مبادرة "إحياء العمارة" تختتم رحلة تعزيز الوعي بقيمة العمارة وإبراز الابتكار بها
تاريخ النشر: 22nd, February 2025 GMT
مسقط- الرؤية
اختتمت مبادرة إحياء العمارة، رحلة تعزيز الوعي بقيمة العمارة وإبراز الابتكار بها، والتي استهدفت زوار مُتحف عُمان عبر الزمان بولاية منح، واستمرت خلال الفترة من 19 حتى 22 من فبراير الجاري؛ بتنظيم من مكتب صاحب السمو السيد بلعرب بن هيثم آل سعيد.
وجاءت المبادرة استكمالًا لمسيرة جائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري بدورتيها الأولى والثانية، ومسابقة تصميم جناح سلطنة عُمان في إكسبو اليابان 2025، بهدف إثراء المجال المعماري في سلطنة عُمان.
وحظيت المبادرة بالمتابعة والاهتمام المستمر من قِبل صاحب السمو السيد بلعرب بن هيثم آل سعيد؛ تأكيدًا من سموه على أهمية تحقيق الأهداف المرسومة للمبادرة، والتي تمثلت في تعزيز الوعي بقيمة العمارة كأحد مكونات الهوية الوطنية، وتحفيز المجتمع على استكشاف العمارة العُمانية وفهم تأثيرها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي. وتهدف المبادرة إلى إشراك فئات المجتمع المختلفة في الحوارات والنقاشات حول العمارة وتوفير بيئة داعمة للإبداع والريادة، إضافةً إلى تعزيز فرص الكادر المعماري في سوق العمل العُماني. وتضم المبادرة ركن جائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري، ومنطقة للإنجازات، وتجربة تفاعلية لإحياء العمارة.
جائزة بلعرب للتصميم المعماري
وأتاح ركن جائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري، للزائر فرصة الاطلاع على مراحل الجائزة في دورتيها الأولى والثانية، من خلال تأمُّل المشاريع الفائزة بالمركز الأول على شكل مجسم ثلاثي الأبعاد، إضافة إلى المشروع الفائز في تصميم ركن سلطنة عُمان في إكسبو اليابان 2025.
وتناولت الدورة الأولى من الجائزة تطوير الموقع المحدد بحي الميناء بولاية مطرح في المنطقة الواقعة بين الواجهة البحرية وسوق مطرح لبيع الأسماك بمساحة إجمالية تقدر بـ7500 متر مربع، وتُوِّج بالمركز الأول مشروع ميدان مطرح لكل من أحمد بن محمد الجهضمي، وأميمة بنت محمود الهنائية، وعبدالله بن صالح البحري؛ حيث سعى المشروع لتعزيز قيمة مطرح بمعالمها الفريدة، ويتوسط الميدان جسر أيقوني جرى تصميمه بشكل طائر فوق البحر، والذي استلهم من سيف الإمام الصلت بن مالك الخروصي، ويؤطر الجسر معالم مطرح الشهيرة في صورة واحدة، ويحيط بالجسر ساحة متعددة الاستخدامات تشمل نافورة راقصة ومحلات التجزئة ومقاهي، مع أضواء تتماهى مع أمواج البحر.
فيما استهدفت الدورة الثانية من الجائزة تصميم مشروع متحف عُمان البحري بولاية صور؛ لتوثيق تاريخ عُمان البحري الحافل وإبراز نبوغ العُماني عبر التاريخ في علاقته بالبحر، حيث تُوِّج محمد بن صلاح بن علي البلوشي بالمركز الأول عن فكرة تصميم مشروعه من مشهد تجمع السفن في خور البطح بولاية صور في فترات ازدهار النشاط البحري فيها، حيث صمم المتحف لتجسيد التراث البحري العُماني في أوج ازدهاره؛ لإعادة إحياء هذا التاريخ، كما تضمن المشروع ممشى رئيسي «بوليفارد» يحتوي على مقاهٍ ومطاعم ومنتزه، إلى جانب ممشى آخر يُطل على البحر، يربط ممشى الشارع البحري بجسر خور البطح ومصنع السفن.
