منذ قرن على الأقل ويوجد دعاة إلى إبعاد الدين عن الشأن العام، وقد تنامت هذه الدعوات مع ظهور المشروعات القومية ووصول الحكام العسكريين إلى الحكم، وصدامهم مع حركات سياسية ترتكن إلى الدين في مرجعيتها، ولعل أولها وأبرزها إلى الآن؛ جماعة الإخوان المسلمين. ولا يمكن فصل هذا التوجه السياسي للجماعة عن نشأة حركات سياسية دينية في الغرب، وأحزاب مسيحية أوروبية، وهو ما استهوى الشيخ الكبير الراحل حسن البنا، فأنشأ تنظيما يغلب عليه الطابع السياسي، رغم محاولته المزاوجة بين الهيكل الصوفي السائد في الثقافة الإسلامية لقرون سابقة، والهيكل السياسي للأحزاب المسيحية الأوروبية، وليته ما فعل.



كان الشيخ الراحل صاحب لسان طلق، وقدرة هائلة على الحشد والتجييش، وأراد -فيما يبدو- قطع الفصام بين الديني والسياسي الذي تعاظم -حينها- مع ظهور كتب مثل "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925، وذيوع مظاهر التغريب الثقافي والقيمي، فأراد إنشاء تنظيم حديث مرتكن إلى أصالة حضارة الأمة، كما فعل محمد علي عندما أنشأ جيشا على النظام الحديث، وعلي مبارك عندما أنشأ كلية دار العلوم، وغير ذلك من المؤسسات القديمة التي بدأت حينها تكتسي بحلة الحداثة مهتدية بالأنماط الغربية، فأنشأ الشيخ الراحل حركة دينية بدأت بالشكل الصوفي الذي يشكِّل مجموعات من نقباء يجمعهم مرشد عام للطريقة، ووضع نظام الأذكار مهتديا بالوظيفة الزَّرُّوقِيَّة للشيخ أحمد زَرُّوق الفاسي، وجعل لهم وِرْد رَابِطَة كالصوفية الذين يستحضرون هيئة الشيخ عند الدعاء بالوِرد، وما إلى ذلك من الصور الصوفية الطيبة.

وال نحو قرن من مسألة وجود الدين في الشأن العام تشكَّلت أفكار وممارسات، لكن السمة التي وُجدت في الأغلب الأعم من المنتسبين إلى الشريعة، سواء كانوا تابعين للأنظمة أو معارضين لها أو من الذين نَحَوْا إلى العنف أو الغلو في مسائل التكفير، أن جُلَّهُم يفتقدون إلى دراسة السياسة
بالطبع تحولت الجماعة مع مرور الزمن، خاصة مع انتقال الكثير من قادتها إلى السعودية في الخمسينيات وما بعدها، وأصبح عموم أفرادها أقرب للفكر الديني السلفي، مع مجافاتهم للسلفية في الجانب السياسي، وأصبحت الجماعة أقرب للخصومة مع الفكر الصوفي، لكن هذه مسألة ليست محل النقاش هنا.

الحاصل أن ما فعله الشيخ الراحل البنا اصطدم مع نظام الحكم في مصر، انتهى باغتياله -رحمه الله- ثم استمر النزاع مع الجماعة بعد انقلاب تموز/ يوليو 1952، وهنا بدأت العداوة مع الدين في الشأن العام تأخذ منحى أكثر سفورا، نتيجة الخلاف السياسي بين عبد الناصر والجماعة، خاصة عقب أزمة آذار/ مارس 1954 التي انحاز الإخوان فيها إلى محمد نجيب ومطالبه الديمقراطية. ونكَّل عبد الناصر بمواطنين مصريين بذريعة الخلاف السياسي، على نحو لم يُعهَد في المجتمعات العربية، وحذت أنظمة القمع العربية حذوه. ولا يزال الصراع مستعرا بين الجماعة والحكَّام العرب إلى يومنا هذا، ولم تسلم أي حركة أو حزب سياسي ديني من الاكتواء بنيران الاستبداد، سواء كانت مصيبة في قراراتها أم مخطئة، فالعلاقة بين الدين والشأن العام باتت علاقة صراع فقط، وأحسب أن ما سبق يمثِّل جذور هذا الصراع وبدايته.

