???? حميدتي: النفس والقرين.. البداية والنهاية
تاريخ النشر: 19th, March 2025 GMT
“أشق الحروب هي حرب الإنسان مع نفسه، وهو عين ما فعله حمدان بنفسه”- جيتي
“أشق الحروب هي حرب الإنسان مع نفسه، وهو عين ما فعله حمدان بنفسه”- جيتي
إن دراسة الخصائص الشخصية والنفسية للقادة مدنيين أو عسكريين، متفقين معهم كنا أو مختلفين، تظل أمرا مهما في سياق الحاجة لمعرفة توجهاتهم وطرائق تفكيرهم، بهدف التنبؤ بخطواتهم اللاحقة وبكيفية تعاملهم مع المواقف والأحداث.
وحين تكون الشخصية محل النظر والتقييم مؤثرة في حياة الناس سلبا أو إيجابا تزداد أهمية ذلك، فعلم النفس حول سلوك وسمات القادة الفعّالين، يكشف كيف يؤثر القادة على مواقف أتباعهم وسلوكياتهم وأدائهم.
تلك كانت مؤشرات الدراسات الاجتماعية والنفسية حول القادة، ونحن هنا أمام حالة ربما يعجز حتى علم النفس الحديث عن سبر أغوارها وتناول شخصيتها التي حطت رحالها على عجل في المشهد السياسي والعسكري السوداني، فهي بلا تاريخ ولا حيثيات مقنعة لتتصدر كل هذا المشهد ولتلعب كل هذه الأدوار الخطيرة والمدمرة، إنها شخصية قائد مليشيا الدعم السريع المتمرد محمد حمدان دقلو، المعروف بـ”حميدتي”.
من خلال هذا المقال نتلمس نشأته في بواكير حياته الأولى ليتضح من غير عناء أن شخصيته كانت أقرب لـ”المادة الخام” التي لم تُستصلح بالتطوير ولم تكتسب قيمتها بالإضافة، فهو لم ينل حظا وافرا من التعليم، فقط مجرد إنسان بدوي بسيط على سجيته اكتسب بعضا من طبائع البادية، حيث يولد الناس هنالك أغلبهم أذكياء بالفطرة وشجعان بالميلاد، تطغى فراستهم على خوفهم وصدقهم على كذبهم، ورعايتهم للعهود على خيانتهم لها. بهذه الشخصية “الخام” وبكثير من الطموح القاتل الناتج عن الحرمان ولج حميدتي للمدن ودخل العواصم، ثم رأى الحضر وأهله لتختلط عليه الأمور، متناسيا البادية ومتنكرا لطبائع أهلها.
وحول أخلاق أهل البادية يقول ابن خلدون بأنها مكان لجملة من الفضائل الإنسانية ويرى أن “البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر، وإن البادية أصل العمران، والأمصار مدد لها”. ثم يرى لاحقا أن الحضارة “تُضعف من يملك أسبابها، ويستسلم لنعيمها، فتفسد طبعه، ويستولي عليه الترف، فيفسد ويضمحل”.
وفي فصول أخرى يبدي ذمَّه لبعض حالات البداوة، وانتقاصه من شأنها مثل حديثه في أن العرب (ويعني البدو) إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب.
لقد حل الخراب بالسودان يوم أن دخل الجنرال المتمرد حميدتي في متاهة الدنيا الجديدة، دنيا الحضر بتعقيداتها وتشعباتها العصية على مدارك فهمه وقدرة استيعابه، هنالك حيث عِلية القوم وأكابر الناس، وحيث القادة العسكريون الحقيقيون تملأ النجوم والنياشين أكتافهم، تفتح لهم الأبواب وتقف لهم طوابير الشرف، فيها رأى أصحاب المال والأعمال وخالط الأثرياء واحتك بالعوائل الغنية، فوجم مصدوما وكافرا بالبادية وكريم أخلاقها قائلا بلسان حاله: هذا ربي هذا أكبر.