كما طرحت الجائزة مسابقة تصميم ركن سلطنة عُمان في إكسبو اليابان 2025، وفاز في المسابقة الفريق المكوَّن من بيان بنت مسلم بن سالم الرمضانية، وعمار بن عبدالحميد بن عامر الكيومي، ونيرة بنت خميس بن سيف الهنائية، ووظَّف الفريق فكرة الأفلاج العُمانية في المشروع والذي يعكس دورها المهم في مجال ازدهار المجال الزراعي وتوثق عبقرية الإنسان العُماني في شق الأفلاج.
منطقة الإنجازات
وتصطحب منطقة الإنجازات، الزائرَ في رحلةٍ من خلال عرض مرئي لمسيرة جائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري في دورتيها الأولى والثانية، وما ساهمت به الجائزة في المشهد المعماري العُماني. ويستعرض العرض المرئي إحصائيات عن عدد المشاركات التي تلقتها الجائزة والمشروع الفائز بالمركز الأول في كل دورة، إضافة إلى المشروع الفائز بتصميم جناح سلطنة عُمان في إكسبو اليابان 2025.
وتضمن العرض المرئي الهيكل الجديد والتي تترأسه مبادرات بلعرب بن هيثم وتضم مجتمع بلعرب بن هيثم، وجائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري، وبرامج بلعرب بن هيثم، إضافة إلى الإعلان عن موعد الدورة الثالثة من جائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري والمُزمع إطلاقها نهاية العام الجاري.
وتتناول التجربة التفاعلية للمبادرة المحاور الرئيسية الثلاثة التي تصب في خدمة المجال المعماري وإعادة إحيائه في سلطنة عُمان، وتتمثل هذه المحاور في محور التعليم المستمر، ومحور الابتكار، ومحور جاهزية السوق.
وتبدأ التجربة باستعراض بعض العبارات المعمارية خاصة لهذه المبادرة لشخصيات عُمانية وعالمية عن التصميم المعماري من أبرزها: عبارة السيدة الجليلة عهد بنت عبدالله البوسعيدية حرم جلالة السلطان المعظم- حفظها الله ورعاها، وصاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد وزير الثقافة والرياضة والشباب. ثم يُتابع الزائر تأثير العناصر والمساحة في العمارة من خلال الضوء والمساحة، وينتقل إلى الرحلة في العصور، من العصر الحجري وصولًا إلى عصر النهضة. كما يطَّلع الزائر على عرض مرئي لرحلة معماريين في قرية السوجرة بولاية الجبل الأخضر والقريتين بولاية إزكي. ثم ينتقل الزائر إلى منطقة جاهزية سوق العمل والتي تستعرض إحصائيات وأرقام لأعداد الباحثين عن عمل في مجال العمارة، والمؤسسات التعليمية التي تُتيح دراسة تخصص التصميم المعماري والإنشاء؛ حيث توضح الإحصائيات أن عدد مؤسسات الأكاديمية التي توفر تخصُّص العمارة والإنشاء بلغ 14 مؤسسة تعليمية، كما تشير الإحصائيات بأن عدد الباحثين عن عمل في المجال المعماري بلغ 1759 باحثًا.
ويتعرف الزائر على مبادرة بلعرب لتمكين المعماريين، من خلال تسهيل مزاولة النشاط الهندسي وفتح سجل تجاري ومكاتب استشارات هندسية وتقديم التصاميم للمؤسسات المُختصة والمنافسة على المناقصات المطروحة.
وتستعرض الرحلة، قصة نحاج العُمانية نورة الحرملية في الجانب المعماري؛ حيث كانت تواجه 3 أنواع من صعوبات الإدراك والتعلم؛ لتتمكن من التغلب عليها، وتُعزز رحلتها في دراسة المعمار في جامعة ليفربول جون مورس بالمملكة المتحدة. إضافة لقصة المعماري توني كويل الذي بدأ حياته في مكتبٍ بشركة معمارية في غلاسكو البريطانية، وبدأ رحلة التعلم وتطوير معارفه؛ حيث أصبح أحد أبرز المعماريين، وله إسهامات في العمارة العُمانية الحديثة؛ حيث كان المهندس المعماري الرئيسي في إنشاء عدد من المباني في سلطنة عُمان، من أبرزها مبنى بلدية مسقط في دارسيت، وبوابة مسقط.
