دكتور الوليد آدم مادبو

أنزلق والموسيقى الدافئة تلتصق بجلدي،

وأدخل في تفاهة طريق

يؤدي إلى مدينة انتظار الأضواء الساطعة

(للشاعر كُوامِي دوز، ترجمة صلاح محمد خير، نزوى - العدد المائة وعشرون، ص:221)

إن الجهود التي بذلها الجيش السوداني مؤخراً لاستعادة القصر الجمهوري لم تكن ذات جدوى ولا تبرر تضحية الجند أو استشهاد صغار الضباط وكبارهم خاصة إذا علمنا أن هذا البهو الخرِب قد فقد رمزيته وقيمته المعنوية يوم أن اتخذته العصابة الإنقاذية مقرًا للتآمر على أبناء الوطن والتفنن في الوقيعة بينهم.

وها هو طيران الجيش السوداني يرتكب نهار الإثنين 24 مارس 2025م بمنطقة (طُرّة) بجبل مرة واحدة من أبشع المجازر في هذه الحرب حيث قصف سوق المنطقة بعدد هائل من البراميل المتفجرة أودت بحياة 400 شخص حسب التقديرات والاحصاءات الأولية. إن مشهد الجثث المتفحمة والأشلاء المتقطعة الذي أبرزته مقاطع الفيديو المتداولة لا يسر بواطن النفس المؤمنة، لكنه مدعاة للتأمل في شأن الفتنة التي أوقدها الكيزان في ربوع السودان.

عندما اندلعت الحرب قبل عامين كان الدعم السريع يمتلك القوة العسكرية اللازمة لكنه افتقر يومها إلى المخطط أو الاستراتيجية لاستلام السلطة، كلما اتسعت رقعة الحرب وطال أمدها تناقصت شرعيته السياسية بحسب الانتهاكات التى طاولت المواطنين، ووجدت القيادة نفسها في حالة دفاع عن المشروعية وعن القدرات الأداتية التي تتطلبها الدولة لتوفير الأمن والخدمات للمواطنين. ولم يزل الدعم السريع حتى فترة قريبة، وذلك قبل توقيع الميثاق وإقرار الدستور، متردداً يفتقر إلى استراتيجية إعلامية مُحكمة وإلى وفلسفة حُكميّة عادلة تؤهله للخروج من خانة المظلومية وتحثه لاستشراف آفاق مستقبلية رحبة.

كان جند الدعم السريع منضبطين حسب أراء الشهود في الأسابيع الأولى لكن جلهم انشغل بالغنائم يوم أن انفلت عقال القوات النظامية ورأوا الفوضى تدب في محيط العاصمة المثلثة. وكان ذلك ممّا خطط له الكيزان المفسدون كي يخلطوا الأوراق ويُخرجوا ذويهم من السجن، وقد شوهد على عثمان، نائب رئيس الجمهورية ومؤسس كتائب الظل، مزاحماً المساجين لحظة هروبه من السجن وهو بعد لم يعرف له مستقرّ. فيا لها من مهانة لرجل كان يتمثل المهابة!

الأخوان المسلمون (الكيزان المفسدون) يملكون "استراتيجية إعلامية" هي عبارة عن ضوضاء وخيلاء (تستثير حفيظة المواطن الذي يعاني من فراغ عاطفي ومن جهل متنامي)، ولا يملكون آلية لاستلام السلطة بمفردهم لأنهم يعلمون أنهم فئة من المنبوذين على الصعيدين، الاقليمي والدولي، وقد دلت التجارب أنهم مجرد لصوص بائسين استنكفوا عن توفير أبسط الخدمات للمواطنين، ولم يكتفوا بخلق كيان موازٍ للدولة يغتنون من عائدته، بل أوقدوا حرباً عجزوا عن حسم أوارها في أربع ساعات كما توقعوا فاستعرت المواجهة داخل العاصمة وانتقل القتال إلى باقي المدن ممّا تسبب في نزوح وتشريد وقتل واستباحة للمواطنين لم يتوقف حتى هذه اللحظة.

