قبل نحو قرن من الزمان، استقرت عائلة قسيسية في القاهرة القديمة، حيث أسست مصنع "قسيسية للزيوت والصابون"، الذي كان الأشهر في المدينة قبل حركة يوليو/تموز 1952 وبعدها. تعود جذور العائلة إلى فلسطين وبلاد الشام، حيث اشتهرت بصناعة الصابون، لكن أحد أبنائها قرر أن يبدأ فصلا جديدا في مصر، فانطلق من حي الجمالية، حيث تأسس أول مصنع للعائلة، وسرعان ما توسعت الأعمال وازدهرت الاستثمارات.

بَيد أن التأميم غيَّر المسار، فعادت العائلة إلى نقطة البداية، ولم يَبق من إرثها الصناعي سوى مصنع "شارع النحاسين"، الذي شكَّل حجر الأساس لانطلاقة جديدة، لكنها لم تدم طويلًا. مع مطلع الثمانينيات، اختار جيل الأحفاد مغادرة القاهرة، وتفرق أفراد العائلة في أنحاء العالم. من بينهم شاب خرج من النحاسين في مطلع العشرينيات من عمره، ليستقر في كندا، حيث درس وتخصص في الطب.

لكن بعد 4 عقود، يعود إبراهيم قسيسية إلى حيث بدأت الحكاية، إلى حي النحاسين، حيث مصنع العائلة الذي تحول مع الزمن إلى "مقلب قمامة"، ليعيد إليه الحياة، ويُحوله إلى مركز الجمالية للحرف اليدوية والتراث.

الطبيب المصري إبراهيم قسيسية (الجزيرة) من مكان للمخلَّفات إلى مركز للحرف التراثية

في مطلع عام 2020، قرر قسيسية العودة إلى مصر، مدفوعًا بحنين لم ينقطع إلى الأرض التي شهدت طفولته ومطلع شبابه. لكن الزمن لم يترك أثره عليه فحسب، بل غيَّر أيضًا ملامح القاهرة التي يعرفها، إذ وجد نفسه أمام مدينة مختلفة عن تلك التي تركها وراءه.

لم تقتصر التغيرات على الجمالية، بل شملت شوارعها، أزقتها، وأهلها، حتى إنه وصفها في حديثه لـ"الجزيرة نت" قائلًا "لو خرج نجيب محفوظ من قبره ليعاود السير بين شوارع ثلاثيته القديمة… لوقع ميتًا مرة أخرى".

إعلان

ورغم القبح الذي طغى على كل شيء، لم تفتر عزيمة الطبيب المهاجر، فقرر أن يعيد إحياء تراث أجداده، ويستعيد المصنع القديم، ليعيد معه روح الجمالية كما استقرت في مخيلته على مدار 40 عامًا.

إحياء التراث

على مدار شهر كامل، كان الهدف الأول لقسيسية هو التخلص من أكوام المخلفات التي تراكمت لعقود في مصنع الصابون. بـ3 ورديات يومية، انطلق العمل بلا توقف، حتى انتهت المرحلة الأولى، ليبدأ بعدها مشروع إعادة الروح القديمة للمكان دون المساس بجوهره. أعاد المصنع إلى سيرته الأولى، ملتزمًا بتصميمه المعماري الأصلي، مستلهمًا ألوانه ونقوشه من روح الجمالية القديمة. لكن هذه المرة، لم يكن المصنع مخصصًا لإنتاج الصابون، بل لإحياء تراث شارع النحاسين، حيث اشتهرت الورش قديمًا بتشكيل النحاس وطرقه، من خام معدني بسيط إلى تحف فنية متنوعة.

رحلة عبر الزمن

ما إن تخطو داخل مركز الجمالية للحرف التراثية، حتى تجد نفسك وكأنك عدت إلى 5 عقود مضت. يبدأ الاستقبال بلمسة أصيلة: فرد أمن يرتدي جلبابًا وطربوشًا، مستوحى من أزياء الأربعينيات، إلى جانبه هاتف أسود قديم، يحاكي الهواتف الأثرية في حقبة ما قبل التكنولوجيا الحديثة. ومن هنا، تبدأ الرحلة داخل المكان، حيث تنتشر ورش الحرف التراثية، لكل منها بصمتها الخاصة، وقد حرص الطبيب الستيني على اختيار أفضل من تبقى من الحرفيين الأصليين، حفاظًا على أصالة الفن وإرث الجمالية العريق.