وتُختتم الرحلة بعرض الشخصيات المشاركة في إنجاح المبادرة وعرض كلمة لصاحب السمو السيد بلعرب بن هيثم آل سعيد، يؤكد فيها أهمية مواصلة مسيرة إحياء العمارة وصياغة هويتنا بإبداعٍ يعكس إرثنا الأصيل، وابتكار يواكب طموحاتنا لرسم ملامح مستقبل ينبض بالإصالة والإلهام.
حلقات عمل متنوعة
وقد سعت المبادرة إلى تعزيز الإرث المعماري، من خلال تقديم نماذج ناجحة تجمع الابتكار مع الإرث؛ حيث استضاف ركن جائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري، عددًا من المتحدثين والمتخصصين في مجال العمارة لتعزيز وعي الزوار بقيمة العمارة.
وفي اليوم الأول قدم المهندس إبراهيم محمد جيدة الرئيس التنفيذي لشركة "إيه إي بي"، ورشة "عمران يُلهم تصاميم أحدثت الفارق في المنطقة"، تناول سيرة عملة في الجانب المعماري وتجاربه العلمية والعملية للحفاظ على الهوية من خلال التأثر بالشكل المعماري، كما تطرق إلى أهمية توظيف التراث والهوية الوطنية لكل دولة في الجوانب المعمارية.
فيما تناولت الورشة الثانية موضوع "بين التاريخ والمستقبل إحياء قرية السوجرة من منظور معماري"، قدمها المعماري محمد العصفور، وتطرقت إلى استعراض الطريقة المعمارية التي استخدمها القدماء في بناء القرية مستخدمين أدوات البيئة المحلية.
وسلَّطت الورشة الثالثة الضوء على "رحلة التطوير كيف أصبحت حارة العقر وجهة سياحية فريدة"، وقدمها إسحاق بن هلال الشرياني رئيس مجلس إدارة شركة بوارق نزوى، وتناول فيها المراحل التي مرت بها حارة العقر، من الفكرة وصولًا إلى التنفيذ والتطوير بالخامات الطبيعية التي استخدمها الأجداد في البناء. واستعرض أبرز التحديات التي واجهة رحلة تطوير الحارة لتكون اليوم وجهة سياحية يعرفها القريب والبعيد.
وشهد اليوم الثاني، عقد 3 حلقات عمل؛ حيث قدَّم سعادة المهندس حمود بن محمد المحروقي رئيس شؤون المنشآت السلطانية أولى الحلقات بعنوان "عُمران يعكس الهوية محطات في مسيرة تشييد أيقونات معمارية وطنية"، وتناولت دور المنشآت السلطانية في الحفاظ على الهوية المعمارية العُمانية، واستعرضت مراحل تطور العمارة العُمانية بين الماضي والحاضر، إضافة إلى مواكبة التطورات المعمارية باستخدام المواد المحلية للحفاظ على البيئة.
وتناولت حلقة العمل الثانية موضوع "آفاق جديدة ومحورها التمكين مبادرات بلعرب بن هيثم" قدمها إياد بن نبيل الرواس مسؤول التطوير واللجان بمكتب صاحب السمو السيد بلعرب بن هيثم. واستعرضت الحلقة مبادرة بلعرب لتمكين المعماريين من خلال إمكانية فتح سجل تجاري وتقديم التصاميم للمؤسسات المُختصة، إضافة إلى الإعلان عن موعد الدورة الثالثة من جائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري والمُزمع اطلاقها نهاية العام الجاري.
وناقشت الحلقة الثالثة التي حملت عنوان "من الفكرة إلى الواقع كواليس بناء تجربة إحياء العمارة" قدمتها سوماسري شاندرا مُتخصصة في التصميم والإخراج الفني؛ حيث سلطت الضوء على مراحل تطوير فكرة التجربة التفاعلية إحياء العمارة، وصولًا لتنفيذها في أرض الواقع، واستعرضت مسار الزائر في التجربة التفاعلية ودورها في إكسابه المعرفة التاريخية بالعمارة عبر العصور وأهمية تعزيز فهم العناصر والمساحة في العمارة.
