سودانايل:
2025-06-17@21:48:22 GMT

الدولة النكرة: محاكم التفويض وخرافة السيادة

تاريخ النشر: 18th, April 2025 GMT

في بلدٍ مثقلٍ بالتشظي، حيث يُعاد اختراع الخراب يوميًا بوجوه مألوفة، وحيث تُدار الحروب بمنطق إعادة تدوير القتلة، لا تملك الكتابة ترف الحياد.
ليست الغاية من هذا النص أن يُشرح المأساة، بل أن يظل مفتوحًا على قلقها. أن يقاوم سردية المُنقذ، ويتتبع ظلال الفاعل في زمن التشويش.

في عالمٍ معطوب مثل السودان، لا يمكن التمييز بسهولة بين الفاعل والضحية، ولا بين الخطيئة والمكيدة.


ففي هذا الركام، الذي يمتد من كوبر حتى تندلتي، ومن مليط إلى الفشقة، تنهض الحرب كحالة غريزية لا تحتاج إلى مبرر، بل إلى سيناريو من التدليس تحيكه نخب مشوهة، ومؤسسات مستلبة، وذاكرة جمعية أُخضعت للغسيل الطويل. وما الجبهة الإسلامية إلا رأس هذا السيناريو، حيث الكارثة لم تكن في “عودتها” بقدر ما كانت في أنها لم تذهب أصلًا.
لقد ابتلعت الدولة منذ انقلاب 1989، ثم لبست جلباب الثورة بعد سقوطها، وتنكرت في هيئة المؤسسة العسكرية، وتحالفت مع بقايا الدولة العميقة، وأعادت بناء خطابها ضمن سرديات “السيادة”، و”الوطنية”، و”مواجهة التمرد”، لتغدو الحرب ذاتها أداة تأهيل لها، لا خاتمة لسقوطها.

حين اندلعت المعارك، صباح السبت 15 أبريل 2023، بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، والدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، كانت الجبهة الإسلامية قد أكملت بالفعل مشروع اختراقها للمؤسسة العسكرية، عبر الشبكات السرية، والواجهات القبلية، ورجال الأعمال الإسلاميين الذين مولوا العمليات، من ود إبراهيم حتى علي كرتي. فالمعركة، وإن بدت صراعًا بين “رجلين”، إلا أن ما كان يجري في الخفاء هو عودة الدولة الظل إلى السطح، معززة بتحالفات إقليمية من أنقرة إلى طهران، ومن الخرطوم إلى موسكو، ومسنودة بخطاب إعلامي يربط النجاة من “الانهيار” ببقاء الجنرال.

لم يكن صدفة أن يُفتح المجال الجوي، بعد ساعات من اندلاعها، فقط لتهريب قادة النظام السابق إلى الخارج. ولا أن تخرج فتوى من هيئة العلماء، ذات الخلفية الكيزانية، تسند الحرب بوصفها “دفعًا للصائل”. ولم يكن صدفة أن تُجهض كل المبادرات التي قادتها قوى مدنية ومبعوثون دوليون — من جدة إلى أديس — بفعل تعطيل متعمد من مكونات داخل الجيش نفسه، خوفًا من أن تُفضي التسوية إلى محاسبة. فالكارثة، كما قال والتر بنيامين، ليست فقط في أن هناك “حالة طوارئ”، بل في أن هذه الطوارئ هي القاعدة التي يُعاد إنتاجها لإيقاف عجلة التاريخ.

ما الذي يجعل الفاعل ينجو من المحاسبة ليعود بصفته مخلّصًا؟
هذا سؤال لا يُطرح في المؤتمرات، بل في تفاصيل الانهيار التي نعرفها ولا نجرؤ على مواجهتها. والمفارقة هنا. كيف لمن ثار ضدهم الشارع أن يعودوا من باب الحرب؟ كيف تحوّلت الجريمة إلى سردية خلاص؟
هذا الانتقال السلس من موقع المتهم إلى موقع “المنقذ” لا يمر إلا عبر آلة إعلامية مشغولة بإعادة تشكيل الإدراك الجمعي وترويض الذاكرة. وهو ما نجحت فيه الجبهة الإسلامية ببراعة، مستفيدة من الارتباك، ومن هشاشة الوعي الجماعي، ومن نخب اعتادت أن تسمي الخراب “قدرًا”.