سيد إمام آخر صناع الشيفتشي في مصر

على مدار 63 عامًا، ظل عم سيد إمام مخلصًا لحرفته، "الشيفتشي"، التي تعلمها في طفولته على يد الحرفيين الأجانب الذين كانوا يقيمون في الجمالية قديمًا. يتذكر بوضوح تلك الأيام، حين كان في الـ12 من عمره، وكيف وهبته الحياة فرصة ذهبية للتعلم على يد من يصفهم بـ"أسطوات الشغلانة".

فن الشيفتشي.. إرث لا يجيده إلا أهل النحاسين

اختص عم سيد في فن "الشيفتشي"، الذي يعني في اللغة التركية كل ما يشفّ ويصف، سواء في المعادن أو الأقمشة. غير أن هذا الاسم العثماني لم يمنح الأتراك تفوقًا في المهنة، كما يوضح عم سيد في حديثه لـ"الجزيرة نت": "سافرت إلى بلاد كثيرة من أجل الشيفتشي؛ العراق، الأردن، لبنان، قبرص، اليونان، وحتى تركيا، حيث قضيت هناك 3 شهور أعمل بخامات تركية، لكنني كنت أقدم لهم شيفتشيا مصريا أصيلا لا يتقنه سوى أهل النحاسين، وأنا آخرهم".

إعلان مركز الجمالية قبلة الحياة لحرفة أوشكت على الاندثار

كان "مركز الجمالية للحرف التراثية" حلمًا بعيد المنال في ذهن عم سيد، الذي كان يخشى أن تموت الحرفة بوفاته، بعدما غابت الأجيال الجديدة عن تعلمها. لكن المركز فتح أبوابه لاستقبال متعلمين جدد، يأتون بكامل إرادتهم، لاكتساب مهارات هذه المهنة حتى الاحتراف.

يقول عم سيد بأسى "الدكتور إبراهيم منح حرفة الشيفتشي، والعديد من الحرف الأخرى، قبلة الحياة.. كان من المفترض أن تهتم الدولة بهذه المهن التراثية، لكن للأسف، لم يلتفت إليها أحد".

شغف يتجاوز حدود مصر

لم يتوقف دور المركز عند إحياء الحرفة فقط، بل أصبح وجهة تعليمية لطلاب المدارس الصناعية، الذين يحصلون على دورات متخصصة في تشكيل النحاس والفضة والذهب. ولم يقتصر الإقبال على المصريين، فقد جذب المركز طلابًا من الإمارات، السعودية، وألمانيا، جاؤوا بشغف حقيقي لتعلم هذه المهنة النادرة، ليس لمجرد العمل، بل كهواية مختلفة تحمل عبق التاريخ وروح الإبداع.

لقطات من بهو مركز الجمالية للحرف التراثية (الجزيرة) حفر نحاس وسجاد يدوي وفنون الأخشاب

عند وضع التصميم لمركز الحرف، قرر الدكتور إبراهيم، أن يضع لكل حرفة تراثية ورشة خاصة، تحمل كل منها تعريفا باسم حرفيها، ومهاراتهم وجزء منها يعرض لمنتجاتها، باللغة العربية والإنجليزية، فكانت ورشة مسعد للنحاسيات، ورشة البرنس للأخشاب، ورشة عم جابر للسجاد اليدوي.

تتشارك الورش الثلاث في أنها لآخر رجال المهنة، وأنهم أكثر أهلها مهارة وقدرة على صناعة قطعة مختلفة ومميزة، ففي ورشة السجاد، يحرص عم جابر على عرض أهم سجادة لديه قائلا "لولا عملي في مركز الجمالية لم أكن أستطيع التفرغ لعمل هذه السجادة، في ضمان راتبي الذي يكفيني ويكفي احتياجات أسرتي، هو ما جعل التفرغ لقطعة واحدة أمرا مقبولا، أما لو كنت أعمل وحدي كما السابق، كنت سأضطر لعمل المنتجات الرخيصة سريعة البيع، يتراوح سعر السجاد اليدوي  في ورشة جابر من 500 إلى 5 آلاف جنيه، وربما أكثر بحسب الخامة المستخدمة: "أنا بشتغل في الصوف والخيط القطيفة، وبنشتغل هنا على النول الأصلي، والمركز أتاح لي فرصة أني أترك أثر في حرفتي وأدرب آخرين يكملون بعدي ما تعلمته ممن سبقوني.

إعلان

أما البرنس، الشاب الأربعيني، الذي يعمل منذ 30 عاما في تشكيل الأخشاب، فقد جاء انضمامه للمركز مصادفة، بعد لقائه بالدكتور، وهو يمر في ورش السبح والأخشاب، وفتح له بابا لم يكن يعلم أنه سيفتح: "الدكتور إبراهيم أعاد لي الشعور بأهمية ما أفعله، رغم أن البعض يقلل من أهمية الحرف اليدوية ويراها بلا مستقبل".

