حين يصبح التخابر السياسي مشروعا .. كيف تُدار المؤسسات العراقية بمصالح إقليمية؟
تاريخ النشر: 18th, March 2025 GMT
بغداد اليوم - بغداد
منذ عام 2003، والعراق يتحوّل إلى ساحة مفتوحة للنفوذ الإقليمي والدولي، حيث تشابكت مصالح القوى الخارجية مع المصالح الحزبية، فتداخل الأمني مع السياسي، وامتزجت الولاءات المحلية بالحسابات الدولية.
لم تكن هذه التحولات مجرد انعكاس لصراعات القوى الكبرى فحسب، بل أصبحت جزءًا من بنية النظام السياسي العراقي نفسه، حيث تحولت المناصب الحكومية والمواقع الأمنية الحساسة إلى أدوات بيد جهات لها ارتباطات خارجية، بشكل مباشر أو غير مباشر.
وفي خضم هذا المشهد، يبرز السؤال الكبير: لماذا لا يفتح جهاز المخابرات العراقي ملف الشخصيات والأحزاب ذات الولاءات الخارجية؟ هل يعود ذلك إلى غياب المعلومات، أم أن الجهاز نفسه مقيد بسلاسل المحاصصة السياسية والطائفية؟ وإن كان القانون العراقي يجرّم التخابر مع جهات أجنبية، فلماذا لا تُطبَّق هذه النصوص على شخصيات نافذة واضحة الارتباط بقوى إقليمية ودولية؟
قانون التجسس في العراق: نصوص معلقة
في كل الدول ذات السيادة، يُعدّ التخابر مع جهات أجنبية جريمة يعاقب عليها القانون، سواءً كان ذلك عبر تقديم معلومات استخبارية لدولة أخرى أو تنفيذ أجندات سياسية لمصلحة قوى خارجية. العراق ليس استثناءً، حيث يجرّم قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 أي تواصل غير مشروع مع جهات أجنبية يُعرّض الأمن القومي للخطر.
لكن المشكلة لا تكمن في غياب القوانين، بل في غياب الإرادة السياسية لتفعيلها. فمنذ عام 2003، أصبح المشهد العراقي غارقًا في التوازنات الحزبية والمحاصصة الطائفية، ما جعل تطبيق هذه القوانين شبه مستحيل، خاصة عندما يتعلق الأمر بشخصيات نافذة تمتلك حلفاء داخل الدولة وخارجها. هذا التعقيد دفع جهاز المخابرات العراقي إلى التغاضي عن هذه الملفات، إما بحكم الأمر الواقع أو بسبب تدخلات سياسية تمنعه من ملاحقة شخصيات محسوبة على جهات نافذة.
المخابرات العراقية والمحاصصة السياسية: جهاز مكبَّل بالإرادات الخارجية
حينما يُطرح الحديث عن قدرة جهاز المخابرات العراقي على ملاحقة الأحزاب والشخصيات السياسية المرتبطة بالخارج، يتبادر إلى الذهن السؤال الأهم: هل يمتلك الجهاز صلاحية فعلية لملاحقة هؤلاء؟ المحلل السياسي سيف الهاشمي يرى أن المشكلة ليست في نقص المعلومات أو العجز الاستخباري، بل في طبيعة المهام الموكلة للجهاز، والتي لم تشمل – وفق تعبيره – "ملاحقة الشخصيات ذات الولاءات الخارجية، رغم معرفة الجميع بوجودها".
يؤكد الهاشمي بحديثه لـ"بغداد اليوم"، أن "جهاز المخابرات العراقي نفسه خضع لنظام المحاصصة الطائفية، ما يعني أن أي محاولة لملاحقة شخصيات معينة قد تُفسَّر على أنها استهداف طائفي أو سياسي، خاصة أن الكثير من هذه الشخصيات تأتي إلى مناصبها بدعم من قوى سياسية تمثل طوائف أو مكونات معينة. وبالتالي، فإن أي تحرك في هذا الاتجاه قد يُفجّر أزمة سياسية داخلية قبل أن يكون خطوة لحماية السيادة العراقية".
ويضيف أن "العراق بعد 2003 شهد عملية ديمقراطية بتدخل مباشر من الدول الكبرى، وهو ما سمح بتقاسم النفوذ والمصالح، ما جعل بعض الوزارات والهيئات الأمنية تُدار بشكل غير مباشر من قبل جهات تمتلك ارتباطات خارجية. لذلك، من غير المستغرب أن يكون هناك مسؤولون عراقيون يعملون وفق أجندات دولية وليس فقط لمصلحة العراق".