وكلما دعوا للتفاوض علهم يقوا الوطن شر التمزق ويحفظوا للجيش ماء وجهه تمادوا في غيهم، عوّلوا على بث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، واتخذوا من التدابير السياسية والإدارية ما يضمن الإنفصال الطوعي أو القسري لغرب البلاد، كما فعلوا تماماً بجنوب البلاد. وإذ تتقاصر همتهم دوماً عن هامة الوطن، فهم يتوهمون شعباً يسوسونه بالكذب والرياء وكافة أدوات القهر الصمّاء. هل يا ترى سيفلحون في قهر شعوب الشمال والشرق وقد تعمّدوا إهانة شعب الجزيرة بعد أن اطلقوا فيه يد المليشيات الباطشة جيئة وذهاباً بقيادة العميل المزدوج (كيكل)؟

استعان الكيزان بالمليشيات القبلية والعقائدية في حملة دعائية شعارها "جيش واحد شعب واحد" بيد أنهم تجنبوا فتح مراكز التجنيد وإعادة خدمة الضباط وضباط الصف اللائقين طبياً، أولئك الذين أحيلوا للمعاش تعسفياً، خشية أن تفلت قبضتهم عن الجيش وحتي لا ينقلب عليهم الضباط الأحرار (من بقي منهم)، وآثروا الاستعانة بفئة من المستنفَرين الذين لا يملكون أي احترافية أو مهنية، لكنهم مستعدين للتضحية بأرواحهم إذ غُسلت أدمغتهم من قبل شيوخهم، ووظفوا لخوض معركة لا يعرفون لها هدف استراتيجي أعلى غير رجوع "الحركة الاسلامية" للحكم واستعادة نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري.

وها هم، هؤلاء المستنفَرين، يتنمرون على الجيش ولا يحترفون بصولاته، بل يبخسونه حقه عند التسابق إلى شاشات "الجزيرة مباشر" التي تبث هذا المشهد الهزلي دونما أدنى انتباه للضرر الذي يمكن أن تُلحقه بالروح المعنوية "للجيش القومي"، بل ودون أن تكلف نفسها فحص هذه التسجيلات المرئية التي لا تعدو كونها توطئة معنوية مُعدة من قبل قادة المليشيات الكيزانية ومحاولة خبيثة منهم لتهيئة المشهد وترتيبه تدريجياً لرجوع هذه الفئة الضالة للحكم. السؤال الذي يطل برأسه هذه الأيام: ما الذي ينوي الكيزان تحقيقه من محاولتهم اليائسة للرجوع للحكم مرة أخرى وقد قننوا الفساد الإداري، شيدوا أروقة الإفلاس الفكري, دعموا النشوز الدبلوماسي، مهدوا للبؤس الثقافي والتربوي، أفشوا العهر السياسي، برعوا في تدمير الاقتصاد الوطني، اعتمدوا الاضمحلال الأخلاقي حيلة ومزقوا النسيج الاجتماعي جملة؟ لا أحد يدري الإجابة، ولا حتى من يدعمونهم من وراء ستار.

تعجز مصر عن حماية ظهرها وتخفق في استحداث استراتيجية سوية للتعامل مع الشأن السوداني، فهي لا تريد للجيش السوداني أن ينتصر بيد أنها لا تريد له أن ينهزم، فهي تستفيد دوماً من حالة التردي الأمني والاقتصادي الذي يفسح المجال لتدفق الموارد السودانية إلى أرضها دون رقيب أو حسيب؛ روسيا وإيران لن تتعسفا في التدخل في الشأن السوداني في هذا الظرف العصيب خشية استشارة الولايات المتحدة؛، تركيا تعلم تماماً فساد الكيزان فهي مطلعة على خباياهم وتدرك جيداً، مثلها مثل قطر، أن هذه الفئة لا مستقبل لها في حكم السودان. بيد أنهما لا يعرفان كيف يتعاملان مع "حكام السودان الجدد" أو كيف يتفاعلان مع جموع الريف الزاحفة وإذا شئت الغاضبة!