تجهيز الأخشاب وتوطئتها  للعمل عليها سواء كعصا أو أي أشكال أخرى"، يحكي البرنس أنه مهمة شاقة يقوم عليها أكثر من عامل في الورش التقليدية، إلا أن المركز وراتبه المستقر،  أتاح له الوقت المفتوح لتجهيز كل قطعة على حدة، وإخراجها في أفضل صورة.

لا تزال أحلام الدكتور إبراهيم قسيسية للجمالية لم تنتهِ، رغم كل الروتين الحكومي والتعقيدات، وكل محاولات إيقاف ذلك الحلم، إلا أنه لا يزال مستمرا.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان الدکتور إبراهیم للحرف التراثیة

إقرأ أيضاً:

جولة جديدة خلال أيام - صحيفة: حراك وتكثيف لمحاولات إحياء مفاوضات غزة

قالت صحيفة "الشرق الأوسط"، مساء اليوم الخميس 31 يوليو 2025، إن محاولات الوسطاء تتواصل لإحياء مفاوضات وقف إطلاق النار بين إسرائيل و" حماس "، وتتحرك الولايات المتحدة مجدداً باتجاه هذا الملف.

وأكدت مصادر من "حماس" وخارجها للصحيفة، أن هناك اتصالات مكثفة تجري في اليومين الأخيرين من أجل محاولة إعادة الحركة وإسرائيل إلى طاولة المفاوضات، مرجحةً أن تكون هناك جولة مفاوضات جديدة في الأيام المقبلة في ظل ضغوط الوسطاء المتواصلة.

وفي ذلك الإطار أوفدت الولايات المتحدة مبعوثها الخاص ستيف ويتكوف إلى إسرائيل، حيث بدأ اجتماعاته برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو . وكان مسؤول إسرائيلي قد أكد، مساء الأربعاء، أن إسرائيل قدمت ردها على ما طرحته "حماس" في إطار جولة المفاوضات التي جرت مؤخراً في الدوحة.

وتقول المصادر إنه تجري محاولات من الوسطاء لتقريب وجهات النظر من جديد وسد الفجوات، بهدف عودة المفاوضات واستكمالها عند نقاط الخلاف التي توقفت عندها.

ووصفت مصادر، واقع الاتصالات والمفاوضات بأنها صعبة جداً، مشيرةً إلى أن قيادة "حماس" تتعرض لضغوط قوية من الوسطاء وبعض الدول التي لها علاقات بالحركة.

وتوجه وفد قيادي من "حماس" في الدوحة إلى تركيا هذا الأسبوع لإجراء محادثات داخلية موسعة، وكذلك مع قيادات فصائل فلسطينية، وللقاء مسؤولين في الاستخبارات والخارجية التركية.

وقالت مصادر إنه في حال حدوث تقدم في الاتصالات الجارية، فإن مصر قد توجه الدعوة لوفود من الفصائل الفلسطينية لزيارتها للتباحث مع المسؤولين بجهاز المخابرات المصرية في ملف الهدنة.

وتحاول "حماس" في الأيام الأخيرة، إعلامياً أو من خلال اتصالات تجريها، إلى ربط قضية تحسين واقع إدخال المساعدات والسماح بتأمينها لوصولها بشكل آمن لأهل غزة باستئناف المفاوضات، الأمر الذي دفع الوسطاء لزيادة الضغوط عليها لمنع وضع أي اشتراطات.

والأمر ذاته بات يُنقل أيضاً لإسرائيل، التي هددت بالعمل على ضم أراض من غزة، خصوصاً في المنطقة العازلة التي تعمل على توسيعها على طول حدود القطاع، في حال لم تقدم "حماس" رداً إيجابياً يسمح بتقدم المفاوضات والتوصل إلى اتفاق قريب.

ويأتي ذلك بعد خطاب ألقاه الحيَّة منذ أيام وانتقد فيه ما وصفه بـ"خذلان" قطاع غزة، مطالباً مصر والأردن، قيادةً وشعباً، بالعمل على دعم غزة ودرء الجوع عنها.

ووجهت وسائل إعلام مصرية وأردنية، وشخصيات مؤثرة من صحافيين وناشطين عبر شبكات التواصل الاجتماعي، انتقادات حادة لخطاب الحية، وعدَّها البعض تحريضاً على مؤسسات الدولتين، فيما لم تصدر "حماس" أي تعقيب رسمي على تلك الاتهامات، والتزمت الصمت.