فَهِمَ الحكَّام أن الهجوم على التنظيمات الدينية ينبغي أن يكون بالثقافة نفسها التي ينطلق منها رجال الحركات السياسية الدينية، فاستمالوا إليهم شيوخا ينافحون عما تدعو إليه الأنظمة الحاكمة، أيّا كان ما تدعو إليه، فأصبحت هناك فتاوى ومواقف لرموز دينية متضاربة، إحداها تدعو إلى أمر، والأخرى تجافيه وتعاديه، لتدخل المسألة الدينية في صراع يشعله الاستبداد، ووقوده دعاة السلطان من جهة وغير المختصين من أبناء الحركات السياسية الدينة من جهة أخرى، ويكتوي المجتمع بهذه النيران.

طَوال نحو قرن من مسألة وجود الدين في الشأن العام تشكَّلت أفكار وممارسات، لكن السمة التي وُجدت في الأغلب الأعم من المنتسبين إلى الشريعة، سواء كانوا تابعين للأنظمة أو معارضين لها أو من الذين نَحَوْا إلى العنف أو الغلو في مسائل التكفير، أن جُلَّهُم يفتقدون إلى دراسة السياسة، والمقصود هنا من ينشغل بالسياسة والكلام عنها لا المنكفئون إلى الدراسة والتدريس.

فمثلا حديث مفتي الجمهورية في مصر الذي انتقد فيه دعوات الجهاد، كان خادما بصورة واضحة لرؤية الكيان الصهيوني، من جهة الدعاية لقوته وقوة الدول الداعمة له، فقال بيان الإفتاء: "إن الدعوة إلى الجهاد دون مراعاة لقدرات الأمة وواقعها السياسي والعسكري والاقتصادي، هي دعوة غير مسؤولة وتخالف المبادئ الشرعية التي تأمر بالأخذ بالأسباب ومراعاة المآلات، فالشريعة الإسلامية تحث على تقدير المصالح والمفاسد، وتحذر من القرارات المتسرعة التي لا تراعي المصلحة العامة، بل قد تؤدي إلى مضاعفة الضرر على الأمة والمجتمع". وما قدمه اليمنيون طوال معركة إسناد غزة يكذِّب تماما هذه الرواية الغربية، بوقوفهم أمام الأمريكان والإنجليز وكيان الاحتلال.

كذلك، نجد دعاة من المعارضين لأنظمة الحكم القمعية، يتخذون مواقف سياسية شديدة الخطأ، وهي مواقف لا تُحصى في الفترة ما بين 2011 و2013، وهذه المواقف تسببت في انتكاسة كبرى لمصر وللمنطقة، وآخرها كان مؤتمر دعم سوريا، ورغم أن كثيرا من المواقف قد لا يكون خطأ من نواحٍ عديدة، لكن سوء التقدير السياسي للظرف، قد يؤدي إلى مفاسد دينية ودنيوية لا حصر لهما، ومصر خير شاهد على ذلك.

ربما يشترك دعاة السلطان ومعارضوهم من الدعاة في مطلب منع الإفتاء لغير المتخصص، وهو مطلب ضروري لضبط الفتوى، ومع ذلك، ينبغي على المنشغل بالشأن العام من المنتسبين إلى حَمَلَة الشريعة أن يحترموا التخصص في العلوم الاجتماعية، ومنها السياسة، فحديثهم بغير علم إما أن يؤدي إلى فساد بسبب اتباع جماعة لهم، أو إلى إسقاط حملة الشريعة من أعين الناس، فلا ينتفعون منهم ولا من وعظهم، وهذا بدا في مصر أيضا، عندما تورط دعاة وعلماء في قضايا سياسية، واستدرجهم المستبدون في قضايا تُسقطهم من أعين الناس، فاستباح بعض الناس المنابرَ وحُرْمَتَها، وأهانوا الخطباء على المنابر لتورطهم في شؤون سياسية كان ينبغي عليهم إما اجتنابها أو صياغة خطابهم بتوازن.

التخصص في كل علم مطلوب، والتخصص لا يعني احتكارَ العلم أو دراستَه أو التحدثَ فيه، لكن من أراد أن يتكلم فعليه أن يتكلم بوعي، وإذا كان رجل الشارع البسيط لا يأبه بالقواعد العلمية في أي مسألة بما فيها المسائل الطبية، فإن حامل المسؤولية والمتصدِّر لا ينبغي عليه أن يساوي نفسه بغيره ممن لا يحرِّك كلامه أحدا
صحيح أن الحديث في السياسة ليس حكرا على أحد، ومن حق الجميع أن يبدي رأيه، لكن الحقوق مقيدة بحسب المقام والمكان، فالمسؤول يضبط خطابه كي لا يتسبب في أزمة، ومن يقف في مسجد لا يتحدث كمن يتحدث في مقهى، ومن يمارس دعاية سياسية في نقابة أو في الشارع له الحق في ذلك، ومن يقوم بدعاية سياسية في بيوت الله ربما يقع في مخالفة قول الله: "وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا".