لا مستقبل للسودان إلا بالتخلص من نظام الإخوان الملسمين (الكيزان المفسدين) في السودان، بيد أن السؤال: ما هي الكلفة البشرية والمادية لذلك؟ القوى العظمى لا تهمها معاناة الشعب السوداني قدر ما يهمها كسر شوكة "الكيان العربي" ولن تستعجل في حسم المعترك سياسياً ودبلوماسياً طالما التدافع مستمر بين العرب الرعويين والمستعربة النيليين. واذا كانت المُحْصِّلة التخلص من هذه الجماعة الإرهابية التي أرقت مضاجع المجتمع الدولي، فلا بأس. لكن الغرض الأساسي هو خلق توازن جهوي وقبلي يسمح بالتساكن بين كافة المكونات السودانية.

ختاماً، بعيدًا عن السرد السطحي الذي تحاول الحكومة في بورتسودان الترويج له عبر أبواقها المحليين والعالميين، هنالك تحديات جمّة تواجه البرهان إن سلم له الأمر في الخرطوم وضواحيها، منها ما هو سياسي يتعلق بعسكرة السياسة وتسييس الهوية، ومنها ما هو اقتصادي يتعلق بخروج قطاعات كاملة من دورة الإنتاج، ومنها ما هو دبلوماسي يتعلق بمقاطعة المنظمات الإقليمية والدولية لهذا النظام البغيض، منذ أمد بعيد، ومنها ما هو اجتماعي يتعلق “بقانون الوجوه الغريبة” الذي يُمارس التمييز ضد أبناء غرب السودان، ومنها ما هو عسكري يتعلق بصعوبة دمج الميليشيات ذات الأجندات الأيديولوجية والقبلية المتباينة.

حتى يصل الكل لمعادلة "التعايش بين المواطنين" وليس فقط "التساكن بين الجيشين" لابد من الإقرار بأن ما حدث في 15 أبريل 2022 لم يكن تمرداً إنما انهيارٌ لمنظومة بدأت تتأكل منذ أمد بعيد، الأمر الذي يستلزم الركون إلى جوهر الموضوع (ما أسميته الجوهرة في بدء المقال) الذي يتمثل في ضرورة الإقدام بشجاعة وجرأة على "التسوية الوطنية الشاملة" إقراراً بالظلم الذي حاق بالكل منذ الاستقلال من جراء المركزية الباطشة ذات الصبغة العنصرية الفاحشة التي تستلزم إبرام الصلح بين الأعداء (قبل الأصدقاء) وعدم الاكتفاء بما تمليه الجمهرة (جمهور العوام) من إلزامية و"حتمية الحسم العسكري"، إنما الاحتفاء بالعقلانية المدنية، التي يرسخها رجال ونساء من ذوي الحكمة والعزيمة الماضية والإرادة النافذة.

auwaab@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: بید أن

إقرأ أيضاً:

وزيرة الانتقال الطاقي: القطاع المعدني سيشهد إصلاحا عميقا سيهم أربعة محاور تمهيدا لتحقيق السيادة الاقتصادية

أعلنت ليلى بنعلي، وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، أن الوزارة تعمل على تنزيل إصلاح عميق للقطاع المعدني بهدف تحويله إلى رافعة لتحقيق السيادة الاقتصادية، وتعزيز العدالة المجالية، سيهم أربعة محاور.

وأوضحت الوزيرة اليوم الثلاثاء بمجلس المستشارين، في جوابها عن سؤال شفوي حول « تشجيع الاستثمار في القطاع المعدني »، أن الإصلاح يشمل أربعة محاور، بما في ذلك مراجعة الإطار القانوني المنظم للقطاع، وإعادة تفعيل التراث المعدني الوطني، وإعادة هيكلة النشاط المنجمي في منطقة تافيلالت وفجيج، وإقليم جرادة.

وأشارت المسؤولة الحكومية، إلى أن الوزارة تعمل على إعداد مشروع قانون جديد يهدف إلى تعزيز حكامة تدبير المؤهلات المنجمية وتحفيز البحث والاستغلال، مع تثمين المواد المعدنية وتعزيز شروط السلامة والصحة وحماية البيئة.

وأكدت الوزيرة أن الإصلاح الجاري يشكل منعطفا نوعيا في مسار تحديث القطاع المعدني، وتحويله إلى محرك للتنمية المستدامة والعدالة الترابية.