منذ اليوم الأول، كانت الحرب تمضي وفق مسار يُراهن على استنزاف الذاكرة. المدن التي احترقت، مثل الجنينة وكتم ونيالا، لم تكن فقط ساحات قتال، بل نماذج لإبادة مركبة استهدفت الجغرافيا والبشر والعلاقات الاجتماعية. حيث لا يكفي قتل المساليت، بل يجب نفيهم، وتغيير تركيبة دارفور، ثم تدوير الضحية كجريمة جماعية ملتبسة. وقد فعلت الجبهة الإسلامية ما هو أكثر من القتل: إذ أعادت بناء خطابها على أطلال الجثث، ومررت عبر أبواقها، في الداخل والخارج، سردية “التمرد القبلي” و”الانفلات”، في تنويع رديء لخطاب البشير نفسه، عندما قال ذات مرة: “لن نتركها لمن يريدون تخريب الدين والوطن”.

في الخرطوم، حيث الرماد صار هواءً، كان المشهد أكثر مأساوية: البنايات التي شُيدت في عهد “النهضة الكيزانية” كانت تحترق، لكنها لم تكن وحدها. كان يحترق معها وهم الدولة، وبنية المؤسسات، وفكرة “الوطنية” التي ضلل بها الجيش مواطنيه. لأن الجيش نفسه — وقد تماهى مع الجبهة — صار جهازًا للحفاظ على امتيازات قادته، لا لحماية المدنيين. لقد رفض التحقيق في مجزرة القيادة، ثم تواطأ في انقلاب أكتوبر 2021، ثم أعاد إنتاج نفسه في خطاب الإنقاذ باسم الحرب. وكل ذلك تحت عين “الراية الإسلامية”، التي تدّعي أنها لا تزال الحارس الأمين للهوية.

ومع ذلك، فالخطر الأكبر لم يكن في الجبهة نفسها، بل في استعداد الطبقة الوسطى المهزومة نفسيًا لتصديق خطابها من جديد.
حين تُرفع صور الجنرال في أم درمان باعتباره “منقذًا”، ويُبَث بيان من مسجد بالسجانة عن “نُصرة الدولة ضد العملاء”، فذلك يعني أن أدلجة العقول نجحت، وأن النخب قد فشلت، وأن التراكم المعرفي لم يكن كافيًا لخلق حس جمعي مضاد.

تستند الجبهة، في هذا المسار، إلى شبكة إخوانية عالمية تمدها بالدعم السياسي والمالي والإعلامي. من أنقرة، حيث يُعاد تدوير خطاب أردوغان عن “نصرة الإسلام” لتبرير إرسال المسيّرات؛ إلى الدوحة، التي تمول إعلامًا يشتبك بذكاء مع النسيج الاجتماعي السوداني؛ إلى جماعات في طرابلس ودمشق وبيروت ترسل المرتزقة والسلاح — في تحالف مأساوي بين الدولة الفاشلة والمليشيا العقائدية. وما كان ذلك ليحدث لولا هشاشة الدولة السودانية، وتواطؤ بعض من داخل الأجهزة، وخوف كبار الضباط من المثول في لاهاي، أو أمام محكمة سودانية مستقلة.

لقد بلغت الحرب، في ربيع 2025، عامها الثاني ودخلت في الثالث دون أفق، لأن أطرافها لا تبحث عن حل، بل عن تثبيت مواقعها عبر النار.
الجبهة الإسلامية لا تريد وقف الحرب، لأن الحرب تُمنحها الوقت لإعادة ترتيب أوراقها، وتنظيف سجلها، وتقديم نفسها للغرب كضامن “للاستقرار” أمام “الخطر القبلي”. والجيش لا يريد وقف الحرب، لأن نهاية الحرب تعني بداية الأسئلة: من قتل؟ من أمر؟ من استفاد؟
والدعم السريع لا يريد وقفها، لأنه بات يملك أرضًا، وسلطة موازية، وشبكة علاقات إقليمية تناور بها.