حينما يتعلّق الأمر بالنفوذ الأجنبي داخل العراق، فإن الأمر لا يقتصر فقط على شخصيات سياسية تدين بالولاء لقوى خارجية، بل يمتد إلى بنية الدولة نفسها. فالعديد من الوزارات الحساسة أصبحت تُدار من قبل شخصيات محسوبة على جهات خارجية، سواء من خلال الدعم السياسي أو العسكري أو حتى المالي. هذه الديناميكية جعلت القرار السياسي العراقي رهينة توازنات إقليمية ودولية، ما يفسّر عدم قدرة الحكومة على اتخاذ قرارات جريئة في قضايا تمس الأمن القومي بشكل مباشر.
ويشير الهاشمي إلى أن "وجود سفارات وقنصليات أجنبية داخل العراق، بالإضافة إلى التحالفات العسكرية والدبلوماسية، يُعطي انطباعًا بأن القرار الأمني في العراق ليس مستقلاً تمامًا، بل يُدار بتنسيق مع قوى دولية وإقليمية لها مصلحة مباشرة في الحفاظ على نفوذها داخل البلاد".
على مدار العقدين الماضيين، ظل العراق مشغولًا بتحديات أمنية ضخمة، بدءًا من الإرهاب العابر للحدود، ومرورًا بالحروب الطائفية، وصولًا إلى صراعات النفوذ بين القوى السياسية المتنافسة. هذه الأوضاع جعلت الأجهزة الأمنية، بما فيها المخابرات، تركز على قضايا تتعلق بحفظ الأمن والاستقرار، متجاهلة ملفات حساسة مثل "التخابر السياسي" والارتباط بالخارج.
ويؤكد الهاشمي أن "الحكومة العراقية، خلال السنوات الماضية، كانت منشغلة بمعالجة الأزمات الأمنية المتلاحقة، وهذا جعل قضايا مثل ملاحقة الشخصيات المرتبطة بالخارج مسألة غير ذات أولوية، رغم خطورتها على المدى البعيد".
في ظل كل هذه التعقيدات، لا يبدو أن هناك إمكانية حقيقية لفتح ملف الشخصيات السياسية المتصلة بالخارج. فالمصالح المتداخلة، والعلاقات العميقة بين الأحزاب العراقية والقوى الإقليمية، جعلت من المستحيل تقريبًا محاسبة شخصيات نافذة على خلفية ارتباطاتها الدولية.
وبحسب الهاشمي، فإن "العراق لن يشهد قريبًا أي تحرك جاد في هذا الملف، لأن المحاصصة السياسية تمنع ذلك، إضافة إلى أن التحالفات الحزبية تخلق حماية غير مباشرة لأي شخصية يُتهم بولائها للخارج، ما يجعل أي محاولة لفتح هذا الملف محفوفة بالمخاطر السياسية".
حالة "اللاحسم"
لا يزال العراق يواجه تحديات كبيرة في تحقيق سيادته السياسية والأمنية، في ظل تغلغل النفوذ الأجنبي في مؤسسات الدولة. وبينما تستمر التساؤلات حول دور جهاز المخابرات في كشف الشخصيات والأحزاب التي ترتبط بالخارج، يبقى الواقع يؤكد أن أي تحرك في هذا الاتجاه قد يُعرّض المشهد السياسي العراقي لاهتزازات خطيرة.
وفي ظل غياب الإرادة السياسية لتفعيل القوانين التي تجرّم الولاءات الخارجية، ستبقى هذه القضية مجرد "حديث إعلامي" دون أي خطوات عملية، مما يعزز حالة "اللاحسم" التي طبعت السياسة العراقية منذ 2003 وحتى اليوم. لكن السؤال الأهم الذي يفرض نفسه: هل يمكن للعراق يومًا ما أن يستعيد سيادته الكاملة بعيدًا عن التأثيرات الخارجية، أم أن هذه التدخلات أصبحت جزءًا لا يتجزأ من واقعه السياسي؟
المصدر: بغداد اليوم+ وكالات
المصدر: وكالة بغداد اليوم
كلمات دلالية: جهاز المخابرات العراقی
إقرأ أيضاً:
حرارة الأحداث.. حين يصبح الصيف بطلا صامتا في الأفلام
يقبل الصيف في السينما غالبا كرمز للحرية والانطلاق والرومانسية، لكنه في بعض الأفلام يتجاوز كونه مجردَ فصل زمني، ليتحول إلى عنصر حي وفاعل في بناء الحبكة. يحمل هذا الفصل تناقضا لافتا، إذ يجمع بين البهجة والمغامرة من جهة، وانكشاف الأسرار تحت وطأة الشمس الحارقة من جهة أخرى.
