الدولة النكرة: محاكم التفويض وخرافة السيادة
تاريخ النشر: 18th, April 2025 GMT
في بلدٍ مثقلٍ بالتشظي، حيث يُعاد اختراع الخراب يوميًا بوجوه مألوفة، وحيث تُدار الحروب بمنطق إعادة تدوير القتلة، لا تملك الكتابة ترف الحياد.
ليست الغاية من هذا النص أن يُشرح المأساة، بل أن يظل مفتوحًا على قلقها. أن يقاوم سردية المُنقذ، ويتتبع ظلال الفاعل في زمن التشويش.
في عالمٍ معطوب مثل السودان، لا يمكن التمييز بسهولة بين الفاعل والضحية، ولا بين الخطيئة والمكيدة.
ففي هذا الركام، الذي يمتد من كوبر حتى تندلتي، ومن مليط إلى الفشقة، تنهض الحرب كحالة غريزية لا تحتاج إلى مبرر، بل إلى سيناريو من التدليس تحيكه نخب مشوهة، ومؤسسات مستلبة، وذاكرة جمعية أُخضعت للغسيل الطويل. وما الجبهة الإسلامية إلا رأس هذا السيناريو، حيث الكارثة لم تكن في “عودتها” بقدر ما كانت في أنها لم تذهب أصلًا.
لقد ابتلعت الدولة منذ انقلاب 1989، ثم لبست جلباب الثورة بعد سقوطها، وتنكرت في هيئة المؤسسة العسكرية، وتحالفت مع بقايا الدولة العميقة، وأعادت بناء خطابها ضمن سرديات “السيادة”، و”الوطنية”، و”مواجهة التمرد”، لتغدو الحرب ذاتها أداة تأهيل لها، لا خاتمة لسقوطها.
حين اندلعت المعارك، صباح السبت 15 أبريل 2023، بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، والدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، كانت الجبهة الإسلامية قد أكملت بالفعل مشروع اختراقها للمؤسسة العسكرية، عبر الشبكات السرية، والواجهات القبلية، ورجال الأعمال الإسلاميين الذين مولوا العمليات، من ود إبراهيم حتى علي كرتي. فالمعركة، وإن بدت صراعًا بين “رجلين”، إلا أن ما كان يجري في الخفاء هو عودة الدولة الظل إلى السطح، معززة بتحالفات إقليمية من أنقرة إلى طهران، ومن الخرطوم إلى موسكو، ومسنودة بخطاب إعلامي يربط النجاة من “الانهيار” ببقاء الجنرال.
لم يكن صدفة أن يُفتح المجال الجوي، بعد ساعات من اندلاعها، فقط لتهريب قادة النظام السابق إلى الخارج. ولا أن تخرج فتوى من هيئة العلماء، ذات الخلفية الكيزانية، تسند الحرب بوصفها “دفعًا للصائل”. ولم يكن صدفة أن تُجهض كل المبادرات التي قادتها قوى مدنية ومبعوثون دوليون — من جدة إلى أديس — بفعل تعطيل متعمد من مكونات داخل الجيش نفسه، خوفًا من أن تُفضي التسوية إلى محاسبة. فالكارثة، كما قال والتر بنيامين، ليست فقط في أن هناك “حالة طوارئ”، بل في أن هذه الطوارئ هي القاعدة التي يُعاد إنتاجها لإيقاف عجلة التاريخ.
ما الذي يجعل الفاعل ينجو من المحاسبة ليعود بصفته مخلّصًا؟
هذا سؤال لا يُطرح في المؤتمرات، بل في تفاصيل الانهيار التي نعرفها ولا نجرؤ على مواجهتها. والمفارقة هنا. كيف لمن ثار ضدهم الشارع أن يعودوا من باب الحرب؟ كيف تحوّلت الجريمة إلى سردية خلاص؟
هذا الانتقال السلس من موقع المتهم إلى موقع “المنقذ” لا يمر إلا عبر آلة إعلامية مشغولة بإعادة تشكيل الإدراك الجمعي وترويض الذاكرة. وهو ما نجحت فيه الجبهة الإسلامية ببراعة، مستفيدة من الارتباك، ومن هشاشة الوعي الجماعي، ومن نخب اعتادت أن تسمي الخراب “قدرًا”.