منذ أن دخل البرهان بورتسودان، ومن هناك بدأ يرسل مبعوثيه من تل أبيب إلى موسكو، ومن طهران إلى القاهرة، بدا واضحًا أن ما يجري ليس إعادة تأسيس للدولة، بل تسويق لها كسلعة قابلة للتدوير، مقابل أن يغض العالم الطرف عن الجرائم. إنه شكل متأخر من النيوليبرالية العسكرية، حيث تُباع سيادة البلد مقابل حصانة القتلة، ويُصبح الدم شرطًا لتمويل المؤتمرات.

أمام هذا كله، تبقى المقاطعة فعل مقاومة. أن ترفض الاصطفاف، وأن تكتب، وأن تشكك، وأن تفضح — تلك أفعال صغيرة في وجه آلة ضخمة، لكنها أفعال تُعيد للذات جدواها. كما قال كامو: “التمرد هو تأكيد للوجود”. فنحن لا نملك سوى التمرد على سردية الفاعل المفترض، واختراق اللغة التي كُتبت بها الحرب، وفضح المقولات التي أعادت بها الجبهة نفسها في جسد الوطن. هذه ليست مجرد حرب. إنها محاولة لإعادة استعمار الذات، والهوية، والمستقبل، بقفازات محلية.

وكما قال محجوب شريف، وهو يُعرّي الزيف بكلمات لا تهاب:
“ فلنزحف نحو النور،
لو نَنحت بالأظفار،
من حقّنا نحلم
بي عالم يتسالم،
عالم ضدّ التسليح..”

وهنا، تحديدًا، يجب أن ننتبه: فالسودان لا يُحرق فقط بالرصاص، بل بالكلمات التي تُزيّف التاريخ وتُجمّل القتلة.
والسؤال الفلسفي الأكبر لم يعد: من بدأ الحرب؟
بل: لماذا صدّقناهم؟ ولماذا لا نزال نمنحهم شرف الحكاية؟

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الجبهة الإسلامیة لم یکن

إقرأ أيضاً:

نتيجة الحرب بين إسرائيل وإيران.. انخفاض في أعداد السفن التي تمر عبر مضيق هرمز

كشفت هيئة بحرية رائدة، عن إنخفاض محدود في أعداد السفن التي تمر عبر مضيق هرمز، أحد أهم الممرات العالمية التي يمر عبرها ربع شحنات النفط العالمية، بالتزامن مع تصاعد الحرب بين إسرائيل وإيران.

 

وذكر مجلس البلطيق والملاحة البحرية الدولي وهو اتحاد شحن يمثل أعضاؤه 62% من حمولة العالم، أنه لاحظت "انخفاضًا متواضعًا" في عدد السفن التي تعبر مضيق هرمز، مع تصاعد الصراع بين إسرائيل وإيران، التي دخلت اليوم الأربعاء يومها السادس حيث قُتل أكثر من 220 شخصًا في إيران وأكثر من 20 في إسرائيل.

 

ونقل موقع المونيتور الأمريكي، عن جاكوب لارسن، رئيس الأمن في مجلس البلطيق والملاحة البحرية الدولي: "يبدو أن مستويات الصراع تتصاعد، مما يثير قلق مجتمع مالكي السفن. نشهد الآن انخفاضًا طفيفًا في عدد السفن التي تبحر في المنطقة".

 

وأشار إلى أن السلطات الأميركية أفادت يوم الاثنين بأنه لا توجد مؤشرات على وجود تهديد من جانب إيران للسفن التجارية باستثناء السفن المرتبطة بإسرائيل.

 

ويعد مضيق هرمز، الذي يربط الخليج العربي ببحر العرب، أحد أهم ممرات النفط في العالم، إذ يمر عبره حوالي ربع إجمالي شحنات النفط. وفي عام 2023، بلغ متوسط ​​تدفقات النفط عبر هذا الممر المائي 20.9 مليون برميل يوميًا، وفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية، وهو ما يمثل حوالي 20٪ من استهلاك السوائل البترولية العالمي.