القصد أن المقام والمكان يحتِّمان على المتحدث مراعاتهما، وحَمَلَة الشريعة يحملون أعظم رسالة، ولا ينبغي عليهم أن ينخرطوا فيما يمس مقام الدعوة أو بيوت الله، وذلك دون مساس بحقهم في التكلم في الشأن العام، ودون فصل بين الدين والسياسة، فالسياسة لا يمكنها أن تكون منفصلة عن قيم تحكمها وتضع لها الحدود لضبط الممارسة، والعالم بأسره يستمد السلوك السياسي من التنظير، وبعض التنظير يرجع إلى أرسطو وأفلاطون من قرون سحيقة، ولن يجد البشر قيما أكثر حكمة أو عدالة مما شرعه خالق الخلق، الذي يعلم بما يصلحهم معاشهم ومعادهم.

إن التخصص في كل علم مطلوب، والتخصص لا يعني احتكارَ العلم أو دراستَه أو التحدثَ فيه، لكن من أراد أن يتكلم فعليه أن يتكلم بوعي، وإذا كان رجل الشارع البسيط لا يأبه بالقواعد العلمية في أي مسألة بما فيها المسائل الطبية، فإن حامل المسؤولية والمتصدِّر لا ينبغي عليه أن يساوي نفسه بغيره ممن لا يحرِّك كلامه أحدا، وكم عالما راسخا في مجال سقط لأنه تحدث دون علم في غير فنِّه وتخصُّصِه، فَبَدَا وكأنه أقرب للحمق فيما ولج فيه وهو غير خبير، وهذا ما ينبغي أن ينأى عنه حَمَلة الشريعة، إذ إن قيمتَهم مكتسبةٌ مما يبلّغونه عن الله، ومن وقوفهم على منابر المساجد، وإهانتهم تفتح الباب لإهانة التراث الفقهي وإهانة المنابر. وهذه مسؤولية كبيرة سيقفون بها أمام الله، سواء كانوا ممن باعوا دينهم لأجل دنياهم، أو كانوا يخوضون في قضايا لا علم لهم بها فتسببوا بانتقاص الناس للشريعة وأهلها.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الشريعة السياسة اسلام اخوان سياسة شريعة مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی الشأن العام ة الشریعة الدین فی أن یتکلم

إقرأ أيضاً:

«بداية جديدة وأمل جديد».. تفاصيل موضوع خطبة الجمعة القادمة (النص الكامل)

حددت وزارة الأوقاف موضوع خطبة الجمعة القادمة بعنوان «بداية جديدة وأمل جديد»، والهدف من هذه الخطبة، المراد توصيله للجمهور هو توعية الجمهور بأهمية تجديد الأمل مع استقبال العام الهجري الجديد، علمًا بأن الخطبة الثانية تتناول تحذيرًا بالغًا من أضرار الإدمان، وأملًا في بداية جديدة مشرقة بالقوة والعافية.

نص موضوع خطبة الجمعة القادمة

الحمدُ للهِ العزيزِ الحميدِ، القويِّ المجيدِ، وأشهدُ أن لا إلـه إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً مَن نطق بها فهو سعيدٌ، سبحـانَه هدى العقولَ ببدائعِ حكمِه، ووسع الخلائقَ بجلائلِ نِعَمِه، أقام الكونَ بعظمةِ تجلِّيه، وأنزل الهدى على أنبيائِه ومرسلِيه، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، شرحَ صدرَه، ورفعَ قدرَه، وشرَّفَنا به، وجعلَنا أُمتَه، اللهم صلِّ وسلِّم وباركْ عليه، وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وبعدُ:

فمعَ بزوغِ فجرِ عامٍ هجريٍّ جديدٍ هذه رسالةُ أملٍ، وبُشـرى بمستقبلٍ مشـرقٍ، فيا أيها الكرامُ تفاءلوا، فإنَّ أيامَ خيرٍ وبركةٍ تنتظرُكم، املأوا قلوبَكم بالأملِ، فالأملُ نبراسُ الروحِ، ووقودُ العزيمةِ، الأملُ هو النورُ الذي يجعلُنا ننهضُ بعدَ كلِّ سقطةٍ، ونحاولُ بعد كل إخفاقٍ، متحققين بهذا البيانِ الإلهيِّ العظيمِ: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَوْحِ اللهِ إنَّه لا ييأسُ مِن رَوْحِ اللهِ إلَّا القومُ الكَافرُون}.