منذ اليوم الأول، كانت الحرب تمضي وفق مسار يُراهن على استنزاف الذاكرة. المدن التي احترقت، مثل الجنينة وكتم ونيالا، لم تكن فقط ساحات قتال، بل نماذج لإبادة مركبة استهدفت الجغرافيا والبشر والعلاقات الاجتماعية. حيث لا يكفي قتل المساليت، بل يجب نفيهم، وتغيير تركيبة دارفور، ثم تدوير الضحية كجريمة جماعية ملتبسة. وقد فعلت الجبهة الإسلامية ما هو أكثر من القتل: إذ أعادت بناء خطابها على أطلال الجثث، ومررت عبر أبواقها، في الداخل والخارج، سردية “التمرد القبلي” و”الانفلات”، في تنويع رديء لخطاب البشير نفسه، عندما قال ذات مرة: “لن نتركها لمن يريدون تخريب الدين والوطن”.
في الخرطوم، حيث الرماد صار هواءً، كان المشهد أكثر مأساوية: البنايات التي شُيدت في عهد “النهضة الكيزانية” كانت تحترق، لكنها لم تكن وحدها. كان يحترق معها وهم الدولة، وبنية المؤسسات، وفكرة “الوطنية” التي ضلل بها الجيش مواطنيه. لأن الجيش نفسه — وقد تماهى مع الجبهة — صار جهازًا للحفاظ على امتيازات قادته، لا لحماية المدنيين. لقد رفض التحقيق في مجزرة القيادة، ثم تواطأ في انقلاب أكتوبر 2021، ثم أعاد إنتاج نفسه في خطاب الإنقاذ باسم الحرب. وكل ذلك تحت عين “الراية الإسلامية”، التي تدّعي أنها لا تزال الحارس الأمين للهوية.
ومع ذلك، فالخطر الأكبر لم يكن في الجبهة نفسها، بل في استعداد الطبقة الوسطى المهزومة نفسيًا لتصديق خطابها من جديد.
حين تُرفع صور الجنرال في أم درمان باعتباره “منقذًا”، ويُبَث بيان من مسجد بالسجانة عن “نُصرة الدولة ضد العملاء”، فذلك يعني أن أدلجة العقول نجحت، وأن النخب قد فشلت، وأن التراكم المعرفي لم يكن كافيًا لخلق حس جمعي مضاد.
تستند الجبهة، في هذا المسار، إلى شبكة إخوانية عالمية تمدها بالدعم السياسي والمالي والإعلامي. من أنقرة، حيث يُعاد تدوير خطاب أردوغان عن “نصرة الإسلام” لتبرير إرسال المسيّرات؛ إلى الدوحة، التي تمول إعلامًا يشتبك بذكاء مع النسيج الاجتماعي السوداني؛ إلى جماعات في طرابلس ودمشق وبيروت ترسل المرتزقة والسلاح — في تحالف مأساوي بين الدولة الفاشلة والمليشيا العقائدية. وما كان ذلك ليحدث لولا هشاشة الدولة السودانية، وتواطؤ بعض من داخل الأجهزة، وخوف كبار الضباط من المثول في لاهاي، أو أمام محكمة سودانية مستقلة.
لقد بلغت الحرب، في ربيع 2025، عامها الثاني ودخلت في الثالث دون أفق، لأن أطرافها لا تبحث عن حل، بل عن تثبيت مواقعها عبر النار.