في هذا العالم الجديد حيث مباهج الحياة ومغريات المدن دخل حمدان في متاهة عميقة من الحوار العنيف بينه وبين ذاته، يحاور نفسه ويستمع لصداها وهو يريد أن يكون كل هذا، قائدا عسكريا عظيما كتفا بكتف مع الجنرالات عبود وسوار الذهب والنميري والبشير والبرهان، ورأسماليا كبيرا يكنز الأموال ويحتكر الأعمال، يشيد المصانع ويناطح الأثرياء، يريد أن يصبح زعيما سياسيا ضخما له من الأتباع ما يبز الترابي وآل المهدي والميرغني.
باختصار هو يرغب في أن يكون كل هذا وبأقصى سرعة، وطالما وجد الطريق سالكا نحو مقعد الرجل الثاني في الدولة، لِمَ لا يكون الأول ورئيسا للسودان؛ كل السودان بمثقفيه ونخبه وعلمائه وجامعاته، بتاريخه ونضالاته من لدن مملكة سنار وسلطنة دارفور إلى المهدية وجمعية اللواء الأبيض، ومنذ مثقفي نادي الخريجين وحتى مأثرة رفع الأزهري والمحجوب لعلم دولة 56 على سارية الاستقلال.
لمَ لا وقد اجتمع له ما لم يجتمع لغيره، المال والرجال، السلاح والنفوذ، وفوق هذا وذاك الوهم الذي بلغ به حدا جعله يعتقد أن أي شيء في السودان قابل للبيع والشراء؛ الذمم والمواقف، الرجال والنساء طالما كانت مناجم ذهبه لا تنضب، لقد وصل حمدان إلى نفس نقطة اللاعودة والاستكبار عند فرعون.. (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي- صدق الله العظيم).
هذه الشخصيات المتعددة التي تعيش في جلباب حميدتي وفي داخل نفسه سولت له أمره وصنعت تلك الشخصية الجديدة المُتخلقة الشخصية (الهجين) التي تُمسي هنا وتُصبح هنالك، تُصالح اليوم وتُعادي غدا، تدخل في هذا الحلف وتنشئ غيره، تقول الشيء وتفعل ضده.
الشخصية الهجين هذه كانت أسيرة لثلاثية “الجهل والمال والطموح”، فاندفعت ثم انتفخت للحد الذي قادها لتنفجر على نفسها، لقد ظن حمدان أن بمقدوره أن يتملك السودان بأرضه وشعبه وتاريخه وأنه سيتوج نفسه أميرا عليه وعلى المهاجرين الجدد المتناسلين من عرب الصحراء والمرتزقة الذين فقدوا سبل كسب العيش في بلدانهم فجاؤوا يعتاشون هنا كـ”كسيبة” ونهابين، فيكتب للتاريخ والأجيال القادمة أن الأمير دقلو الأول هو من أرسى قواعد دولة آل دقلو في عصور سابقة على أرض دولة كان اسمها السودان.
كانت تلك شخصية حميدتي المزهوة التي عبر عنها بعد يومين من اندلاع الحرب بكل غرور الدنيا وصلف العالمين حين قال: “البرهان ما عندنا معاه كلام، يسلم بس وكان ما سلم بنستلمه”.
كان حميدتي في داخله مفتونا بالنخبة السودانية بوعيها وتاريخها بأرستقراطيتها وأمجادها وبأسلوب حياتها، لقد اجتهد ما وسعه الجهد في مجاراتها، وعندما عجز ورأى نفسه صفرا في مكيال التعليم وميزان الثقافة امتلأ حقدا عليها وراح يتعالى بالنياشين الكذوبة على كتفه وبالمال الحرام في خزائنه، لقد امتلأ حقدا حتى فاض مهددا سكان العاصمة الخرطوم قُبيل الحرب “لو قامت الحرب عماراتكم السمحة دي إلا تسكنها الكدايس”، يقصد القطط.
إن أشق الحروب هي حرب الإنسان مع نفسه، وهو عين ما فعله حمدان بنفسه، من النعيم إلى الجحيم، ومن سعة الدنيا إلى ضيقها، من كل شيء إلى لا شيء.
ومن عجب أن المباهج ومغريات المدن لم تنسه البادية وحدها بل أنسته حتى طباعها التي جُبلت على مكارم الأخلاق، حين خاض حربه بلا مكارم وبلا أخلاق، فحمدان ومرتزقته لم يكونوا رجالا ولا فرسانا حيث خاضوا حربهم بأحط درجات الجبن والنذالة؛ حرب الاغتصاب وإذلال المُسنين، حرب السرقات واللصوصية وحرب استباحة أملاك الناس والتعدي على حقوقهم وحرماتهم، هكذا كانت حرب الجنجويد من النوع البشع الغارق في الرذائل.
