قراءة في كتاب محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام

ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟

قراءة في كتاب (عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام)، دار محمد علي للنشر، صفاقس، تونس/ ومؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، 2024 (10-13)

بقلم سمية أمين صديق

إهداء المؤلف لكتابه:

“إلى شعوب السودان والإسلام والإنسانية جمعاء، وهي تتوق إلى التحرير والتغيير، فإني أهديكم هذا الكتاب، مستدعياً مقولة المفكر التونسي الدكتور يوسف الصديق: (محمود محمد طه هو المنقذ)”.

المؤلف

تناولنا في الحلقة السابقة من قراءتنا في كتاب الدكتور عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام. طرف من محاور الفصل التاسع من الكتاب، وهو بعنوان: محمود محمد طه في الفضاء الإسلامي والكوكبي: الأطروحات الجامعية والندوات والكتب والأوراق العلمية عنه. تمحور الفصل حول راهن التعاطي مع فكر الأستاذ محمود محمد طه، من خلال رصد حجم الأطروحات الجامعية (دكتوراه- ماجستير- دبلوم- بحث تخرج)، والكتب، والأوراق العلمية، والمقالات الصحفية، والندوات، والمحاضرات، واللقاءات الإعلامية (صحافية وإذاعية وتلفزيونية)، والأفلام الوثائقية، والترجمات، التي انجزت عن فكر محمود محمد طه في نحو (34) دولة حول العالم. جاء هذا الفصل، كما أوضح المؤلف، استجابة علمية لأسئلة متكرره طُرحت عليه في بعض المنابر، فقد قال: سألني البعض: هل هناك اليوم اهتمام بفكر محمود محمد طه؟ ولماذا ننشغل بفكر لا يهتم به أحد؟ فلقد نسي الناس الرجل ونسوا فكره وأوصدوا بابه، فلماذا التعب؟. وعبر البعض الآخر، قائلاً: وهل يصلح فكر محمود محمد طه بأن يكون ميداناً للحوار العلمي ومادة لإعداد الرسائل الجامعية؟ كما أشار المؤلف لتساؤلات عديدة وردت في بعض الكتابات وفي وسائل الإعلام، منها، قوله: تساءل المعلق في فيلم: “أفكار على حبل المشنقة”، الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية عام 2016، فقال المعلق: هل بقي من فكر محمود محمد طه ما يمكن أن يقدم؟ أو أن يدعا له، أم أنه انتهي بمقتله؟ أجاب الفصل عند هذه الأسئلة وغيرها، وفقاً للأسس الأكاديمية، والبراهين العلمية الدامغة. وكذلك وقف الفصل عند الإجابة على السؤال القائل: لماذا يهتم المؤلف بالمجال الأكاديمي؟ وغيره. ولقد قدمنا إضاءات حول ذلك في الحلقة السابقة، واليوم نستكمل الحديث.

لماذا المجال الأكاديمي؟

الأكاديميا و الفهم الجديد للإسلام ساحة التفوق على العلم المادي و بزه و ميدان إجراء المقارنة

صدَّر المؤلف حديثه بما كتبه الأستاذ محمود محمد طه، في العام 1972، حيث كتب الأستاذ محمود، قائلاً: “التبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المُبشر من سعة العلم بدقائق الإسلام، و بدقائق الأديان، و الأفكار، و الفلسفات المعاصرة، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز إمتياز الإسلام على كل فلسفة إجتماعية معاصرة، و على كل دين، بصورة تقنع العقول الذكية”. في تعبير عن أن الميدان الأكاديمي هو ميدان المتخصصين، الأمر الذي يتطلب من الداعية والمبشر بالرسالة الثانية من الإسلام سعة العلم بدقائق الإسلام وبدقائق الأديان والأفكار والفلسفات المعاصرة، وكل هذا ميدانه الفضاء الأكاديمي، حيث العلم المادي التجريبي، وهو أعظم شيء في صدور الناس اليوم. ولهذا فإن الميدان الأكاديمي، عند المؤلف، هو ميدان إجراء المقارنة، وهو ساحة تفوق الرسالة الثانية من الإسلام على العلم المادي التجريبي، وبزه والتفوق عليه. وهذا ما خاطبه المؤلف بقول الأستاذ محمود: “وحين كانت معجزة الرسالة الأولى من الإسلام هي بلاغة القرآن، فإن معجزة الرسالة الثانية من الإسلام هي (علمية) القرآن.. فإن هذا العصر الحاضر هو عصر العلم.. العلم المادي التجريبي.. هذا هو أعظم شيء في صدور الناس الآن، وسيجئ الحق، في الرسالة الثانية من الإسلام بصورة تشبه هذا العلم، ولكنها تبزه وتتفوق عليه.. وسيذعنون لها، وستستيقنها نفوسهم، وسينقادون لها.. لا يشذ عنها شاذ، ولا يعصي أمرها عاص”.

