صدى البلد:
2025-08-12@01:31:23 GMT

مصطفى الشيمي يكتب: شبه أبيه

تاريخ النشر: 27th, April 2025 GMT

اسمي حمزة... أبعث بهذه الكلمات إلى كل من عرفني أو غاب عني؛ علّها تصل إلى من نسيته، أو من غيبه الزمن عن حياتي. لعل في قصتي ما يلمس شيئًا دفينًا في نفوسكم، فما مررت به لم يكن يومًا حكايتي وحدي.

منذ نعومة أظافري، عشت مع أمي وأخي بعد أن افترق والداي؛ انفصالًا بدا وديًّا في ظاهره، لكنه كان عاصفًا في أعماقه.

لم يكن زواجهما طبيعيًا، فقد جمعهما دم القرابة، وكم قيل إن زواج الأقارب يحمل معه اضطرابات لا تُحتمل، وقد كان نصيبي أن أعيش في ظل ذلك الاضطراب.

بعد الطلاق، تحولت أمي إلى كتلة من القسوة لا تعرف اللين. كنت أحتمل صمتها وغضبها، وأحتسب ألمها عند الله، مستذكرًا وصايا البر وطاعة الوالدين. ظننت أنني السبب، أنني ربما كنت عاقًّا دون أن أدري، أو عبئًا أثقل روحها. لكنني كنت، كلما نظرت إلى أخي شريف بما يصدر عنه من عقوق، أدرك أنني أمامه كنت كالملَك الطاهر.

كان لشريف الغرفة المُطلة، ولي الغرفة الداخلية. له الثياب الجديدة، ولي ما ضاق عليه. كان يتلذذ بطعام طازج، بينما كنت أبحث في بقايا المطبخ عن فتات الأيام. حاولت مرارًا الهروب إلى أبي، لكن زوجته كانت ترفضني خشية أن أكون جسرًا يعود به إلى أمي.

شريف كان الابن المدلل، والأكثر شبهًا بأمي. أدمن المخدرات، وكانت أمي تعلم لكنها لم تعترض. أما أنا، حين شمّت رائحة السجائر على ملابسي ذات يوم، انهالت عليّ ضربًا وسبابًا ودعاءً ثقيلًا. لم يكن التمييز مقتصرًا على الهدايا، بل تعداه إلى المشاعر. كانت تمنحه القطعة الكبرى من اللحم، وتجلب له أثمن الثياب والعطور، فيما كانت ملابسي من سوق الجملة، وكأنني لقيط لا يمت لها بصلة. وحين أصاب شريف المرض ورسب في امتحاناته، كانت تردد دون ملل او رحمة : "كان أحقّ منك بمقعدك في الجامعة." 

تحملت... وصبرت بصمت. ظننت أنني أدفع ثمن الوحدة، ثمن الطلاق، ثمن الغياب الذي خلّفه والدي في حياتها.

أتذكر يوم كسرتُ فنجان قهوتها المفضل؟ لم يكن القصد، كانت يداي المرتعشتان أضعف من أن تحمل ثقل الخزف. نظرت إليّ كمن يرى فيّ وصمة عار، لا مجرد خطأ. صفعتني أمام الزوار، ثم ألقت بي إلى البرد القارس خلف الباب، أطرق وأبكي حتى ابتلت ثيابي.

وفي عيد ميلادي، لم تهنئني. لم تنسَ التاريخ، لكنها تعمدت أن تنساني. أما يوم ميلاد شريف، صنعت له كعكة وزينت البيت قبل شهر من يومه. أما يومي فمرّ كأنه لعنة سقطت سهواً في تقويمها. لم أسمع "كل سنة وأنت طيب" إلا من جارة طيبة القلب.

حين مرضتُ ذات شتاء، واشتدت عليّ الحمى، توسلت إليها أن تجلس بجانبي. قالت ببرود: "أنا مش فاضية لدلّعك." تركتني أرتجف وحدي، بينما كانت تطهو حساءً دافئًا لشريف وتضحك معه خلف الأبواب المغلقة.