يعمد بعض المخرجين إلى توظيف هذا التناقض بذكاء، ليصبح الصيف محفزا للتغيرات الدرامية لا مجرد خلفية للأحداث. فهو قد يثير التوتر، أو يسرّع التصعيد، أو يكشف ما كان مخفيًا خلف واجهات الاسترخاء.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هوليود تنبش في أرشيفها.. أجزاء جديدة مرتقبة لأشهر أفلام الألفيةlist 2 of 2عودة الأدب إلى الشاشة.. موجة جديدة من الأعمال المستوحاة من الرواياتend of listمن الحرارة الخانقة التي تؤجج التوتر في "12 رجلا غاضبا"، إلى الشواطئ المشمسة التي تخفي كارثة وشيكة في "الفك المفترس"، يظهر الصيف في بعض الأعمال السينمائية كعنصر درامي لا يمكن فصله عن مسار القصة. في ما يلي مجموعة من الأفلام التي جعلت من الصيف شخصية في حد ذاته.
12 رجلا غاضبا ورمزية الصيفيعد فيلم "12 رجلا غاضبا" (12Angry Men) تحفة فنية سينمائية تعتمد على قوة الحوار والأداء التمثيلي المتقن لخلق دراما مشحونة بالتوتر الأخلاقي والنفسي داخل غرفة مداولات خانقة، العمل يحتل المرتبة الخامسة ضمن قائمة أفضل 250 فيلما بتاريخ السينما العالمية.
وفيه نجح المخرج سيدني لوميت ببراعة في استخدام زوايا الكاميرا وحركة الممثلين المحدودة في فضاء ضيق لتعزيز الشعور بالانزعاج، مما جعل المشاهد شريكا للأبطال في رحلة الشك والتفكير التي يقودها المحلف رقم 8.
تدور أحداث الفيلم حول هيئة محلفين من 12 رجلا عليهم حسم مصير فتى مراهق متهم بقتل والده، ومع أن القضية تبدو بسيطة وواضحة إلا أن تصويت المحلف رقم 8 بكون المتهم غير مذنب -على عكس البقية- يجعل الجميع يضطرون إلى مراجعة قرارهم المخالف له بعيدا عن تسرعهم في الحكم وتحيزاتهم المسبقة مختلفة الأسباب.
إعلانوقد لعب الصيف دورا محوريا في الأحداث خاصة مع إبراز حيثية، إن مكيف الهواء لا يعمل، من جهة كانت شدة الحرارة والتعرق عاملين محفزين على التوتر والانفعال ونجحا في خلق شعور بالضيق الجسدي لدى المحلفين، ومن جهة أخرى أثرا على مزاجهم العام وجعلهم راغبين في الانتهاء من الأمر في أسرع وقت، مما ساهم بتسارع وتيرة الأحداث وزيادة الخلافات بين الشخصيات وبالتالي مزيدا من التشويق.
أما الأهم فكان ما يجسده ذلك من رمزية ومرآة لحالة المحلفين، مشيرا إلى الضغط النفسي والعاطفي الذي يواجهه المحلفون، وهم يتخذون قرارا لن يلبث أن يغير مصير حياة كاملة لشاب صغير.
12 Angry Men (1957 dir. Sidney Lumet) (Cinematography by Boris Kaufman) pic.twitter.com/oNQYcZABwL
— Ebru Yıldırım (@Ebruyldrm_88) May 12, 2025
سيكولوجية الرعبسلسلة أفلام "أعرف ما فعلته الصيف الماضي" (I know what you did last summer) إحدى أشهر سلاسل أفلام الرعب بالتسعينات، تدور أحداث الجزء الأول عن 4 مراهقين يحتفلون بنهاية المدرسة الثانوية بالرابع من يوليو/تموز وأثناء عودتهم ليلا يدهسون خطأً رجلا، وبسبب خوفهم من العواقب يقررون إلقاء الجثة في البحر.
ما لم يحسبوا حسابه، أن يراسلهم أحدهم بعد عام برسالة فحواها أعرف ما فعلته العام الماضي، وتتوالى الأحداث في إطار يجمع بين الغموض والإثارة والرعب.
الصيف في هذا العمل من أبطال الحكاية، ليس فقط لأنه زمن وقوع الحدث الرئيسي الذي يحفز تغيير مجرى الأحداث، وإنما كذلك كونه رمزا لفقدان البراءة، إذ عادة ما يتزامن الصيف مع الحيوية والمغامرة، ومع وقوع الحادث ينتهي شبابهم الطائش ويبدؤون عهدا جديدا من البارانويا والشعور بالذنب جنبا إلى جنب.