الآن أكملت حرب الجنجويد على السودانيين عامها الثاني وهي تمضي نحو خواتيمها إلى طردهم وإنهاء أسطورة حميدتي الذي لم يتمكن من استلام البرهان ولا من حكم السودان، بل انتهى إلى مصير غامض وخائب ما بين هارب متخف من ميدان المعركة أو مريض مُقعد لا يقوى على شيء، إلى ميت لا وجود له إلا من خلال فيديوهات قصيرة يعتقد أغلب السودانيين تهكما أنها مفبركة من إنتاج الذكاء الاصطناعي بهدف خديعة جنوده الجهلاء بأن القائد معهم وبينهم في ميادين القتال يخوض المعارك.
لم يحقق حميدتي شيئا ولم ينجح في شيء إلا الهزيمة واكتساب كراهية السودانيين ولعناتهم التي ستلاحقه حيا وميتا، فمشاعرهم الغاضبة لن تغفر تلك الآلام وذلك البؤس الذي صنعه بهم، فهي لم تتفق مجتمعة كاتفاقها على كراهية حميدتي ومليشياته للدرجة التي تحولت إلى مزاج شعبي ومجتمعي عام ولن ينساها السودانيون ولن تطويها الأيام.
المشروع الوحيد عند حميدتي هو مشروعه الشخصي القائم على الطموح القاتل، وحتى هذا كان أمرا هلاميا بلا سيقان أو هوية محددة تمكنه من التنفيذ، غاب بالتالي مشروعه بغيابه هو كقائد وانتهى كل شيء، الأحلام والأماني والقوات التي لا تقهر ولا تخسر، وتبقت جزر المليشيا معزولة مقهورة تنتظر مصيرها المحتوم بالموت والهلاك
انتهى حميدتي إلى كونه ظاهرة صوتية تظهر من حين لآخر عند كل هزيمة كبيرة يلحقها به الجيش السوداني، يبدو دائما في حالة مزاجية سيئة؛ يكيل الشتائم والسباب على الجميع بطريقة أقرب للتشنج والتوتر ثم يُمنّي من تبقى معه من مرتزقة بنصر قريب ولكنه لا يأتي.
ولأن حميدتي لا يملك مشروعا واضح المعالم السياسية والفكرية، غير تلك الخطابات الارتجالية التي تصنف تحت بند الكلام الدارج الذي يقال أمام الناس هكذا وفقا لما يطلبه المستمعون والذي يقابله عادة الناس كفاصل درامي يلعب فيه حميدتي دور البطل المهرج، فقد كان وفاض القائد خاليا من أن يقدم مشروعا متكاملا يوازي أحلامه العريضة ورغبته الجامحة في حكم السودان.
المشروع الوحيد عند حميدتي هو مشروعه الشخصي القائم على الطموح القاتل، وحتى هذا كان أمرا هلاميا بلا سيقان أو هوية محددة تمكنه من التنفيذ، غاب بالتالي مشروعه بغيابه هو كقائد وانتهى كل شيء، الأحلام والأماني والقوات التي لا تقهر ولا تخسر، وتبقت جزر المليشيا معزولة مقهورة تنتظر مصيرها المحتوم بالموت والهلاك.
كان ذلك هو حميدتي ومشروعه الهلامي الذي ما استقرت له وجهة ولا عُرف له مؤيدون سوى أصحاب العاهات النفسية والمتخلفين عقليا في المجتمع ممن تم شراؤهم بحفنة من المال الحرام، سقط هذا المشروع بسقوط صاحبه وشيُع متبوعا بلعنات السودانيين ودعوات المظلومين.
انتهى حميدتي وانتهت قواته، وبقي السودان رغم ما به من جراح غائرة وحريق ورماد ودمار، إلا أنه سينهض ويحلق في الفضاءات من جديد كما يفعل الفينيق معلنا عودته للحياة مرة أخرى، فإرادة الشعوب الحرة لا تنكسر وعزائمها الأبية لا تخور.
