتها التاريخية، مع توفير عوامل الاستدامة لها في العقود المقبلة.

الموصل تستعيد روحها

على وقع أصوات المطارق وأدوات البناء، يواصل مئات العمال وضع اللمسات الأخيرة على أعمدة جامع النوري الكبير وقبّته، فيما تستعد السلطات العراقية لإعلان الافتتاح الرسمي للمعالم الأثرية المرممة خلال الأسابيع المقبلة.

وبعد سنوات من الدمار، يقف هذا الجامع شامخًا ليعيد إلى الموصل بعضًا من روحها المفقودة، وليكون شاهدًا على صمودها في وجه الزمن والخراب.

في قلب المسجد، كان المحراب واحدًا من أبرز الأجزاء التي خضعت لعملية ترميم دقيقة، حيث تم الحفاظ عليه إلى حد كبير باستخدام أحجاره الأصلية، بينما فقد المنبر معظم قطعه التاريخية، ما دفع فرق الترميم إلى البحث عن حلول تعويضية تحافظ على الطابع الأثري للمكان.

وعلى الجانب الآخر من الشارع، يقف عماد زكي، المؤذن السابق لجامع النوري الكبير، مستغرقًا في المشهد الذي طالما انتظره. يقول بحنين واضح: "أقف هنا كل يوم لمدة ساعة، أتابع عملية إعادة إعمار الجامع والمنارة كما كانا سابقًا على الطراز القديم".

ويضيف بتأثر: "نشعر بروحانية عميقة، وكأن شيئًا من الطمأنينة عاد إلى نفوسنا عندما نرى المئذنة تعانق السماء من جديد. أصبح بإمكان أهل الموصل أن ينظروا إليها كما كانوا يفعلون لقرون مضت".

إعلان من الدمار إلى الأمل

يعود تاريخ الكارثة إلى يونيو/حزيران 2017، حين دُمّر جامع النوري ومنارته الحدباء خلال المعارك بين القوات العراقية وتنظيم الدولة الإسلامية، حيث قام مسلحو التنظيم بتفجير المسجد من الداخل، وفقًا لتقارير الجيش العراقي.

كان ذلك المشهد واحدًا من أكثر اللحظات قسوة في ذاكرة المدينة، التي فقدت جزءًا كبيرًا من إرثها في تلك الحرب.

ولم يقتصر الدمار على المسجد، فقد شهدت المدينة القديمة في الموصل تدميرًا هائلًا طال نحو 80% من مبانيها، بينما تمت إزالة أكثر من 12 ألف طن من الأنقاض من المواقع الرئيسية ضمن مشروع إعادة الإعمار الذي تقوده منظمة اليونسكو.

وشمل المشروع أيضًا ترميم كنيسة الطاهرة وكنيسة سيدة الساعة، إضافة إلى 124 منزلًا تراثيًا كانت قد تضررت بشدة خلال المعارك.

في كنيسة الطاهرة، التي يعود تاريخ تدشينها إلى عام 1862، أعادت أعمال الترميم الأروقة المزخرفة، والأعمدة التاريخية، والنوافذ ذات الزجاج الملون إلى سابق عهدها.

وخلال عملية الترميم، اكتشف العمال سردابًا أثريًّا وجرارًا كبيرة كانت تستخدم لحفظ النبيذ، ما أضاف بُعدًا جديدًا إلى الإرث التاريخي للكنيسة، فتم تركيب سقف زجاجي فوقها ليتمكن الزوار من رؤيتها من داخل الكنيسة، مما يمنح المكان لمسة تاريخية فريدة.

المنارة الحدباء، رمز جامع النوري الكبير (الفرنسية) مدينة نابضة بالحياة

تقول ماريا أسيتوسو، مديرة مشاريع اليونسكو في العراق، إن الهدف من هذا المشروع لم يكن فقط إعادة بناء المعالم الأثرية، بل كان أيضًا إحياء الموصل بكل ما تمثله من تاريخ وثقافة وهوية.