ولأول مرة، ينضم مسؤول رفيع من السلطة الفلسطينية، وهو حسين الشيخ ، إلى جوقة المعارضين لأي اتهامات بالتقصير لمصر والأردن. ووجَّه انتقاداً غير مباشر لخطاب الحية عبر تدوينة على حسابه بمنصة "إكس" صباح الخميس.

وكتب يقول: "وسط الهجمة المنظمة التي تستهدف مصر والأردن، لا يمكن تجاهل أن البلدين يقفان على خطوط تماس حساسة، ويحملان عبء استقرار المنطقة رغم التحديات".

وأضاف: "الهجوم عليهما ليس عفوياً، بل هو جزء من محاولات خبيثة لإضعاف مواقفهما وضرب أي توازن عربي".

وتابع: "من يهاجم مصر والأردن اليوم، يتجاهل عمداً دورهما في دعم القضية الفلسطينية، ووقوفهما سداً منيعاً ضد تهجير شعبنا، ودعم صموده وثباته على أرض وطنه، والجهد السياسي المشترك مع الأشقاء والأصدقاء لوقف حرب الإبادة والتجويع، وتوسيع دائرة الدول التي أبدت استعدادها للاعتراف بدولة فلسطين"، موجهاً التحية لـ"مصر والأردن قيادةً وشعباً على المواقف الراسخة والثابتة والمنتصرة لحق شعبنا في الحرية والاستقلال".

وصرحت مصادر من "حماس" للصحيفة، بأن مسؤولين مصريين من الذين يتابعون الملف الفلسطيني أبدوا خلال اتصالات مع قيادات من "حماس" انزعاجهم من تصريحات الحية.

وبينت المصادر أنه تم تفسير الخطاب داخل الحركة على أنه ليس تحريضاً أو انتقاداً لدور مصر والأردن، وإنما كان الهدف منه العمل على إغاثة سكان القطاع من خلال حث الشعوب والجهات الرسمية على التحرك بشكل أكبر لوقف المجاعة التي يعيشها القطاع.

وأضافت المصادر أنه تم توضيح ذلك للمسؤولين المصريين، وأنه يجري العمل على إعداد خطاب رسمي من قيادة الحركة سيوجَّه لمصر والأردن بهذا الشأن.

وقال مصدر قيادي من "حماس" في غزة إنه لم تجرِ استشارتهم بمحتوى الخطاب الذي ألقاه الحية.

المصدر : وكالة سوا - صحيفة الشرق الأوسط اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من آخر أخبار فلسطين الصحة العالمية: قطاع غزة يشهد حاليا أسوأ سيناريو للمجاعة مصر ترحب بإعلان كندا ومالطا اعتزامهما الاعتراف بالدولة الفلسطينية داخلية غزة تصدر بياناً بشأن فوضى توزيع المساعدات الأكثر قراءة جولة جديدة خلال أيام - صحيفة: حراك وتكثيف لمحاولات إحياء مفاوضات غزة تقارير إسرائيلية تكشف كواليس مفاوضات غزة بالدوحة ضغوط داخل الاتحاد الأوروبي للتحرك ضد إسرائيل بشأن غزة أوكسفام : الأمراض في غزة تشهد ارتفاعا خطيرة قد تتحول لكارثة قاتلة عاجل

جميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025

مقالات مشابهة

  • النخلة تراث عبر التاريخ مبادرة مجتمعية لطلبة سمد الشأن بالمضيبي
  • من المسرح إلى الحكي الشعبي.. مهرجان صيف بلدنا يعيد إحياء التراث
  • جولة جديدة خلال أيام - صحيفة: حراك وتكثيف لمحاولات إحياء مفاوضات غزة
  • وزير الصحة: 38 ألف طبيب مصري يعملون على علاج مصابي قطاع غزة
  • اليونسكو تدرج 26 موقع تراث ثقافي وطبيعي يمني على القائمة التمهيدية للتراث العالمي
  • 80 % من الإسرائيليين يدعمون التوصل إلى اتفاق يعيد جميع المحتجزين
  • خلافات عائلية.. «أمن القاهرة» يعيد فتاة لـ أسرتها بعد فقدانها في الشرابية
  • خلافات عائلية.. الأمن يعيد فتاة تركت منزل أهلها بالقاهرة
  • المنظمة الدولية للهجرة: وفاة 18 مهاجرًا قبالة سواحل طبرق وفقدان 50 آخرين
  • نائب رئيس الوزراء: 38 ألف طبيب مصري تم توفيرهم من أجل التعامل مع مصابي غزة