الجبهة الإسلامية لا تريد وقف الحرب، لأن الحرب تُمنحها الوقت لإعادة ترتيب أوراقها، وتنظيف سجلها، وتقديم نفسها للغرب كضامن “للاستقرار” أمام “الخطر القبلي”. والجيش لا يريد وقف الحرب، لأن نهاية الحرب تعني بداية الأسئلة: من قتل؟ من أمر؟ من استفاد؟
والدعم السريع لا يريد وقفها، لأنه بات يملك أرضًا، وسلطة موازية، وشبكة علاقات إقليمية تناور بها.
منذ أن دخل البرهان بورتسودان، ومن هناك بدأ يرسل مبعوثيه من تل أبيب إلى موسكو، ومن طهران إلى القاهرة، بدا واضحًا أن ما يجري ليس إعادة تأسيس للدولة، بل تسويق لها كسلعة قابلة للتدوير، مقابل أن يغض العالم الطرف عن الجرائم. إنه شكل متأخر من النيوليبرالية العسكرية، حيث تُباع سيادة البلد مقابل حصانة القتلة، ويُصبح الدم شرطًا لتمويل المؤتمرات.
أمام هذا كله، تبقى المقاطعة فعل مقاومة. أن ترفض الاصطفاف، وأن تكتب، وأن تشكك، وأن تفضح — تلك أفعال صغيرة في وجه آلة ضخمة، لكنها أفعال تُعيد للذات جدواها. كما قال كامو: “التمرد هو تأكيد للوجود”. فنحن لا نملك سوى التمرد على سردية الفاعل المفترض، واختراق اللغة التي كُتبت بها الحرب، وفضح المقولات التي أعادت بها الجبهة نفسها في جسد الوطن. هذه ليست مجرد حرب. إنها محاولة لإعادة استعمار الذات، والهوية، والمستقبل، بقفازات محلية.
وكما قال محجوب شريف، وهو يُعرّي الزيف بكلمات لا تهاب:
“ فلنزحف نحو النور،
لو نَنحت بالأظفار،
من حقّنا نحلم
بي عالم يتسالم،
عالم ضدّ التسليح..”
وهنا، تحديدًا، يجب أن ننتبه: فالسودان لا يُحرق فقط بالرصاص، بل بالكلمات التي تُزيّف التاريخ وتُجمّل القتلة.
والسؤال الفلسفي الأكبر لم يعد: من بدأ الحرب؟
بل: لماذا صدّقناهم؟ ولماذا لا نزال نمنحهم شرف الحكاية؟
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الجبهة الإسلامیة لم یکن
إقرأ أيضاً:
كم كلفت الضربة الأمريكية التي أنهت الحرب بين إيران والاحتلال؟ (أرقام)
كشف رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال دان كين أن سبع قاذفات من طرازB-2 حلقت لمدة 18 ساعة من الولايات المتحدة إلى إيران لإسقاط 14 قنبلة خارقة للتحصينات في عملية اتسمت بالخداع التام.
وقال كين إن الولايات المتحدة أطلقت إجمالا 75 قذيفة موجهة بدقة، بما في ذلك أكثر من عشرين صاروخ توماهوك، إلى جانب مشاركة 125 طائرة عسكرية على الأقل في العملية التي استهدفت ثلاثة مواقع نووية.
تفاصيل العملية
أطلق على العملية اسم "مطرقة منتصف الليل" بمشاركة 125 طائرة عسكرية من طرازات مختلفة، بين مقاتلات، وطائرات تزويد بالوقود، وطائرات استخبارات، واستهدفت ثلاث منشآت نووية: فوردو ونطنز وأصفهان.
أقلعت الطائرة من الولايات المتحدة وقامت برحلة استغرقت 18 ساعة إلى إيران ما يعني أنها عادت في 18 ساعة تقريبا أيضا مع تباين عدد ساعات الطيران بحسب مهمة الطائرة خلال العملية.
Embed from Getty Images
تم إرسال بعض الطائرات غربا إلى المحيط الهادئ للخداع ، بينما تقدم البعض الآخر على القاذفات الرئيسية لضمان خلو المجال الجوي.