وأوضحت المتحدثة، أن المحور الأول من هذا الإصلاح يرتكز على مراجعة الإطار القانوني المنظم للقطاع، موضحة أنه بعد تغيير القانون 33.13، تعمل الوزارة على إعداد مشروع قانون جديد يحمل رقم 72.24، يوجد حاليا قيد الدراسة بالأمانة العامة للحكومة.

وأكدت بنعلي، أن هذا النص أعد وفق مقاربة تشاركية، ويهدف إلى تعزيز حكامة تدبير المؤهلات المنجمية وتحفيز البحث والاستغلال، مع تثمين المواد المعدنية، وتعزيز شروط السلامة والصحة، وحماية البيئة، مشددة في السياق ذاته على أن مشروع القانون يكرس الاعتراف بالمعادن الاستراتيجية والنادرة، ويضع إطارا قانونيا خاصا لتثمينها، بما يعكس التوجهات الوطنية في الانتقال الصناعي والطاقي.

وبخصوص المحور الثاني من الإصلاح، والمتعلق بإعادة تفعيل التراث المعدني الوطني،  فقد كشفت بنعلي، أن الوزارة قامت بعملية واسعة لإعادة منح الرخص المسحوبة، والتي شملت 277 رخصة، منها 13 رخصة استغلال، لفائدة 78 شركة معدنية، 80 في المائة منها مغربية، التزمت باستثمارات تقدر بـ2 مليار درهم، وخلق حوالي 6000 منصب شغل مباشر.

وأشارت الوزيرة، إلى أن المحور الثالث يتعلق بإعادة هيكلة النشاط المنجمي في منطقة تافيلالت وفجيج، حيث تم إنجاز دراسات شاملة استعدادا لإطلاق عروض جديدة خلال يوليوز المقبل، تشمل منطقتين تعدينيتين: الأولى بالأطلس الكبير الشرقي (179 جزءا على مساحة 2195 كلم مربع)، والثانية بمنطقة تافيلالت-مايدر الخاصة بالرصاص والزنك (149 جزءا على مساحة 1000 كلم مربع).

أما المحور الرابع، تضيف بنعلي، فركز على إعادة هيكلة النشاط المنجمي بإقليم جرادة، حيث نظمت الوزارة زيارات ميدانية، تم آخرها في أواخر ماي المنصرم، حيث تم الإعلان عن مخطط يتضمن تدابير تمزج بين التحول الرقمي، وتحفيز الاستثمار، ومواجهة التحديات البيئية والاجتماعية، مشيرة إلى أنه يجري تنفيذ هذا المخطط بتنسيق محكم مع السلطات المحلية والفاعلين المعنيين.

 

 

كلمات دلالية اصلاح القطاع المعدني بنعلي تحقيق السيادة وزارة الانتقال الطاقي

مقالات مشابهة

  • السيادة السوداني يوافق على هدنة إنسانية في الفاشر لمدة أسبوع
  • خوان جارسيا بعد انضمامه لبرشلونة: المشروع جذاب وأتطلع لسنوات من البطولات
  • تعيينات المجلس الحكومي.. مدير جديد للمركز السينمائي و كاتب عام لوزارة الطاقة
  • طيران الجيش السوداني يقصف مواقع عدة
  • تحالف “الحلو” و”حميدتي” هل يسعى لتطويق الجيش السوداني في كردفان؟
  • لجنة الاقتصاد أقرت اقتراح قانون يتعلق بمفوضي المحاسبة
  • الإفتاء توضح مسؤولية الوالدين شرعًا تجاه الأولاد فيما يتعلق بالعبادات
  • وزيرة الانتقال الطاقي: القطاع المعدني سيشهد إصلاحا عميقا سيهم أربعة محاور تمهيدا لتحقيق السيادة الاقتصادية
  • ميسي يرغب في الانتقال إلى دوري روشن
  • المتحدث باسم وزارة الداخلية: أما الانتحاريان فالأول الذي نفذ تفجير الكنيسة الغادر، والثاني الذي ألقي القبض عليه وهو في طريقه لتنفيذ تفجير انتحاري في مقام السيدة زينب في ريف دمشق، فقد قدما إلى دمشق من مخيم الهول، عبر البادية السورية، وتسللا بعد تحرير العاص