قدم دكتور عبد الله الفكي البشير، رصداً وتوثيقاً لما يدور في الفضاء الأكاديمي في العالم عن فكر الأستاذ محمود محمد طه، الأمر الذي كشف الاهتمام المتزايد يوماً بعد يوم، بالفهم الجديد للإسلام. وأعتبر عبد الله هذا الاهتمام دليل إثبات، على صحة الإجابة بأن هناك اهتمام مستمر بالفهم الجديد للإسلام و بالسيرة الفكرية لصاحبه، كما أن هذا الرصد قد كشف قصور معرفة الذين يقولون إن الناس قد نسوا فكر “الرجل و أوصدوا بابه”. ويقول عبد الله عن هذا الرصد أنه يقدم مؤشرات تفيد ببداية توسع الاهتمام الأكاديمي في الفضاء الإسلامي و الكوكبي، و يوضح كذلك الخريطة الجغرافية لذلك التوسع. ويضيف عبد الله: بما أنه غني عن القول إن الفهم الجديد للإسلام دعوة إنسانية لكافة الناس، كما جاء التفصيل في ذلك مع الحديث عن منهجها، و سبل الترقي في مراقيها. كذلك، و لما كانت المفاضلة بين الناس وفقاً للفهم الجديد للإسلام، تكون بالعقل و الأخلاق، و ليس بالدين أو العنصر أو اللون أو الجنس،.. فيكون من البديهي ألا تكون المفاضلة بالمستوى العلمي أو الشهادة الأكاديمية. و ذهب عبد الله ليؤكد بقوله:( ولهذا فإن اهتمامنا بالأكاديمية لا يجئ من تفضيل لها أو إغفال للعلم التجريبي الروحي، و إنما لكونها إحدى آليات العلم التجريبي المادي، الذي هو “أعظم شيء في صدور الناس الآن” وهو ميدان تفوق الرسالة الثانية من الإسلام عليه، و بزها له بمعجزتها، التي هي علمية القرآن، كما ورد في قول محمود محمد طه. أما عن دور الجامعات وغرضها فقد أورد المؤلف ما جاء في إعلان الحرية الأكاديمية 2005، و الذي صدر عن المؤتمر العالمي الأول لرؤساء الجامعات،جامعة كولومبيا و جاء فيه “يناط بالجامعات مسئولية حفظ معارف الماضي و نقلها للجيل التالي، و تعليم مواطني و مدرسي و قادة المستقبل، و السعي وراء اكتشاف معارف جديدة و التي من شأنها إما أن تدعم أو أن تدحض ماهو موجود بالفعل من أفكار و معايير. وهذا كله بغرض تعميق الفهم الإنساني و تحسين حالة البشرية “. و يضيف المؤلف أيضاً، أن الأكاديمية هي ميدان التنوير و التكوين، و بناء القدرات للشباب، فضلاً عن كونها مختبر البحث العلمي، الذي هو، كما ورد في بعض التعريفات: “عبارة عن نشاط علمي منظم يعمل على إستخلاص الإستنتاج. كما يكتسب المجتمع الأكاديمي أهمية من إتساع شرائحه، فهو يضم شرائح مختلفة. وأورد عبد الله تعريف إعلان ليما – الذي كان في ديسمبر 1988، للمجتمع الأكاديمي بقوله: ( المجتمع الأكاديمي) يغطي جميع الأشخاص الذين يقومون بالتدريس و الدراسة و البحث و العمل في مؤسسة للتعليم العالي”.

