شعارات براقة تُخفي حسابات القوة
في خضم الحرب الأهلية السودانية المستعرة، تتصاعد دعوات بعض الأطراف السياسية والحكومات المحلية لعودة النازحين إلى مدنهم المدمرة. إلا أن هذه الدعوات، عند تمحيصها، لا تمثل سوى محاولة لاستخدام الأزمة الإنسانية كورقة ضغط سياسي
وفق منطق "الريال بوليتيك"، حيث تكون الأرواح مجرد تفصيل في معادلة المصالح.

ففي ظل تآكل الدولة، تتحول معاناة المدنيين إلى أداة تفاوضية بين الفصائل المسلحة واللاعبين الإقليميين.

الانهيار الهيكلي للدولة: مدن تحت أنقاض الحرب
مدنٌ مثل الخرطوم ونيالا والفاشر تحولت إلى أطلال بلا حياة. هذا الدمار الشامل لم يكن عشوائيًا، بل كان ثمرة استراتيجية ممنهجة تهدف إلى سحق مقومات الحياة المدنية:

تدمير البنية التحتية: المرافق الحيوية كالمياه والكهرباء تُستهدف عمدًا، لتجويع السكان وإجبارهم على النزوح أو الخضوع.

تسييس المؤسسات الخدمية: المدارس والمستشفيات تحولت إلى مقار عسكرية، في رسالة مفادها أن السلطة باتت بأيدي السلاح لا القانون.

انهيار الأمن: لم يعد الأمن غائبًا فقط، بل أصبح أداة تحكم. تنتشر الميليشيات بحرية، وتدار حياة المدنيين عبر الرعب المسلح، بينما تستغل بعض الأطراف مظاهر "استعادة الأمن" لتكريس سيطرتها.

تقارير الأمم المتحدة الأخيرة، التي حذرت بشكل واضح من أن الخرطوم لم تعد آمنة للعودة، تكشف زيف الخطاب الرسمي وتدين عمليًا غياب مؤسسات الدولة.

لعبة العودة: من المستفيد؟
خلف دعوات "العودة الآمنة" تتوارى حسابات سياسية بحتة:

تحسين الصورة أمام المجتمع الدولي: إظهار انخفاض أعداد النازحين يوحي بتحسن الأوضاع، مما يسهل استقطاب المساعدات الخارجية، التي غالبًا ما تُوظف لإدامة الصراع لا إنهائه.

ترسيم السيطرة الديموغرافية: إعادة توطين النازحين بشكل انتقائي يسمح للفصائل بفرض واقع ديموغرافي يخدم مصالحها، خصوصًا في مناطق الموارد كالذهب والأراضي الزراعية.
التخفيف عن دول الجوار: الضغوط المتزايدة على مصر وتشاد وجنوب السودان تجعلها تتغاضى عن أدوار بعض الفصائل المسلحة، وتقبل بها كأمر واقع في سبيل تقليل عبء اللاجئين.

اللاجئون- رهائن صراع إقليمي
دول الجوار تتعامل مع أزمة اللاجئين بمنطق المصالح:
مصر: تتبنى سياسات تضييق على اللاجئين لدفعهم للعودة رغم المخاطر، حفاظًا على استقرارها الداخلي وعلاقاتها مع القوى النافذة في السودان.
تشاد: توظف وجود اللاجئين كورقة تفاوضية لطلب الدعم الأوروبي، مقابل "ضبط الحدود" ومنع تدفقات الهجرة نحو أوروبا.

هذه السياسات توضح أن حق العودة ليس قضية إنسانية فحسب، بل ملف يُدار عبر حسابات معقدة ترتبط بالأمن الإقليمي والمكاسب الاقتصادية.
العودة الآمنة- شرط مستحيل في واقع الفوضى
وفق معايير السياسة الواقعية، تبدو شروط العودة، كما تطرحها المنظمات الدولية (وقف القتال، نزع السلاح، وجود قوات أممية محايدة)، أقرب إلى الأمنيات منها إلى الإمكانات:
نزع السلاح مستحيل- الفصائل تعتبر السلاح مصدرًا أساسيًا لقوتها السياسية والاقتصادية، ولا توجد قوة قادرة حاليًا على إرغامها على التخلي عنه.
إعادة الإعمار غائبة- في ظل انعدام سلطة مركزية معترف بها دوليًا، لا تجد الدول المانحة مبررًا لضخ أموال قد تقع في أيدي أمراء الحرب.
غياب الضمانات الدولية- المجتمع الدولي عاجز عن فرض حلول مستدامة في ظل انقسام مواقفه وتعدد أجنداته تجاه السودان.
الدم كعملة لشراء السلام
في ضوء هذه المعطيات، يصبح الحديث عن عودة النازحين اليوم أقرب إلى الخديعة السياسية. أطراف النزاع، ومعها بعض القوى الإقليمية والدولية، تدير الأزمة بهدف الحد من الخسائر وليس إنهاء المأساة.
السودانيون الذين نزحوا تحت وابل الرصاص والقذائف ليسوا فقط ضحايا الحرب، بل أسرى في لعبة مصالح تتجاوز حدودهم الوطنية.