حلقت سبع قاذفات شبح من طراز B-2 مكلفة بضرب المواقع النووية إلى إيران وتجنبت اكتشافها.
تم إطلاق 30 صاروخا كروز على موقع أصفهان من غواصة.
تم استخدام 75 "سلاحا موجها دقيقا" خلال العملية في المجموع.
تم إسقاط أربعة عشر مخترق ذخائر ضخمة من طراز GBU-57 على موقع فوردو، وهو منشأة تخصيب نووية مدفونة في أعماق جبل خارج طهران.
تكلفة الطيران الحربي
لتقدير تكلفة عمليات الطيران، تم الاعتماد على أوقات الطيران المقدرة لكل نوع من الطائرات والتكلفة الساعية لكل طائرة. بناءً على المعلومات المتاحة، تم تقدير الأعداد التالية:
◼ قاذفات B-2 بواقع سبع طائرات، مع رحلة ذهاب وعودة تستغرق 36 ساعة (18 ساعة ذهابًا و18 ساعة عودة)، بتكلفة ساعية 138,000 دولار.
◼ عشرات المقاتلات: حوالي 50 طائرة (مزيج من F-15، F-16، F-22، F-35)، مع متوسط تكلفة ساعية 26,000 دولار.
◼ عشرات طائرات التزود بالوقود مع تكلفة ساعية 23 ألف دولار، وفترة طيران أقصر من طائرات القتال.
◼ طائرات الاستخبارات مع تكلفة ساعية 66 ألف دولار.
◼ وعلى وجه التقريب كلفت ساعات تشغيل الطائرات الحربية خلال العملية قرابة 50 مليون دولار أمريكي.
تكلفة الذخيرة
◼ تم إسقاط 14 قنبلة ضخمة من طراز GBU-57 على موقع فوردو، وهو منشأة تخصيب نووية مدفونة في أعماق جبل خارج طهران ، وهو أمر حيوي لطموحات إيران النووية وتكلفة القنبلة الواحدة 5 مليون دولار.
◼ تم استخدام 61 صاروخ كروز توما هوك وطرازات أخرى بمتوسط 2 مليون للصاروخ الواحد.
◼ وعلى وجه التقريب كلفت القنابل التي أسقطتها الولايات المتحدة على المفاعلات الإيرانية إلى جانب الصواريخ 200 مليون دولار أمريكي.
تكلفة العملية
وعليه ربما كلفت العملية الولايات المتحدة الأمريكية على الأقل 240 مليون دولار أمريكي، لكنها تعتبر تكلفة زهيدة مقابل تصريح الرئيس الأمريكي أنه تم القضاء على المفاعلات النووية الإيرانية تماما.
وأعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل ساعات، أنّ إيران و"إسرائيل" وافقتا على "وقف تام لإطلاق النار" يبدأ قرابة الساعة الرابعة من فجر الثلاثاء بتوقيت غرينيتش ممّا سيضع "نهاية رسمية" لحرب استمرت 12 يوما بين البلدين.
وكتب ترامب على منصّته للتواصل الاجتماعي "تروث سوشل" إنّه "تمّ الاتفاق بشكل تامّ بين إسرائيل وإيران على وقف شامل وكامل لإطلاق النار".
ورغم الخروقات، فقد أعلن نتنياهو التزامه بوقف إطلاق النار، وقالت إيران إنها ملتزمة به ما التزم الاحتلال الإسرائيلي بعدم مهاجمتها.
ونقل موقع نور نيوز الإخباري الرسمي عن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان قوله اليوم الثلاثاء إن طهران لن تنتهك اتفاق وقف إطلاق النار ما لم تنتهكه "إسرائيل".
وأضاف الرئيس الإيراني أن طهران مستعدة للحوار والدفاع عن حقوق الشعب الإيراني على طاولة المفاوضات.