وقُدمت في اليوم الأخير، حلقتا عمل؛ تناولت الأولى موضوع "تقنيات الغد: كيف تُعيد الأتمتة والمواد المبتكرة تشكيل مستقبل العمارة"، وقدمها الدكتور أيمن بن عبدالله الفضيلي الرئيس التنفيذي لأكاديمية الابتكار الصناعي، وتطرقت لأهمية الابتكار في تخليد عمل الإنسان وتسجيل تاريخ جديد لكل جيل، وأهمية توظيف التكنولوجيا والابتكار في العمارة، وتناول الإبداع الإنساني وتفوقه على التقنيات الموجودة.
فيما قدم مصطفى الرحبي الرئيس التنفيذي لشركة "جالاكسي واي" حلقة عمل "صناعة الأثر بالكلمة والصورة: كيف نُخلِّد الحدث في الذاكرة"، واستعرضت دور الشركة في العمل على جائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري في دورتيها، ومراحل العمل على مبادرة إحياء العمارة من صناعة السرد ومحتوى المبادرة وصولًا إلى التسويق وصناعة المحتوى والإنتاج الفني.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
كيف تسهم عودة الكفاءات من مسقط في إحياء القرى العُمانية؟
مُنذ بداية النهضة المباركة، شهدت سلطنة عُمان تحوّلًا سكانيًا صامتًا، تجلّى في نزوح جماعي للكوادر الوطنية نحو العاصمة مسقط. هذه الهجرة الداخلية، رغم أنها أسهمت في تركيز الخبرات في المراكز الإدارية والاقتصادية، خلّفت فراغًا واسعًا في القرى والولايات خصوصا في أيام الأسبوع، مجالس بلا أنفاس، أسواق تقاوم الركود أحيانا.
هذه ليست مجرد صورة رومانسية للمكان، بل واقع يعيشه المجتمع العُماني في تفاصيله اليومية. فبينما تستقطب مسقط فرص العمل، والتعليم العالي، والرعاية الصحية المتقدمة، تظل القرى تنتظر عودة أبنائها ممن يحملون أدوات التغيير. فما الذي يمكن أن يحدث لو قررت تلك الكفاءات العودة؟ هل يُمكن أن تعود الحياة إلى القرى بعودة أصحاب العقول والخبرات؟ هذا ما نحاول استكشافه من خلال هذا الاستطلاع الذي يستعرض شهادات من الميدان وتجارب حيّة لأشخاص قرروا أن يكونوا جزءًا من الحل.
لا تُعد هذه الظاهرة حكرًا على عُمان فحسب، بل تعاني منها العديد من المجتمعات التي تتّسم بطابعها القروي أو الريفي، حيث تميل الكفاءات إلى التمركز في العواصم والمراكز الحضرية الكبرى، مما يُخلّ بالتوازن التنموي بين المركز والأطراف. ومع تزايد التركيز على التنمية المستدامة، فإن عودة الكفاءات إلى مناطقها الأصلية لم تعد خيارًا فرديًا فقط، بل ضرورة وطنية ملحّة لتحقيق تنمية شاملة تُراعي خصوصية المكان، وتُثمّن الطاقة البشرية في مواطنها الأصلية.
صحار تنتعش في الإجازات لكن الكفاءات تستقر في مسقط
في ولاية صحار، التي تُعدّ إحدى أهم المدن العُمانية بعد العاصمة مسقط، يرصد إسحاق السعيدي مشهدًا أصبح مألوفًا ومتكررًا في كل نهاية أسبوع: ازدحام ملحوظ في الأسواق، امتلاء المقاهي، وعودة وجوه مألوفة طال غيابها. هذا الحراك المفاجئ والمؤقت، كما يصفه، لا يعكس حيوية دائمة بقدر ما يعكس ظاهرة موسمية مؤقتة مرتبطة فقط بالإجازات الرسمية ونهايات الأسبوع. إذ ما إن تنقضي الإجازة، حتى تعود المدينة إلى هدوئها النسبي، وتعود القرى والمناطق المجاورة إلى حالتها المعتادة من الركود الجزئي. يقول إسحاق: «ما يحدث في صحار خلال الإجازات يكشف بشكل واضح أن الغالبية العظمى من الكفاءات والموظفين والمتخصصين يقيمون فعليًا في مسقط، ويعودون إلى مناطقهم فقط في أوقات الراحة. وهذا يعكس خللًا عميقًا في توزيع الكوادر الوطنية داخل سلطنة عُمان». ويضيف أن هذا التمركز السكاني حول العاصمة، مع غياب حقيقي لفرص العمل المتنوعة والمتقدمة في الولايات، جعل من قرار العودة إلى المناطق الأصلية خيارًا غير عملي بالنسبة للكثيرين، رغم ارتباطهم العاطفي والاجتماعي الوثيق بها.