وذات يوم، في السابعة عشرة من عمري، سُرق هاتفي في المدرسة. عدت مرتجفًا، لا خوفًا على الهاتف، بل من ردّة فعلها. جلست أمامها أشرح، لكنها صرخت في وجهي: "أكيد انت اللي بعته! زيّك زي أبوك، كذاب وبتاع حِيَل!" ثم ألقت حذاءها تجاهي، وأغلقت باب الغرفة بالمفتاح، وتركتني محبوسًا لساعات.

وفي مرة أخرى، تعرضت لمضايقة من أحد الصبية في الشارع. دافعت عن نفسي، وعدت بعين دامية. لكنها لم تسأل عن الجاني، بل حكمت عليّ بجفاء ، وقالت  : "عمر الطيبين ما حد يمد إيده عليهم." لم تكن تبحث عن الحقيقة، كانت تبحث فقط عن ذنب تثبت به أنني لا أستحقها.

وذات ليلة، بعد مشادة مع شريف، نظرت إليّ وقالت، بهدوء يخترق العظام: “أنتوا الاتنين ولادي، بس هو ابني اللي بجد. أما أنت، فكلما نظرت إليك، شعرت أنك باقٍ مني غصبًا عني.”

ثم جاءت الجملة التي كشفت لي ظلام  السنين، حين قالت لي، كمن يزيح عن كاهله سرًا ثقيلًا: “لو لم يكن شريف موجود ، فأنا متأكدة أنك كنت ستفعل بي كما يفعل أبناء دور المسنين... أنت تشبه أباك في الملامح، في الطباع، في كل شيء. وكلما نظرت إليك، تذكرت كل ما كسرني.”

حينها فهمت ما ذنبي !  لا شيء... سوى أن ملامحي تشبه أبًا كرهته، فصرتُ أدفع الثمن كل يوم . كنت مرآتها، ترى فيّ هزيمتها، فكسرتني كي لا ترى كسرها.

وربما جاءت هذه السطور لتبوح بألمي، لأن كثيرين مثلي يكتمون صرخاتهم. فما لا يُقال، يظل ينخر أرواحنا بصمت. فإن كنت مررت بما يشبهني، فاعلم أنك لست وحدك. وإن لم تمر، فادعُ لحمزة... ذاك الذي كان “شبه أبيه”

طباعة شارك شبه أبيه مصطفى الشيمي

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: مصطفى الشيمي لم یکن

إقرأ أيضاً:

د.محمد عسكر يكتب: تيك توك في قفص الإتهام .. من يربح ومن يدفع الثمن؟

في السنوات الأخيرة، أصبح تطبيق تيك توك أحد أكثر المنصات حضوراً وتأثيراً في المشهد الرقمي المصري والعالمي. ما بدأ كمنصة لمشاركة مقاطع الفيديو القصيرة سرعان ما تحول إلى مساحة إقتصادية ضخمة تحقق أرباحاً لملايين المستخدمين، وفي الوقت ذاته يثير جدلاً واسعاً يتعلق بالمحتوى، الأمن الرقمي، وحتى شبهات غسيل الأموال.

 لم تعد منصة تيك توك مجرد مساحة للترفيه أو مشاركة المقاطع الطريفة فحسب، بل إنها تحولت إلى ساحة جدل واسعة تتقاطع فيها السياسة بالإقتصاد، والأمن بالقيم الإجتماعية. فما بدأ كتطبيق للفيديوهات القصيرة أصبح اليوم في قلب معارك حول غسيل الأموال، الرقابة الرقمية، والضرائب على الأرباح، وسط حالة من الإنقسام بين من يرى فيه منصة للإبداع ومن يعتبره تهديداً للأمن القومي.

الاتهامات التي طالت تيك توك في مصر – وفي دول أخرى – تتعلق بإستخدام خاصية "الهدايا الرقمية" أو البث المباشر كوسيلة لتحويل الأموال بطرق يصعب تتبعها. الآلية بسيطة: شخص ما يرسل هدايا رقمية لصانع محتوى، الذي يحولها إلى أموال حقيقية، بينما قد تكون تلك الأموال في الأصل ناتجة عن أنشطة مشبوهة. 