وعن شريحة الدارسين، الطلاب يقول المؤلف: ( ظل الشباب و الطلاب، الذين هم جزء من المجتمع الأكاديمي، موضع عناية محمود محمد طه و إهتمامه، بل أن دعوته بطبيعتها للشباب، و هي للطلبة بصورة خاصة، كون الطلبة هم “العتاد للغد” و هم حملة التغيير) يقول عبد الله :( تحدث محمود محمد طه، في العام 1975، قائلاً: “إن هذه الدعوة بطبيعتها للشباب، للشباب عامة، لسبب هو أن سودان الغد هو سودان الشباب، و ليس سودان الكهول و الشيوخ مثلنا.. و الدعوة هذه للتغيير الكبير الذي يجدد حياة الناس تجديد في الظاهر و في الباطن، أعني في النفس البشرية، و في المجتمع الذي تعيش فيه هذه النفس البشرية”. و أضاف مشيراً لتخصيص دعوته للطلبة مع التعليل لذلك قائلاً:”و هي للطلبة خاصة، لأن الطلبة، هم عتاد للغد، الذي سيحمل هذا التغيير، إلى نهاياته، في الناحية النظرية، و الناحية التطبيقية”. خلص المؤلف إلى أنه على الرغم من أن كل المجالات، و كذلك الإنسان حيث ما كان، ميدان لدعوة الفهم الجديد للإسلام، إلا أن أهمية الأكاديمية بالنسبة للفهم الجديد للإسلام، تأتي من أنها تضم أهم شرائح المجتمع الأكاديمي، وهم الشباب، الطلبة،صوت المستقبل،الذين هم “العتاد للغد “الذي سيحمل هذا التغيير إلى نهاياته “فخصهم الأستاذ محمود محمد طه بدعوته. و ذهب عبدالله ليقول:( كذلك يمثل الميدان الأكاديمي، حيث العلم المادي التجريبي، ميدان للتحدي و المقارنة مع علمية الرسالة الثانية من الإسلام، حتي يتكشف تفوقها على العلم المادي التجريبي وبزها له. يُضاف إلى ذلك، إن طرح الرسالة الثانية من الإسلام في الفضاء الأكاديمي، للتداول حولها، يتيح الفرصة لفحص ثمارها، و إمتحان أفكارها، و معيرة خلاصاتها، مِن قبل أهل التخصص في مختلف المجالات. أكثر من هذا إن الميدان الأكاديمي بالنسبة للمبشر بالإسلام، يمثل المختبر و الميدان لإجراء المقارنة التي تبرز إمتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، و على كل دين، بصورة تقنع العقول الذكية. كما ورد في حديث محمود محمد طه أعلاه. كما أن إجراء المقارنات بين الرسالة الثانية من الإسلام و بقية الأفكار و الفلسفات الإجتماعية المعاصرة، و الديانات الأخرى، كما دعا لذلك محمود محمد طه، تكون مع المتخصصين و المنتجين للمعارف في تلك المجالات، و لا جدال في أن أكبر ساحات حضور هؤلاء و أهمها هي المؤسسات الأكاديمية.

جاء الرصد الذي قام به الدكتور عبدالله الفكي البشير في (52) صفحة من كتابه، وكان حسب الدول،مع ترتيبها هجائياً. تضمن الأطروحات الجامعية (الدكتوراه و الماجستير و الدبلوم العالي، و بحوث التخرج)، و الكتب التي كانت عن الأستاذ محمود محمد طه أو تعرضت له، و الأوراق العلمية و الفصول في الكتب، و الندوات أو المؤتمرات العلمية التي كانت عنه، و اللقاءات الإعلامية، و الأفلام الوثائقية، و الترجمة لأعماله، أو الأعمال التي كانت حوله، مع ذكر المؤلفين حسب الترتيب الهجائي. كما شمل الرصد ثلاث رسائل جامعية، هي على وشك المناقشة.

نلتقي في الحلقة الثانية عشر، وهي قبل الأخيرة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الوسومسمية قراءة قراءة في كتاب محمود محمد طه من أجل فهم جديد للإسلام

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: سمية قراءة قراءة في كتاب محمود محمد طه الأستاذ محمود محمد طه المجتمع الأکادیمی قراءة فی کتاب فی الفضاء عبد الله على کل

إقرأ أيضاً:

الإداراتُ الأكاديميّةُ و متلازمةُ النجاحِ أو الفشلِ!

الإداراتُ الأكاديميّةُ و متلازمةُ #النجاحِ أو #الفشلِ!
2025/12/11
د. #مفضي_المومني.