الدرس الأشد قسوة أن السلام في السودان لن يتحقق عبر عودة متسرعة إلى مدن مدمرة، بل عبر إعادة بناء دولة عادلة حقيقية — وهو حلم ما يزال بعيد المنال، طالما ظل الدم أرخص من كلفة السلاح.

[email protected]

   

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

السكة الحديد: تشغيل القطار الثاني المخصص لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين غدًا

أعلنت الهيئة القومية لسكك حديد مصر استمرار تشغيل قطار مخصص لتيسير العودة الطوعية للمواطنين السودانيين الراغبين في العودة إلى وطنهم، حيث تقرر تسيير القطار رقم 1940 -درجة ثالثة مكيفة- غدًا الاثنين من القاهرة إلى أسوان.

وذكرت الهيئة، في بيان لها اليوم الأحد، أن ذلك يأتي في إطار العلاقات التاريخية الممتدة، والروابط الأخوية الوثيقة بين شعبي وادي النيل في جمهوريتي مصر والسودان، وحرصًا من الدولة على تقديم كافة أوجه الدعم الإنساني للأشقاء السودانيين المقيمين على أراضيها.

وأشارت إلى أن القطار رقم 1940 (درجة ثالثة مكيفة) سيقوم من محطة القاهرة الساعة 11:00 صباحًا، ويصل محطة السد العالي الساعة 23:40 مساءً، على أن يعود القطار نفسه برقم 1945 (درجة ثالثة مكيفة) من أسوان إلى القاهرة بعد غدا الثلاثاء، لخدمة جمهور الركاب، حيث يقوم من محطة أسوان في تمام الساعة 20:30 مساءً ويصل محطة القاهرة الساعة 09:25 صباحًا.

وأضافت أنه تم تزويد القطار بعربة إضافية لنقل الأمتعة (عربة سبنسة)، لتوفير مساحة مناسبة لنقل المتعلقات الشخصية الخاصة بالأشقاء السودانيين، بما يضمن لهم أقصى درجات الراحة والتيسير.

ولفتت إلى أن ذلك يأتي تنفيذًا لتكليفات المهندس كامل الوزير نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية وزير الصناعة والنقل لرئيس وقيادات الهيئة القومية لسكك حديد مصر بتوفير كافة التسهيلات اللوجستية والخدمات اللازمة لضمان رحلة آمنة وكريمة للأشقاء السودانيين، انطلاقًا من الدور الوطني والإنساني الذي تضطلع به الدولة تجاه شعوب الجوار الشقيق، وفي مقدمتها جمهورية السودان.

وأكدت الهيئة التزامها الكامل بتقديم الدعم المستمر للأشقاء السودانيين، متمنية لهم رحلة آمنة وعودة كريمة إلى وطنهم العزيز، في ظل وحدة المصير والمستقبل المشترك بين شعبي وادي النيل.

اقرأ أيضاًنائب محافظ سوهاج يُكرم سيدة وابنها اجتازا الثانوية العامة بإرادة تُدرّس

متى يبدأ صرف المقررات التموينية لـ شهر أغسطس 2025؟

لتفادي تلك المخاطر.. لا ترتدي الجينز الضيق أثناء الحمل

مقالات مشابهة

  • لبنان يطلق المرحلة الأولى من خطة عودة اللاجئين السوريين
  • عن الموقوفين السوريين في لبنان وعودة النازحين... ماذا كشفت السيّد؟
  • رحلة جديدة.. القطار الثاني يغادر القاهرة لإعادة السودانيين لوطنهم
  • عودة دفعة جديدة من اللاجئين السوريين من لبنان إلى حمص وسط دعم إنساني
  • المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في سوريا سيلين شميت لـ سانا: بالتنسيق مع مفوضية شؤون اللاجئين في لبنان والهيئة العامة للموانئ البرية والبحرية في سوريا، نقوم اليوم بتسيير أول قافلة عودة طوعية من لبنان إلى سوريا، وذلك في إطار برنامج العودة
  • انطلاق القطار الثاني لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين إلى وطنهم |صور
  • زيادة ملحوظة بعودة اللاجئين السوريين من الاردن لبلادهم
  • مسؤول “أممي” في السودان لمتابعة العدالة والعودة الطوعية للنازحين
  • السكة الحديد: تشغيل القطار الثاني المخصص لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين غدًا
  • الكفرة: عدد اللاجئين السودانيين يساوي سكان المدينة والدعم لا يُذكر