وأخيرا كون الأحداث تجري في مدينة ساحلية في فصل الصيف، لن تلبث المدينة أن تكون مليئة بالسياح، وهو ما يخدم الحبكة ويزيد من الاحتمالات المرعبة وحقيقة أن القاتل قادر على التخفي وسط تلك الحشود.
علاقات صيفية في مملكة بزوغ القمر
سام وسوزي طفلان في الثانية عشرة من العمر وبطلا فيلم "مملكة بزوغ القمر" (Moonrise Kingdom)، يلتقيان في صيف 1965 في عرض مسرحي للكنيسة ويصبحان صديقين بالمراسلة بعدها، قبل أن يتفقا على الهرب سويا إلى البرية في سبتمبر/أيلول، ومع تنفيذ مخططهم يبدآن مغامرة من طراز خاص بينما تبحث عنهم العائلات.
يرمز الصيف هنا إلى البدايات الجديدة، حيث تتفتح قلوبهم ومشاعرهم على الحب لأول مرة، كذلك يمثل فترة الحرية والهروب من الواقع والقيود التي يفرضها عليهما عالم الكبار، ورغم المشاعر البريئة بينهما وشغفهم بما يفعلان، يمنح الصيف المشاهد انطباعا بأن العلاقة مؤقتة ولن تلبث أن تنتهي بانتهاء ذلك الفصل كعادة العلاقات العابرة بالأوقات المشابهة.
أما فنيا يزيد الصيف من جماليات اللوحة البصرية التي تتميز بها أعمال المخرج ويس أندرسون الذي يعرف كيف يخلق خلفية بصرية دافئة وحالمة ولوحات غارقة في الألوان الحارة والإضاءة الطبيعية الساحرة.
A really depressing thing about Moonrise Kingdom is that it's one of the last great Bruce Willis performances. pic.twitter.com/eVFM33NRwe
— Charlie Stolz (@Charliestolz) June 3, 2025
إعلان ماما ميا وجماليات اليونانيعد فيلم "ماما ميا" من الأعمال الدرامية التي لا تفقد جاذبيتها، خاصة عند مشاهدته في فصل الصيف، حيث الإجازات والبحث عن أجواء من المرح والانطلاق. وقد كان لاختيار الصيف خلفية زمنية للأحداث دور كبير في تعزيز الروح التي تجمع بين الرومانسية، التحرر، والاسترخاء.
جاء اختيار هذا الفصل تحديدًا لأنه يشجع على اللقاءات والتواصل، ويوفر أجواء مثالية للاحتفالات، وفي مقدمتها حفل الزفاف الذي يدور عنه جزء كبير من القصة. كما يمثل الصيف رمزا للأمل والنضج العاطفي، يتجسد في رحلة صوفي لاكتشاف هويتها ومعرفة من يكون والدها الحقيقي.
إضافة إلى ذلك، أتاح الصيف للفيلم استغلال الجمال الطبيعي للجزيرة اليونانية، والتأثير على اختيارات الألوان، الأزياء، وحتى المقطوعات الموسيقية والأغنيات المليئة بالحيوية، مما جعل من الأجواء الموسمية عنصراً أساسياً في تشكيل المزاج العام للفيلم.
HAPPY 50th JAWS! One of the greatest films of all time turns 50 this year! This movie created a whole new genre of cinema, the summer blockbuster! This film taught me a valuable lesson that still resonates with me to this day: Smile, you son of a b-tch! #Jaws pic.twitter.com/DHVnU2a95Y
— Frank Williams (@ifrankwilliams) May 15, 2025
فك مفترس في الطريق إليكفي فيلم "الفك المفترس" (Jaws) يلعب فصل الصيف دورا أساسيا في الأحداث، اختيار الزمن هنا حاسم وذو مغزى ويوضح دوافع الشخصيات، من جهة تجري الأحداث في مدينة ساحلية صغيرة مما يعني زيادة عدد الضحايا المحتملين للقرش وعليه مضاعفة جرعة الأدرينالين وزيادة التشويق.
ومن جهة أخرى كون الأحداث تدور في بلدة صغيرة وللأهمية الاقتصادية للسياحة الصيفية يصر العمدة على إبقاء الشواطئ مفتوحة رغم الهجمات الأولية للقرش خوفا من خسارة الإيرادات التي تدرها السياحة والمصطافون مما يزيد حدة الأزمة وتشابك الأحداث.
والأهم أن الجو المتناقض بين الطقس الصيفي المشمس وألوان البحر الغارقة في الزرقة وبين الرعب والعنف الذي يجلبه القرش، يجعل الهجمات أكثر صدمة وتأثيرا على المشاهد خالقا جوا من التوتر والقلق العارمين.