فرغم ما تتمتع به صحار من بنية تحتية متطورة، وموقع استراتيجي مهم، ووجود مناطق صناعية وميناء بحري، إلا أنها -برأيه- لا توفّر مناخًا وظيفيًا متكافئًا مع ما تعرضه المؤسسات المركزية في العاصمة. ويتابع: «كثير من الناس يتجهون إلى مسقط بحثًا عن فرصة مهنية أفضل، لكنهم لا يشعرون بالانتماء الكامل إليها. تظل قراهم ومدنهم الأصلية هي الملاذ، وهي البيئة النفسية التي تمنحهم الراحة والسكينة. هذا الانفصال بين مقر العمل ومكان الانتماء يولّد نوعًا من التوتر الصامت، ويفقدهم شعور الاستقرار الذي يحتاجه كل موظف للتميّز والإبداع».
ويؤمن إسحاق أن الحل الجذري يكمن في تفعيل مبدأ اللامركزية الإدارية بشكل فعلي وشامل. من وجهة نظره، لا ينبغي أن تكون اللامركزية مجرد إجراء إداري محدود بنقل بعض المهام، بل فلسفة شاملة تقوم على تمكين المحافظات من إدارة مواردها، واستثمار عقول أبنائها، وصياغة مشاريع تنموية نابعة من واقعها المحلي. يقول: «حين تمنح كل ولاية الصلاحيات الكافية، وتُتاح لها فرص التخطيط والتنفيذ، ستجد أن الكفاءات تعود إليها طواعية، لأنها ستشعر بوجود دور حقيقي لها في التأثير وصناعة القرار».
من المدينة إلى القرية: العودة التي أحدثت فرقًا
عبدالله العامري، أخصائي اجتماعي من ولاية إزكي، عاش سنوات طويلة في المدينة بحكم دراسته وعمله، قبل أن يتخذ قرارًا مصيريًا بالعودة إلى قريته التي نشأ فيها. لم يكن قراره نابعًا عن ظرف طارئ أو انتقال وظيفي مؤقت، بل من قناعة راسخة أن للمكان الأول حقًّا لا يسقط، وأن التنمية لا تُستورد، بل تُبنى من الداخل، بأيدي أبنائه.
يصف عبدالله المشهد المتكرر الذي تعيشه قريته في أيام الإجازات، فيقول: «في إجازات نهاية الأسبوع والأعياد، تستعيد القرية أنفاسها؛ المجالس عامرة بالحضور، تقام الأفراح، وتدبّ الحياة في الأسواق الشعبية التي كانت شبه خالية. يعود الناس محمّلين بالشوق، ويمتلئ المكان بالدفء واللقاءات. أما في أيام الدوام، فالوضع يختلف تمامًا، إذ يسود الهدوء وربما السكون، نتيجة غياب الشباب الذين يعمل معظمهم في مسقط».
لكن العامري لم يتوقف عند حدود الوصف والرصد، بل آمن بأن التغيير لا يبدأ إلا بالفعل، فبادر إلى إطلاق مبادرة طموحة حملت اسم «مركز الابتكار الاجتماعي»، من داخل مدرسته التي يعمل بها في قريته. وعن فكرة المركز يقول: «رأيت أن المدرسة يمكن أن تكون قلب القرية النابض، ومكانًا لا يقتصر دوره على التعليم التقليدي، بل يمتد ليكون محورًا للتنمية الاجتماعية، ومختبرًا للأفكار التي تربط الجيل الناشئ بجذوره».
المركز لم يكن مجرد فكرة نظرية، بل تحوّل إلى كيان فاعل يقدّم سلسلة من البرامج والأنشطة التربوية والسلوكية والاجتماعية. فمن ورش عمل تُعنى بالسلوك الطلابي مثل التعاون والانضباط والمسؤولية، إلى لقاءات حوارية مع أولياء الأمور تبحث التحديات المشتركة بين الأسرة والمدرسة، مرورًا ببرامج تحفيز للطلبة المجيدين في سلوكهم، وصولًا إلى إشراك متطوعين من أبناء القرية في تقديم ورش واستشارات نوعية في مجالات الريادة والدعم النفسي والمهارات الشخصية.