هذه الثغرة فى الحقيقة ليست حكراً على تيك توك وحده، إذ يمكن نظرياً إستخدام أي منصة رقمية أخرى تتيح تبادل القيم المالية لتحقيق نفس الهدف — من فيسبوك إلى يوتيوب، ومن Twitch إلى إنستغرام — يمكن أن تُستغل هذه المنصات أو حتى بعض تطبيقات الألعاب في عمليات مالية غير مشروعة إذ لم يكن هناك رقابة فعالة، لكن ما يجعل تيك توك تحت المجهر وفى بؤرة الإتهام هو سهولة إنشاء الحسابات، سرعة إنتشاره بين الشباب، صعوبة الرقابة الفورية، وضعف وعي المستخدمين بسياسات الأمان الرقمي، إضافة إلى أن بنيته التقنية تسهّل المعاملات الصغيرة المتكررة التي قد تُستخدم للتحايل والتخفى فى كثير من الأحيان.

خلال السنوات الأخيرة، ظهرت تقارير وشهادات تتهم تيك توك بأنه أصبح وسيلة لبعض الأطراف لممارسة غسيل الأموال، خاصة عبر خاصية الهدايا الرقمية التي يمكن تحويلها إلى أموال حقيقية. 

هذه الآلية التي تبدو بريئة على السطح، فتحت الباب أمام تحويلات مالية يصعب تتبعها، مما جعل المنصة محل شبهات ليس في مصر فقط، بل في عدة دول. ورغم غياب أدلة جنائية قاطعة في معظم الحالات، إلا أن هذا الغموض كافٍ ليجعل تيك توك هدفاً للرقابة والإتهام.

الربح من تيك توك يأتي عبر عدة طرق: الإعلانات، الهدايا الرقمية، الرعاية التجارية، والتسويق بالعمولة. لكن في مصر، هذه الأرباح ليست دائماً شفافة أو مُصرّح بها، ما يفتح الباب أمام التهرب الضريبي أو إستغلال الثغرات القانونية. 

فالربح الأكبر يذهب للمنصة الأم (بايت دانس)، ثم لقلة من صناع المحتوى البارزين، بينما يدفع الثمن المجتمع في صورة تدهور القيم، إنتشار الأخبار المضللة، وإحتمال تسلل أنشطة مالية مشبوهة. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن المنصة تتيح فرصاً إقتصادية وإبداعية حقيقية إذا تم تنظيمها بشكل فعّال.

تيك توك يثير مخاوف عالمية تتجاوز مصر: من إتهامات بالتجسس لصالح الحكومة الصينية، إلى دوره في نشر محتوى قد يؤثر على القيم المجتمعية أو يحرض على سلوكيات خطرة. دول مثل الهند حظرته نهائياً، بينما فرضت الولايات المتحدة وأوروبا قيوداً على إستخدامه في الأجهزة الحكومية. الجدل هنا لا يقتصر على المحتوى، بل يمتد إلى البنية السياسية التي تحكم المنصة.

التعامل الرسمي مع تيك توك في مصر حتى الآن لم يصل إلى مرحلة الحجب الكامل، بل يعتمد على إستدعاء صناع المحتوى، محاكمة بعضهم بتهم "خدش الحياء" أو "الإضرار بالقيم الأسرية"، ومحاولة مراقبة المحتوى الأكثر إثارة للجدل. الحجب الكامل تقنياً ممكن، لكنه سياسياً وإجتماعياً معقد، نظراً لإعتماد ملايين الشباب عليه كمصدر دخل. هذا الأسلوب يعكس تفضيل السلطات للسيطرة الإنتقائية بدل الإغلاق الشامل، بإختصار سياسة "الإبقاء تحت السيطرة"  هي الأسلوب الحالي، وأتوقع إستمرارها، مع إمكانية فرض قيود تقنية أو جزئية على بعض الخصائص إذا تصاعدت الأزمات.