وتضيف: "حين وصلت إلى هنا في 2019، كانت الموصل أشبه بمدينة أشباح، الدمار كان في كل مكان، لكن التغيير الذي شهدته خلال السنوات الخمس الماضية كان هائلا".

وبالفعل، بدأت الحياة تعود تدريجيا إلى شوارع الموصل بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، حيث يعجّ المقهى المقابل للمسجد بالزوار الذين يجتمعون لتبادل الأحاديث وسط ضجيج ورش البناء وأعمال الترميم، مشهد يختزل قصة مدينة تنهض من تحت الركام لتستعيد مكانتها.

إعلان

لكن رغم هذه الإنجازات، لا تزال آثار الحرب مرسومة بوضوح على جدران المدينة القديمة، حيث تحمل الأزقة الضيقة بصمات المعارك العنيفة، فيما لا تزال بعض البيوت مدمرة، وأبوابها موصدة تنتظر أصحابها.

وعلى جدران هذه المنازل، كُتبت كلمة "آمن" باللون الأحمر، في إشارة إلى أنها خالية من المتفجرات والألغام، لكنها لا تزال شاهدة على نزوح أهلها الذين لم يعودوا بعد.

ورغم أن المدينة استعادت مئذنتها، ومساجدها وكنائسها، فإن سكانها هم القطعة الأخيرة في مشهد التعافي، والذين يأملون أن تعيد هذه الجهود إعمار بيوتهم، تمامًا كما أعادت للمئذنة الحدباء حضورها المهيب في سماء الموصل.

اللمسات الأخيرة على جامع النوري وعودة الحياة إلى المدينة القديمة (الفرنسية) نزوح ومعاناة

لا تزال الجدران المتصدعة والنوافذ المحطمة في المدينة القديمة تحكي قصص النزوح والمعاناة، شاهدة على الأيام التي غادر فيها أهلها، تاركين وراءهم ذكريات وبيوتًا مهجورة.

ورغم الجهود المكثفة لإعادة إعمار الموصل، فإن كثيرًا من سكانها الأصليين، وأبرزهم أبناء الطائفة المسيحية، لم يعودوا بعد إلى منازلهم، ليظل الفراغ ملموسًا بين الأزقة التي عادت إليها الحياة جزئيًا.

لكن وسط هذا الغياب، هناك من عاد ليعيد وصل الماضي بالحاضر. محمد قاسم، البالغ من العمر 59 عامًا، قرر العودة إلى المدينة القديمة، وإن كان ذلك في منزل جديد، بعدما دُمر بيته الأساسي بالكامل.

يجول ببصره في المكان الذي نشأ فيه، ويرى أن إعادة إعمار الموصل لا تكتمل إلا بعودة سكانها الأصليين، قائلًا: "يجب أن يعود الجميع، المسيحيون والمسلمون على حد سواء، فهنا كانت بيوتهم وهذه أحياؤهم".

يتذكر محمد الأيام التي كانت فيها الموصل نابضة بالحياة خلال شهر رمضان، عندما كان الناس يأتون من كل حدب وصوب لأداء صلاة التراويح في جامع النوري الكبير، مشيرًا إلى أن ذلك كان يمنح المكان روحًا خاصة، افتقدتها المدينة سنوات طويلة.

إعلان

على بعد أمتار قليلة من الجامع، يقف سعد محمد (65 عامًا) أمام متجره، حيث يراقب عمليات الترميم التي أعادت المئذنة إلى مكانها في السماء. ورغم فرحته باستعادة الموصل جزءًا من تاريخها، فإن الحزن لا يزال حاضرًا في صوته، وهو يسترجع كل ما فقدته المدينة خلال سنوات الحرب.

لكن كلما رفع عينيه إلى الأعلى، حيث تعانق المنارة الحدباء سماء الموصل مجددًا، ترتسم ابتسامة خفيفة على وجهه، وكأنه يستمد من عودتها أملًا جديدًا.