ويُضيف العامري أن فريق المركز لا يتوقف عن التطوير، بل يسعى حاليًا لإطلاق مبادرات جديدة أبرزها «مدرستي مسؤوليتي»، التي تهدف إلى تعزيز روح الانتماء للمرافق التعليمية من خلال أعمال تطوعية يقودها الطلاب، ومشروع «إعادة اكتشاف قريتي» الذي يربط الجيل الجديد بالتراث الزراعي والإنساني من خلال جولات ولقاءات ميدانية، وكذلك «نادي الحوار الشبابي» الذي سيكون منصة حوارية مفتوحة لتمكين الشباب من التعبير عن قضاياهم وأفكارهم في جو من الإنصات والتوجيه.
ويختتم عبدالله قائلًا: «القرى لا تفتقر إلى الموارد، بل إلى من يوقظها. حين تعود الكفاءات إلى بيئتها، تعود معها الروح. إنهم لا يحملون مجرد شهادات أو خبرات، بل يحملون الحافز، والانتماء، والرغبة في صناعة فارق. الإيمان بالقرية هو أول خطوة نحو بعث الحياة فيها من جديد».
الهدوء ليس كافيًا: بهلا تبحث عن حيوية دائمة
من ولاية بهلا، يتحدث عبدالمجيد الشعيلي عن العودة إلى القرية لا كقرار جغرافي، بل كـ«ملاذ نفسي» يعيد للروح توازنها ولليوم معناه. يقول: «حين أعود إلى قريتي، أشعر أنني أستعيد شيئًا من ذاتي. أترك خلفي ضجيج المدينة، ازدحام الطرقات، وتدافع المواعيد، وأجدني مجددًا بين وجوه تعرفني بالاسم لا بالوظيفة، بين أيدٍ صافحتني منذ الطفولة، وقلوب لم تتغير».
لكن عبدالمجيد، رغم هذا الارتباط العاطفي العميق، لا ينكر أن الشعور وحده لا يصنع التنمية. فهو يرى أن هذا الدفء لا يكفي لتغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه القرى العُمانية، ما لم تعُد الكفاءات لتبني معًا منظومة متكاملة من العمل والإبداع والابتكار. «الحنين لا يكفي، ما لم يتحوّل إلى مبادرات عملية قادرة على إحياء المكان من الداخل»، يقول بثقة.
يرى الشعيلي أن نزوح الكفاءات والطاقات الشابة إلى مسقط -العاصمة التي تحتكر أغلب الفرص النوعية- أدى إلى تراجع ملحوظ في الحركة الاقتصادية داخل القرى. ويشرح: «الشباب هم قلب المجتمعات الحيّة. هم الذين يفتتحون المشاريع، يبادرون في الجمعيات، ويخلقون حراكًا مستمرًا في الحياة العامة. لكن حين ينزحون، تفقد القرى نبضها، وتتحول إلى أماكن انتظار طويلة». ولا يقتصر تأثير هذا النزوح على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يمتد -كما يرى عبدالمجيد- إلى التعليم، والوعي المجتمعي، والمبادرات التطوعية. فغياب الكفاءات يعني غياب القدوة، وغياب الأفكار الجديدة، وغياب الدفع الحيوي الذي تحتاجه المجتمعات الريفية لتظل في حركة ونمو مستمرين.
ولتجاوز هذا الواقع، يدعو الشعيلي إلى صياغة منظومة دعم مزدوجة للكفاءات الراغبة في العودة، تتضمن بعدًا ماديًا يشمل التسهيلات التمويلية والمحفزات، وبعدًا معرفيًا يتمثل في التدريب، والتوجيه، وفتح مساحات للإبداع والريادة داخل القرى. ويقترح أن يتم ذلك من خلال شراكات ذكية بين الحكومة والمجتمع المحلي والقطاع الخاص، بحيث يشعر الشاب العائد بأن لديه حاضنة حقيقية يمكن أن ينمو من خلالها.