من الناحية التقنية يمكن لمصر حجب التطبيق تماماً كما حدث مع تطبيقات أخرى في دول مختلفة. لكن الحجب الكامل قد يدفع المستخدمين للجوء إلى شبكات VPN الإفتراضيه أو تطبيقات أخرى بديلة، ما سيُضعف فاعلية القرار ويجعل الأثر العملي للحجب محدوداً للغاية ، ويحوّل الأمر إلى لعبة "قط وفأر" بين السلطات والمستخدمين. أما إقتصادياً، فإن الحجب قد يحرم آلاف المبدعين من مصدر رزق، وسيؤدي إلى إنتقادات محلية ودولية.

تيك توك في مصر يمثل حالة معقدة تجمع بين الفرص الاقتصادية والمخاطر الأمنية والإجتماعية. الإتهامات بغسيل الأموال تزيد من حدة الجدل، لكنها ليست مشكلة حصرية له، بل جزء من تحديات أوسع تواجه الإقتصاد الرقمي العالمي.

الحل ليس في الحجب، بل في بناء إطار قانوني وتقني يضمن الشفافية، ويحمي المجتمع، ويستفيد في الوقت نفسه من الإمكانيات الاقتصادية التي توفرها هذه المنصات. تيك توك ليس منصة خير مطلق ولا شر مطلق، بل أداة رقمية يمكن أن تصنع النجاح أو الفوضى حسب طريقة إدارتها. في مصر، المعادلة الصعبة هي كيف نوازن بين حرية التعبير، وضبط المحتوى، وحماية الإقتصاد من التهرب وغسيل الأموال، دون أن نخسر الفرص التي يتيحها العالم الرقمي.

أزمة تيك توك في مصر ليست حالة محلية معزولة، بل إنعكاس لصراع عالمي أوسع حول من يمتلك الفضاء الرقمي، ومن يضع قواعد اللعب فيه. ما يحدث اليوم هو سباق بين الحكومات التي تريد السيطرة، والشركات التي تبحث عن الأرباح بأي ثمن، والمستخدمين الذين يتحركون في المساحات الرمادية بين الاثنين. 

إذا كانت الهند قد حظرت تيك توك، وأمريكا تفكر في بيعه أو إخضاعه لرقابة محلية، فالسؤال في مصر يجب ألا يكون فقط "هل نحجب؟" أو "هل نتحكم في المحتوى؟"، بل "كيف نؤسس نظاماً رقمياً قادراً على حماية المجتمع والإقتصاد معاً؟". لأن المعركة ليست ضد تيك توك وحده، بل ضد الفوضى الرقمية التي قد تبتلع كل شيء إذا تركناها بلا قواعد.

طباعة شارك تيك توك مقاطع الفيديو القصيرة الأمن الرقمي غسيل الأموال

مقالات مشابهة

  • فيريرا يدرس ضم شريف لقائمة الزمالك أمام المقاولون.. وهذا موقف بيزيرا
  • حرارته كانت عالية.. إعلامي يكشف حالة زيزو قبل مباراة مودرن سبورت
  • فرج عامر يكتب رسالة غامضة لمتابعيه
  • عاجل.. استشهاد الصحفيين أنس شريف ومحمد قريقع في قصف إسرائيلي على مخيمهما بغزة
  • د.محمد عسكر يكتب: تيك توك في قفص الإتهام .. من يربح ومن يدفع الثمن؟
  • د. محمد بشاري يكتب: الفتوى والعقل في عصر الرقمنة
  • قيادي إخواني بارز: نكبة 2011 دمّرت اليمن والقيادة كانت للسفارة الأمريكية
  • رمضان السيد: الأهلي تأثر كثيرًا بغياب إمام عاشور.. ومحمد شريف خارج الخدمة
  • لحج.. ضبط رافعات مخصصة لإنزال حاويات السفن كانت في طريقها إلى الحديدة
  • شريف الشوباشي لـ«الأسبوع»: نجوم مصر سر نجاح أي تظاهرة فنية عربية