قبيس أحمد المصطفي
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
نعم.. منذ البداية كان سقف حرية التعبير عاليًا
عبدالنبي الشعلة **
وأنا أجول بين أوراقي القديمة المبعثرة، استوقفتني وريقات بعنوان "الفعالية الأولى التي نظمتها أسرة الأدباء والكتاب البحرينية"، وهي الجمعية التي أُسست في العام 1969، وكنتُ قد حَضرتُ الفعالية، ودونت في تلك الوريقات جملة من الملاحظات والانطباعات والمعلومات والمقاطع الشعرية، لكنني اكتشفت الآن أن ما كتبته يعاني من بعض الفجوات التي قام بسدها مشكورًا الأخ الكاتب أسامة الماجد، ابن الأديب والصحفي الراحل محمد الماجد.
الفعالية كانت أمسية شعرية، أقيمت في قاعة "نادي النسور" بالمنامة في الثالث من يناير 1970 تحت شعار "الكلمة من أجل الإنسان"، وقد صادف انعقاد الفعالية وجودي في البحرين عائدًا من مومباي أثناء عطلة رأس السنة الميلادية، وكنتُ حريصًا على حضور كل الفعاليات المتاحة في تلك الفترة، ومنها، أو من أهمها، الأمسية المذكورة التي نظمتها أسرة الأدباء والكتاب.
شارك في تلك الأمسية عدد من أبرز شعراء البحرين، الشباب وقتها، منهم قاسم حداد وعلوي الهاشمي وعلي عبدالله خليفة وحمدة خميس، ولا يزال المشهد عالقًا في ذهني حتى بعد مُضي أكثر من نصف قرن، فليس كحالنا اليوم؛ إذ بالكاد يحضر 20 إلى 30 شخصا في مثل هذه المناسبات، فقد كانت القاعة في تلك الأمسية مكتظة بالحاضرين من كبار المسؤولين ووجوه المجتمع والمهتمين بالأدب والثقافة وعشاق الشعر ومتذوقيه وقامات الشعر والأدب، ومن بينهم الأستاذ إبراهيم العريض، والكاتب الكبير محمود المردي، وغيرهما، والمفكر الدكتور محمد جابر الأنصاري، الذي ألقى كلمة أسرة الأدباء والكتاب في المناسبة.
كانت أمسية متميزة، تبارى فيها الشعراء المشاركون في استعراض ملكاتهم وإمكانياتهم الشعرية، وعبروا فيها عن رؤاهم بجرأة وصدق، وقد تجلى في تلك الأمسية وفي أول فعالية لتجمع أدباء وكتاب البحرين مدى ارتفاع سقف حرية التعبير عن الرأي في البحرين منذ ذلك الوقت، على الرغم من أن البريطانيين كانوا، حتى العام 1971، يمارسون تحكمهم ونفوذهم على دول المنطقة، وكان من بين أبرز أوجه هذا الارتفاع قصيدة "من أبجدية القرن العشرين" للشاعر قاسم حداد، التي ألقاها في الأمسية والتي جاء في أحد مقاطعها:
أوامر السلطان تمنع في زماننا السلام
وتمنع الإصغاء والتفكير والغرام
وتمنع الأحلام في المنام
وتمنع الكلام في زماننا وتمنع السكوت
الحكم في زماننا العقيم عنكبوت
والخوف عنكبوت
وعالم الظلم الذي يعيشه الإنسان لم يمت
ما دامت العيون لا تبصر ما يدور
في داخل القصور
والحقد في الصدور
والحكم في أيامنا ينام في تابوت
فصفق له جميع الحاضرين بحرارة. ولا شك في أن السلطان المُشار إليه في القصيدة هو السلطات البريطانية وقتها، وهذه الحقيقة تتضح من سياق باقي القصيدة، فعلى سبيل المثال، فإن المقطع الخاص بحرف "الخاء" من الأبجدية كان متعلقًا بهموم الخليج العربي، الذي كان يقع في دائرة تسلط البريطانيين، سادة البحار وقتها، وجاء فيه:
تمزقت خيامنا وانتحب الخليج
فانكسرت أعمدة الزجاج
وارتفع احتجاج
فكان أن يضيع في الضجيج
فأخطبوط البحر لا يخاف
من صرخة الأطفال والنساء
وهمسة المساء
وعلي الرغم أيضًا من حساسية المسيطرين البريطانيين والأنظمة الحاكمة في المنطقة ومعظم دول العالم، من أي شيء له صلة بالشيوعية وقتها؛ خصوصا أيًّا من رموزها وقادتها، فقد أغدق قاسم حداد الإشادة والثناء بالرمز الشيوعي اللامع تشي غيفارا، فتحت حرف "الغين" من الأبجدية ذاتها قال:
صوت غيفارا يجيء
صوته الساخن مثل الحب يأتي عبر غابات الجنوب
مثل نسر يقطع الأبعاد في الليل المسافر
صوت غيفارا هدير الريح ثائر
يا رصاصات تجوب
يا جراح الأرض في جلد الرجال.. أي ليل لا يموت
تحت وقع القدم الخضراء.. يا ليلا يموت
صوت غيفارا كصوت المستحيل
يقطع الأبعاد من كوبا.. إلى غابات بوليفيا
إلى أرض الجليل
صوته يأتـي ليجتاح الموات
ويخض الحجر المرصوص في جرح الحياة
صوت غيفارا وغيفارا يجيء.