يقول بصوت يغلب عليه التأمل: "كنا كلما فتحنا النافذة نرى علم داعش يرفرف على المنارة، وكنا ننتظر اليوم الذي يزول فيه. حتى جاء ذلك الصباح الذي فتحنا فيه النافذة ولم نجد المنارة نفسها".

اليوم، وقد استعادت الموصل مآذنها وكنائسها، وعاد الأمن إلى شوارعها، لا يزال سعد يشعر بأنه لم يتحرر بالكامل، مرددًا بحسرة: "عادت الحدباء، وعاد النوري، وعادت الكنائس، وعاد الأمان، لكنني شخصيا لم أتحرر.. طالما لم يعد بيتي بعد".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات المدینة القدیمة لا تزال کما کان

إقرأ أيضاً:

خالد حنفي: 500 مليار دولار حجم مشروعات إعادة الإعمار التي تستهدفها مبادرة عربية - يونانية جديدة

كشف الدكتور خالد حنفي أمين عام اتحاد الغرف العربية، خلال افتتاح أعمال المنتدى الاقتصادي العربي-اليوناني الرابع عشر، الذي عقد بعنوان: "نحو تعاون أوثق – الانشاءات والطاقة"، في أثينا – اليونان، بمشاركة وفود من 17 دولة عربية تمثل رؤساء شركات ورجال اعمال ومسؤولين، بالإضافة إلى حضور 180 رجل أعمال يوناني يمثلون رؤساء شركات ومسؤولين، إلى جانب حضور عدد من السفراء العرب المعتمدين في اليونان، بالإضافة إلى رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع، عن إطلاق اتحاد الغرف العربية أربعة مبادرات للتعاون بين العالم العربي واليونان "المبادرة الأولى تقوم على بناء جسور بين العالم العربي واليونان من أجل التعاون في مجال إعادة الإعمار، حيث هناك مبالغ مرصودة تقدّر بنحو 450 إلى 500 مليار دولار للدول العربية التي تحتاج إلى إعادة إعمار".


وتابع: "أما المبادرة الثانية فتقوم على إنشاء ممر للهيدروجين الأخضر والطاقة النظيفة، من خلال التشبيك بين الشركات الموجودة في العالم العربي واليونان، وذلك عبر التنسيق والتشاور بين القطاع الخاص من كلا الجانبين ولا يسما بين اتحاد الغرف العربية والغرفة العربية اليونانية".


وتقوم المبادرة الثالثة وفق أمين عام اتحاد الغرف العربية على إنشاء مركز للذكاء الاصطناعي في الطاقة والمياه، حيث أنّ الدراسات تشير إلى أنّ الذكاء الاصطناعي يستطيع أن يساهم في خفض نسبة الانبعاثات الكربونية بنسبة 30 في المئة، وفي حال نجحنا في إدارة هذا الملف بالشكل المطلوب فإننا سنتمكّن من تحقيق النجاح المطلوب في ملف إعادة الإعمار.


أما المبادرة الرابعة والأخيرة المقترحة من جانب اتحاد الغرف العربية، بحسب الدكتور خالد حنفي، فتقوم على تحالف لوجستي وإنشاء موانئ محورية تقوم على مبدأ التعاون لا التنافس وذلك ضمن منظومة متناغمة تكون اليونان محطة محورية فيها بالشراكة مع الموانئ المحورية المتواجدة في العالم العربي، ومنها قناة السويس التي تقوم من خلال رئيس هيئة القناة الفريق أسامة ربيع بجهود جبارة وقد تجلى ذلك في الفترة الأخيرة من خلال الأزمة التي شهدها البحر الأحمر، مما ساهم في القاء ربط مصر والعالم العربي بجميع دول العالم.
 

رجال الأعمال تطالب بحوافز لتوسيع استخدامات الذكاء الاصطناعي في الزراعةمصرف المركزي القطري يخفض أسعار الفائدة للمرة الثالثة في 2025

وتابع: "إننا في ظل ما يواجهه العالم من تحديات اقتصادية ومناخية متزايدة، نحتاج إلى شراكة مبنية على الابتكار والمسؤولية المشتركة، تضع الإنسان والبيئة في صميم المعادلة الاقتصادية، وتُحوّل التحديات إلى فرص نمو مشتركة".