لا يخفى علينا جميعاً أن مشكلتنا الأولى في مسيرة بلدنا هي بالإدارات..! ولذا… وبعد مئة عام من عمر الدولة لا زلنا نستطرق الإصلاح الإداري…من جديد… وتجاوزه غيرنا منذ عقود… لأن التغيير والتطوير عدو المتنفعين والمتقاعسين ومن وصل دون كفاءة… وحليفه الواسطة..!
ومرّةً أُخرى تتلوها مرّاتٌ سأكتبُ عن الإداراتِ والإدارات الأكاديميّةِ في بلدي، وأؤكّدُ أنّني لا أكتبُ عن شخصٍ بعينه، ولا أُسقِطُ على أحدٍ بعينه، إلّا إذا انطبق مثلُنا الشعبيّ على أحدهم: «يكادُ المريبُ أن يقولَ خذوني.. وقد اخذ بعضهم بما فعل… في الدنيا… والآخرة تنتظر الجميع..! »؛ لأنّني أكتبُ في الشأنِ العام، وكتبتُ ذلك سابقًا. ولأنّ مشكلةَ الإداراتِ الأكاديميّةِ في جميعِ مستوياتها معضلةٌ تنتشرُ في كلِّ جامعاتِنا الوطنية، ولأنّني أؤمنُ أنّ مشكلتنا على مستوى الوطن هي مشكلةُ إدارات، وأعتقدُ جازمًا أنّ الإداراتِ الأكاديميّةَ في التعليمِ العالي وفي جامعاتِنا تُسهِمُ بقدرٍ كبيرٍ في هذه المشكلة.

وتتحسّرُ وأنتَ تسمعُ دائمًا أنّ مصدرَ إحباطِ #الأكاديميين في جامعاتِنا في الغالب هو إداراتُهم الجامعيةُ بكلِّ مستوياتها. وأنا أقصدُ هنا الإداراتِ السلبيّة التي لا تمتلكُ الكفاءةَ والأمانة والخبرةَ في أيٍّ من درجاتِ ومواقعِ الإدارة، من رئاسةِ القسم إلى العمادة إلى رئاسةِ الجامعة؛ لأنّها تؤثّرُ بشكلٍ كبيرٍ في المسيرة الأكاديمية، وفي صناعةِ الإحباطِ لدى العاملين وتعزيزِ ظاهرةِ الانسحاب، بحيثُ يُصبحُ همُّ عضوِ هيئةِ التدريس إعطاءَ محاضرته والانصرافَ إلى بيته، لكي لا يُدخلَ نفسَهُ في ترّهاتٍ إداريّةٍ ودوائر تصفيةِ الحساباتٍ يمارسُها البعضُ لأسبابٍ شخصية، أو من قبيلِ الغيرةِ أو الحسدِ أو المناكَفة أو تشويه السمعة والأحقاد أو الأمراض النفسية.

ولو قُدِّر لعلماءِ الإدارة إعادةُ النظرِ بنظريّاتهم الإداريّة، وأخذوا إداراتِنا نموذجًا، لخرجوا علينا بنظريّاتٍ جديدةٍ في الإدارة؛ مثل: (الإدارةِ بالتيّاسة، الإدارةِ بالتناحة، الإدارةِ بالمناكفة، الإدارةِ بالعباطة… وكلّها نماذجُ نراها يوميًا سواءً في جامعاتِنا أو في الإدارات حيثما وجدت.

مقالات ذات صلة نحو منظومة إنتاجية أكثر إنسانية واستدامة 2025/12/11

فالبعضُ عندما يسوقُه القدرُ بالواسطةِ أو المحسوبيّةِ أو النفاقِ أو واسطةٍ «من فوق» ليتولّى أمورَ الناس، ينسى نفسَه، ويتصرّفُ بشخصنةٍ ومزاجيّةٍ في إدارةِ شؤونِ الناس، ويتصرّفُ بعقليةِ المزرعة، وهنا لُبُّ المشكلة… ومن يقول أن هنالك شفافية ومؤسسية ونظام للمناصب العليا… أقول له هذا للاستهلاك العام… ولدينا أمثلة كثيرة عن وصول س و ص لمناصب عليا بالواسطة فقط… ويخرجوا عليك بأنه حصل على أعلى النقاط… والحقيقة أنه مدعوم فقط… وبعضهم داوم بمنصبه من اشهر تحت مسمى وهمي…!أو ابلغ مسبقا… قبل التنافس..! .

وبنفسِ الوقت نتمنّى أن تكونَ الإداراتُ في جميعِ المستوياتِ الأكاديمية على قدرٍ كبيرٍ من التأهيلِ والإيجابيّة؛ لأنّها تبعثُ الدافعيّةَ في الأكاديميين والعاملين، وتزيدُ من نشاطِهم وحبّهم لمؤسستِهم، وبالتالي المساهمةِ في تحقيقِ أهدافِ المؤسسة والنظامِ التعليمي، وكلُّ ذلك يصبُّ في مصلحةِ الوطن…وعكس ذلك عصر الرويبضات..!.