وقوبلت كلمات الشاعر، بعد هذا المقطع أيضًا، بعاصفة من التصفيق والتأييد.
لم أكتفِ بما احتوته الوريقات من معلومات، وبحثتُ حتى حصلت على تسجيل مُصوَّر للحفل، وتأكدت أيضًا من أن السلطات الرسمية المختصة في البحرين -وقتها- لم تطلب من منظمي الفعالية تزويدها مسبقًا بما سيتم تداوله في الأمسية، ولم يتم استدعاء أو استجواب أي من المشاركين بعد انقضاء الحفل، ولم يتم حجب أو منع نشر وانتشار أي من القصائد التي ألقيت.
ولا أدري كيف ولماذا اختلطت وريقات فعالية أسرة الأدباء والكتاب، التي ذكرتها، بقصاصات أخرى احتفظت بها تضمَّنت قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، التي نشرها في العام 1988 تحت عنوان: "أيها المارون بين الكلمات العابرة" ومطلعها:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور كي تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف- ومنا دمنا.. منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى- ومنا حجر.. منكم قنبلة الغاز- ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
ويختتم محمود درويش القصيدة بالأبيات التالية:
ولنا الدنيا هنا، والآخرة
فاخرجوا من أرضنا، من برنا، من بحرنا، من قمحنا،
من ملحنا، من جرحنا
من كل شيء،
واخرجوا من مفردات الذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة
لقد هزّت هذه القصيدة، عند نشرها، المجتمع الإسرائيلي، وأثارت زوبعة من الجدل السياسي والإعلامي. وبلغ تأثيرها حد أن قررت الحكومة الإسرائيلية حينها إدراجها ضمن المناهج الدراسية، ليس تكريمًا لدرويش؛ بل لتحذير الطلاب من "الخطر الكامن في الشعر الفلسطيني"!
كما إن هذه القصيدة أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك، أن الكلمة الحُرة قادرة على اختراق الجدران، وأن للشعر سلطة لا تقل عن سطوة السلاح، إن لم تكن أقوى، ولو أن الفلسطينيين أنجبوا ألف محمود درويش فقط، لربما تمكنوا من تحقيق أهدافهم والحصول على حقوقهم المشروعة بالكلمة وحدها، عوضًا عن مراكمة آلاف المجاهدين وآلاف البنادق والصواريخ؛ ذلك أن الشاعر المبدع لا يقتصر أثره على جمهوره الآني؛ بل يخلّد الموقف، ويوسّع صداه، ويجعل من وطنه قضية عالمية.
وفي زمننا الراهن، تزداد الحاجة إلى صيانة الكلمة لا كأداة تجميل؛ بل كوسيلة تعبير حرة ومسؤولة. ولعل في استذكارنا لتلك الأمسية الباكرة في تاريخ البحرين، ما يُعيد التأكيد على أن سقف حرية التعبير لدينا لم يكن يومًا منخفضًا، بل وُلد عاليًا، وعلينا أن نحرص على أن يبقى كذلك، وأن نعمل على رفعه بالحكمة، لا بالتحدي، وبالمسؤولية لا بالتهور.
** كاتب بحريني
رابط مختصر