ويختم قائلا: «عودة الكفاءات ليست فقط عودة أفراد، بل عودة نبض. عندما يعود الإنسان بعقله وخبرته إلى أرضه، تعود السوق للازدهار، والمدرسة للحيوية، والمجتمع للتماسك. عندها فقط، يمكن أن نستعيد القرى ليس كما كانت، بل كما يجب أن تكون: أماكن إنتاج، وإلهام، وبناء مستقبلي متوازن».
إجازة نهاية الأسبوع تُنعش القرى ولكن إلى متى؟
عاصم السعدي يُشبّه إجازات نهاية الأسبوع بـ«عملية تنفس اصطناعي للقرى». في رأيه، القرى لا تموت كليًا، لكنها تعيش على فترات قصيرة من الانتعاش، أشبه ما تكون بجرعات مؤقتة من الحياة. يقول: «في الإجازات، تعود الحياة بكل تفاصيلها؛ المجالس تعود لتستقبل زوارها، المقاهي القديمة يعلو فيها صوت النقاش والضحك، ملاعب الطائرة تمتلئ بالحماس، وحتى الشواطئ تستقبل العائلات والشباب في نزهات طال انتظارها. لكن ما إن تنتهي الإجازات حتى تعود القرى إلى حالة من الخمول، وكأنها فقدت أوكسجينها الوحيد».
من وجهة نظر عاصم، لا يمكن فصل هذا التراجع عن ظاهرة هجرة الكفاءات والطاقات الشابة نحو العاصمة مسقط، التي باتت مركزًا شبه حصري للفرص الوظيفية والتعليمية والمهنية. ويقول: «رحيل الكفاءات من القرى إلى المدينة لم يسحب فقط الأفراد، بل سحب معهم العمود الفقري للتنمية المحلية. لم نعد نجد الطبيب القريب، ولا المعلم المُحفّز، ولا الشاب الذي كان يملأ الحي بالمبادرات التطوعية والمشاريع الصغيرة».
ويستطرد عاصم في التحليل، موضحًا أن هذه الظاهرة تركت فراغًا في البنية الاجتماعية والاقتصادية، وأن كثيرًا من الفرق الخيرية والمبادرات الشبابية التي نشأت في الجامعات وأماكن العمل بالمدن لم تتمكن من العودة إلى قراها، فبقيت خارج السياق المحلي. ويقول: «حتى ريادة الأعمال تأثرت، فمعظم من أراد بدء مشروع اختار المدينة، حيث توجد القوة الشرائية، وشبكات الدعم، والوعي المجتمعي بالخدمات الجديدة». ولا يرى عاصم أن الأمل مفقود، بل على العكس، يعتقد أن مجرد عودة جزء من هذه الكفاءات يمكن أن يُطلق ما يُشبه «ثورة تنموية مصغّرة»، تبدأ من المدرسة، وتصل إلى السوق، وتمتد إلى السياحة والتراث. يتخيل مدارس ذكية تقدم محتوى تفاعليًا حديثًا، ومنصات رقمية تروج للمنتجات الزراعية والحرفية المحلية، ومشاريع سياحية قائمة على تاريخ القرى وكنوزها الجغرافية، بل وحتى محتوى إعلامي عصري يعيد تشكيل الصورة الذهنية للريف العُماني كمساحة واعدة للحياة، لا مجرد ماضٍ يُحكى.
لكنه يشدد في الوقت ذاته على ضرورة تدخل المؤسسات الرسمية لإحداث نقلة حقيقية. يقول: «ليس المطلوب فقط تشجيع الكفاءات على العودة، بل تمكينهم فعليًا من النجاح. هذا يتطلب دعمًا ماليًا، إنشاء حاضنات أعمال محلية، تقديم حوافز حقيقية، وخلق مسارات وظيفية تتيح التقدم لمن يختار البقاء في قريته». ويضيف: «نحتاج إلى حملات إعلامية تُبرز النماذج الناجحة من القرى، تُغيّر الصورة النمطية السائدة بأن النجاح مقترن بالمدينة وحدها».
ويختتم رسالته بإصرار: «القرى ليست أماكن صغيرة... بل هي مساحات كبرى للفرص غير المستغلة. فقط، تحتاج من يراها بعين الرؤية، لا بعين الحنين».