ولأنّني أعرفُ كما تعرفون أنّ غالبيةَ من يتسنّمونَ مراكزَ الإدارةِ العامة في الأردن وفي بلدانِنا العربية وصلوا إلى كرسيّ الإدارةِ عن طريقِ الواسطة أو المحسوبيّة أو الوصوليّة أو الوراثة أو النفاق أو الخداع…أو تبادل المصالح… وحدثَ ولا حرج؛ فالقائمةُ طويلة. إلّا من رحمَ ربّي، ممّن وصلوا للمنصبِ الإداريّ عن طريقِ الجدارةِ والكفاءة، وهُم قلّةٌ في ممارساتنا العتيدة، وغالبًا ما يُحارَبون ولا يصمدون طويلًا أمامَ تغوّلِ المحسوبيّة ومراكزِ القوى الفاشلة والمتنفّذة.

ولأنّ علمَ الإدارةِ يخبرُنا أنّ أسوأَ أنواعِ الإدارات هو «الإدارةُ بالسلطة»، وأنّ محورَ العمليةِ الإدارية هو التأثيرُ على المرؤوسين، ونظرية (X, Y)، وقضيّةُ تحويلِ العاملينَ من «X» إلى «Y»: أي من عاملينَ بلا رغبةٍ ولا دافعيّةٍ للعمل ولا يعملونَ إلّا بمراقبة، إلى عاملينَ لديهم رغبةٌ ودافعٌ ذاتيّ للعمل دون مراقبة… وهذا باختصارٍ شديد.

وأظنُّ أنّ كثيرًا ممّن أتت بهم الواسطةُ إلى منصبٍ إداريّ لا يُدركون ذلك، وهم سببٌ في تخلّفِ مؤسّساتِنا، وإحباطِ الأفرادِ المتميّزين، وانسحابِهم، وظهورِ الأفرادِ الطفَيليّين الإمعاتِ الذين تعوزهم الكفاءةُ والقدرةُ على الإدارة (الرويبضات)، عديمي الخبرة، ليتولّوا أمورَ الناس، ممّا يؤدي إلى ضعفٍ وانحطاطٍ في النتاجاتِ والأهدافِ وتدنّيها، لأنّ فاقدَ الشيءِ لا يُعطيه.

وعندما تتكرّرُ هذه النماذجُ في مؤسّساتِنا الأكاديمية وغيرها، نصلُ في النهايةِ إلى تخلّفٍ على الصعيدِ الوطنيّ والجهدِ العام.

وقد أعجبني أثناءَ مطالعتي لأحد المواقع هذا العرضُ لصفاتِ المديرِ الناجحِ والمديرِ الفاشل، صادرٌ عن معهد «غالوب» الأمريكي، أنقله للفائدة، وليقرأه من يريد من الإداريين، وليعترفْ لنفسه فقط: أهو ناجحٌ أم فاشل؟ وعليه إمّا أن يتعلّمَ كيف يكونُ ناجحًا، أو أن يعرفَ قدراتِه ويتنحّى… ولا أظنُّ أن أحدًا سيفعل!

ففي تجاربِنا العربية، وعلى مستوى الرؤساء، لا يوجد رئيسٌ متقاعد؛ رؤساؤنا – بعد عمرٍ طويل – إمّا في القبر، أو في السجن، أو رئيسٌ للمرّة الرابعة ولو على كرسيِّ المقعدين!

وكشفَ استطلاعُ مركز «غالوب» أيضًا أنّ المديرَ الفاشل هو السببُ الرئيس في تركِ الموظفينَ والعاملينَ المتميّزين لوظائفِهم، وأنّ أكثرَهم عندما يتركونَ العمل فإنهم يتركونَ المديرَ لا المؤسسة.

وقد عرضت الدراسةُ الفروقاتِ بين المديرَين الناجح والفاشل كما يلي:

المديرُ الناجح يسعى لتثبيتِ أقدامِ المؤسسة وتقويتها، والمديرُ الفاشل يسعى لتثبيتِ قدمه في المؤسسة وتقوية مكانته. المديرُ الناجحُ يحترمُ آدميةَ الموظف وإنسانيته، والفاشلُ لا يعترفُ بآدميةِ الناس ولا يراعي إنسانيتهم. المدير الناجحُ يقول: «أنا أعتقدُ كذا… فما رأيكم؟»، والفاشلُ يقول: «أنا قرّرتُ كذا… فنفّذوا». المدير الناجحُ يُرقّي من يُتقن عملَه، والفاشلُ يُرقّي من يُتقنُ مدحه والنفاق له. المدير الناجحُ يضعُ خطةً تتناسبُ مع قدراتِ مرؤوسيه، والفاشلُ يضعُ خطةً دون النظرِ إلى إمكاناتِهم. المدير الناجحُ يثقُ بالأكْفَاء، والفاشلُ لا يثقُ إلّا بنفسه. المدير الناجحُ يرغب أن يسمع «أنا أقترح»، والفاشلُ يرغب أن يسمع «أنا أؤيّدك». المدير الناجحُ يحقق مكاسبَ للمؤسسة من أجلك، والفاشلُ يريدُك أن تحقق مكاسبَ من أجله. المدير الناجحُ يتخذُ القرار بسرعةٍ بعد تفكير، والفاشلُ يتخذُه ببطءٍ قبل التفكير، ويتراجعُ عنه بسرعةٍ دون تفكير. المدير الناجحُ يُبادرك بالمكافأة، والفاشلُ ينتظرُ أن تكافئه أنت. المدير الناجحُ يراقب العمل، والفاشلُ يتجسّس عليك. المدير الناجحُ يراعي حالتك النفسية، والفاشلُ يعاملك حسب مزاجه. المدير الناجحُ يعتبر عملَه رسالة، والفاشلُ يعتبره ثِقَلًا ورئاسةً. المدير الناجحُ ينجز تحت ضغط الوقت، والفاشلُ يستسلم وييأس. المدير الناجحُ صادقٌ في وعده، والفاشلُ مُخلِفٌ لوعده. المدير الناجحُ منضبطٌ في وقته وسلوكه، والفاشلُ غيرُ منضبط ويطالبُ الآخرين بالانضباط. المدير الناجحُ صبورٌ طويلُ النفس، والفاشلُ عجولٌ قصيرُ النفس. المدير الناجحُ يُؤمّن بيئةً آمنةً للعاملين ليُبدعوا، والفاشلُ يتسلّط ويُرهب العاملين معتقدًا أنّ ذلك يزيد إنتاجهم.

ويقول «روي فلمان» من شركة أمريكان موتورز:
«قد يأتي الموظفُ غاضبًا، فأقابله بهدوء، أجلسه قبل أن أجلس، وأطلب له العصير، ثم أدعه يتحدث بلا مقاطعة… فيخرج وقد تبدلت حاله من الغضب إلى الدافعية والرغبة في العمل».

هذا بعضُ ما فكّر فيه غيرُنا ونسيناه نحن في خضمِّ البحث عن الكرسي بأيِّ ثمن، ونقول لهم:
الواسطةُ (من فوق أو تحت) والمحسوبيّةُ والوصوليّةُ والنفاقُ قد توصلك للمنصب، لكنها لن تضمن لك النجاح.

نتمنى أن ترقى الإداراتُ في بلدي إلى أفضل المستويات، وأن نتعلم من تجارب الآخرين؛ فليس في قاموسِ نجاحِ الإدارات نجاحٌ بالتسحيج ولا باستجداءِ الولاءِ الكاذب ولا بمدحٍ مدفوعِ الثمن.

عملُك الحقيقيّ هو ما يشهد لك، وهو نجاحك الفعليّ.

﴿كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ (الرعد: 17).
حمى الله الأردن.

مقالات مشابهة

  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي (6-11)
  • الثلاثاء القادم .. اتحاد كتاب مصر يناقش كوكب سيكا لعبده الزراع
  • حكم الدين في عدم الإنجاب.. أزهري: الشخص الذي يرفض النعمة عليه الذهاب لطبيب نفسي
  • ندوة لمناقشة كتاب زعماء دولة التلاوة بنقابة الصحفيين.. الأربعاء
  • مفكر: الجهاد الحقيقي في عصرنا العلم والعمل.. ودار الإسلام لم تعد مناسبة
  • بعد تتويجها عالميًا.. رقية رفعت تناشد شيخ الأزهر: حلمي التعيين مُعيدة لخدمة كتاب الله
  • قراءة في كتاب «وكأنني لازلت هناك» للدكتور صبري ربيحات
  • رئيس منطقة الشرقية الأزهرية يفتتح معهد العراقى الإعدادي للفتيات بأبوحماد
  • الإداراتُ الأكاديميّةُ و متلازمةُ النجاحِ أو الفشلِ!
  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «5- 11»