 

ويشهد مضيق هرمز أيضًا مرور نحو خمس شحنات الغاز العالمية عبره، وهو أمر حيوي لتجارة الحاويات العالمية.

 

وقال رئيس شركة ميتسوي أو إس كيه لاينز، ثاني أكبر شركة شحن في اليابان، إن سفنه تعمل كالمعتاد في الخليج بينما تراقب الوضع عن كثب، فيما ذكر تاكيشي هاشيموتو لرويترز على هامش مؤتمر آسيا للطاقة في ماليزيا "نحن نشغل الكثير من الحاويات وناقلات السيارات وناقلات الكيماويات بحيث يصبح من الصعب للغاية علينا تقليص الخدمة أو إيقافها".

 

وتأتي تعليقات هاشيموتو ولارسن في أعقاب حادثة اندلعت فيها النيران في ناقلتين في المياه الإماراتية بالقرب من مدخل مضيق هرمز في الساعات الأولى من صباح الثلاثاء.

 

وحذر لارسن من أنه إذا استمر الضغط على إيران في التصاعد ــ وخاصة إذا أصبحت الولايات المتحدة متورطة بشكل أكثر مباشرة ــ فقد تبدأ إيران في استهداف السفن غير المرتبطة بإسرائيل.

 

وأشار إلى أن "القوات الإيرانية تتمتع بمهارات عالية في الحرب غير المتكافئة، واستعدت لعقود لسيناريو يتضمن هجمات ضد الشحن عبر مضيق هرمز والمياه المجاورة".

 

وارتفع خام برنت القياسي العالمي بنسبة 1.37% إلى 74.22 دولار للبرميل بحلول الساعة السادسة صباحا بالتوقيت الشرقي يوم الثلاثاء، مقارنة بإغلاق اليوم السابق.

 

وحذر المحللون من أنه في حال إغلاق مضيق هرمز الاستراتيجي بسبب الصراع، فقد تتجاوز أسعار النفط 100 دولار للبرميل، وسترتفع تكاليف الشحن، وقد تواجه سلاسل التوريد العالمية اضطرابات خطيرة، وبالرغم أن المضيق لم يُغلق بالكامل قط - بل كان مغلقًا جزئيًا فقط في الماضي - فقد هددت إيران مرارًا وتكرارًا بإغلاقه بالكامل.

 

ومع تصاعد الصراع، يقوم أصحاب السفن بإعادة تقييم المخاطر وسط حالة عدم اليقين المتزايدة، حيث قال لارسن: "يمكن لإيران أن تبدأ بمهاجمة السفن دون سابق إنذار تقريبًا، وبالتأكيد أسرع من الوقت الذي تستغرقه سفينة عبر مضيق هرمز". وأضاف: "تختلف الظروف ودرجة تحمل المخاطر اختلافًا كبيرًا بين مالكي السفن. ويبدو أن معظم مالكي السفن يختارون حاليًا المضي قدمًا، بينما يبدو أن بعضهم يتجنب ذلك".


مقالات مشابهة

  • نتيجة الحرب بين إسرائيل وإيران.. انخفاض في أعداد السفن التي تمر عبر مضيق هرمز
  • باحث في شئون التنظيمات الإسلامية: الإخوان ضد مفهوم الدولة الوطنية وأداة رئيسية في إعادة تشكيل الشرق الأوسط
  • الحرب على القنبلة النووية الإسلامية
  • الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم
  • الجيش الإسرائيلي: قتلنا رئيس أركان الحرب الإيراني وإيران لا تزال قادرة على استهداف الجبهة الداخلية
  • جنرال إسرائيلي متقاعد: الجبهة الداخلية ستنهار في حرب طويلة ولا مفر من اتفاق مع إيران
  • محللون إسرائيليون: انتقلنا من نشوة بداية الحرب إلى القلق من تداعياتها
  • السيادة الأردنية فوق كل اعتبار… وصمت الجاهلين أبلغ..
  • رسالة في بريد رئيسي مجلس السيادة والوزراء.. الفراغ أرض خصبة للفساد والتآمر
  • محافظ الأقصر ورئيس مجلس الدولة يفتتحان فرع توثيق مجمع محاكم مجلس الدولة الجديد