وخلال كلمة لأمين عام الاتحاد، بصفته منسّقا ومديرا لجلسة بعنوان: "الطاقة والبناء في عصر الذكاء الاصطناعي"، ضمن فعاليات المنتدى الاقتصادي العربي-اليوناني الرابع عشر"، شدد على "أننا نحن نجتمع اليوم في لحظة مفصلية، حيث تتلاقى ثلاث قوى تشكل مستقبل الاقتصاد: الطاقة والبناء والتحوّل الرقمي من خلال الذكاء الاصطناعي، ومن المتوقع أن تشهد الاستثمارات في تقنيات الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط نموًا بنسبة كبيرة، حيث تأتي المنطقة في طليعة الاستفادة من هذه التقنيات، خصوصا وأنّ التبني الاستراتيجي للذكاء الاصطناعي مع تعزيز المرونة المناخية قد يضيف ما يصل إلى232 مليار دولار إلى الناتج المحلي لمنطقة الشرق الأوسط بحلول عام 2035.

وهناك شركات كبرى في قطاع الطاقة بمنطقة الشرق الأوسط بدأت فعليًا في تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين الكفاءة التشغيلية، وذلك في ظل القلق المتزايد من الاستهلاك المتنامي للطاقة نتيجة للنمو السريع في مراكز البيانات، وهو ما يُلقي بظلاله على الطلب الكهربي مستقبلا".


وأضاف: "أما في قطاع البناء، فيمكن للذكاء الاصطناعي أن يعيد تشكيل تصميم المباني، التكلفة، الصيانة، وحتى استهلاك الطاقة. كما أن التحول الرقمي في البناء من خلال الذكاء الاصطناعي يفتح فرصًا للشراكة بين القطاعين العربي واليوناني، سواء في البنية التحتية أو في بناء المدن الذكية ومستدامة".

ودعا إلى أهمية الاستفادة من خبرات اليونان، وكذلك من قدرات الدول العربية، لبناء نموذج تعاون مستقبلي يُسهم في التنمية الخضراء والرقمنة. 

ومن هذا المنطلق على القطاعين العام والخاص في اليونان والعالم العربي، التفكير في إطلاق مبادرات ملموسة ومشاريع تجريبية في مجالات الطاقة والبناء الذكية، بما يرفع من مستوى العلاقة القائمة بين الجانبين العربي واليوناني من إطارها التقليدي القائم على التبادل التجاري، إلى الشراكة الاستراتيجية بما يساهم في تحقيق التطلعات المشتركة.

طباعة شارك المنتدى الاقتصادي الذكاء الاصطناعي التحوّل الرقمي البنية التحتية

مقالات مشابهة

  • ما الذي تم من تطوير بمستشفى قصر العيني وأهم التحديات؟..رئيس جامعة القاهرة يجيب
  • تهديد بهدم قبر عزّ الدين القسّام.. ما الرسالة التي يسعى بن غفير إلى إيصالها؟
  • رويترز: الولايات المتحدة تستعد لاعتراض السفن التي تنقل النفط الفنزويلي
  • الأهلي يعيد تشكيل هجومه بحسم صفقة يزن النعيمات
  • خالد حنفي: 500 مليار دولار حجم مشروعات إعادة الإعمار التي تستهدفها مبادرة عربية - يونانية جديدة
  • بتمويل بريطاني… تأهيل قلعة طرابلس التاريخية بعد أشهر من الترميم
  • ترميم المعالم الإسلامية.. بلدية الفاتح في إسطنبول تحاول استعادة ذاكرتها الثقافية
  • غدا.. إحياء ذكرى "شادية" بسينما الهناجر
  • رئيس الوفد السعودي في حضرموت: نرفض إدخال المدينة في صراعات جديدة
  • تعرف على أبرز الشخصيات التي واجهت التحريض الإسرائيلي خلال 2025؟