أيها الكرامُ أبشِرُوا، فإنَّ هذا العامَ الجديدَ بمثابةِ فجرٍ جديدٍ يطلُّ علينا بنورِه وبركتِه، فهل نستقبلُ هذا الفجرَ بقلوبٍ يقظةٍ وعزائمَ متجددةٍ؟ ماذا لو علمْنا أنَّ كلَّ مَن وصل إلى القمةِ قد مرَّ بآلامٍ وعثراتٍ؟ ماذا لو كانت محنةُ اليومِ هي مفتاحَ السعادةِ غدًا؟! ألم ترَ إلى الأحوالِ النبويةِ وهي تنتقلُ من قبضٍ إلى بسطٍ، ومن شدةٍ إلى فرَجٍ؟! هل تعلمون أنَّ تأخيرَ الإمدادِ قد يكون لخيرٍ لا نعلمُه؟ فما أخرَّك إلا ليقدمَك، وحاديك قولُه تعالى: {فَإِنَّ معَ العُسر يُسرًا * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا}، فَلَا يغلبُ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ!

عبادَ اللهِ، أبشروا، فالأملُ قوةٌ دافعةٌ للإنسانِ على الاستمرارِ في الحياةِ، وأداةُ النجاحِ في مواجهةِ الصعابِ، فهو ليس مجردَ شعورٍ عابرٍ، بل هو صناعةٌ تحتاجُ إلى إرادةٍ وعملٍ مستمرٍّ، وتوجيهُ النفسِ نحو التفكيرِ الإيـجابيِّ، والتفاؤلُ ليس مجردَ فكرةٍ إيـجابيةٍ، بل هو مجموعةٌ من المبادئِ العمليةِ التي تتطلبُ إيمانًا عميقًا بالله، وعملًا جادًّا في أصعبِ الظروفِ، وصبرًا على مواجهةِ التحدياتِ بثقةٍ مع التوكلِ على اللهِ واليقينِ بأن الفرجَ آتٍ مهما طال الزمنُ، فأبشِرُوا وادْخُلُوا عَلى الكَرِيمِ الوَهَّابِ مِنْ بابِ المعيةِ كَمَا دخل الجنابُ المعظمُ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}، فَكُونُوا معَ اللهِ تَجِدُوا اللهَ مَعَكُم.

أيها الكرامُ، اعلموا أنَّ صناعةَ الأملِ تبدأُ من داخلِ كلِّ فردٍ منَّا وقدِ ازدادَ قلبُه يقينًا في ربِّه، لنجعلْ من كلِّ تحدٍّ فرصةً، ومن كل عقبةٍ سُلَّمًا نرتقي به، لنحولْ عقولَنا مصانعَ للأفكارِ النيِّرةِ، وأيديَنا أدواتٍ للبناءِ والتعميرِ، دعونا نطلقُ العنانَ لأحلامِنا، ونؤمنُ بقدرتِنا على التغييرِ، لنستلهم المنهجَ النبويَّ الشريفَ، فقد كان الجنابُ المعظمُ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه دائمَ الفألِ، محبًّا لكلِّ ما مِن شأنِه أن يبعثَ على الأمل، ويكرهُ كلَّ ما مِن شأنه أن يدعوَ إلى التشاؤمِ أو الإحباطِ أو إشاعةِ اليأسِ، كما قال سيدُنا أبو هريرةَ رضي الله عنه: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ الفألَ الحسنَ، ويكرهُ الطِّيَرَةَ».

وهذه رسالةٌ إلى بِائِسٍ خائفٍ مِن المستقبلِ: قِفْ على بابِ مولاكَ، واطلبْ منه ما تريدُ، فربُّكَ يعطيكَ فوق المزيد مزيدًا، حزنُك سيتحولُ إلى فرحٍ، وهمُّك سيصيرُ فرَجًا، وضيقُك سيتسعُ إلى مخرجٍ، أحسن الظنَّ بربِّكَ، فمن كان يصدِّقُ أن الجنابَ المحمديَّ صلوات ربي وسلامه عليه الذي خاضَ كلَّ الصعوباتِ والمحنِ سيقفُ فاتحًا منتصرًا أمام ما يزيدُ عن مائةِ ألفٍ من أصحابِه رضي اللهُ عنهم، ليفتحَ بابَ الأملِ للمستضعفينَ، وبابَ الرحمةِ والعفوِ والمغفرةِ للناسِ أجمعين، «مَا تَظُنُّونَ أني فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيرًا، ونظنُّ خيرًا، أخٌ كريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ، فقال صلوات ربي وسلامه عليه: «فإنِّي أقولُ كما قال أخي يوسفُ: {لا تثريبَ عليكم اليومَ يغفرُ اللهُ لكم وهو أرحمُ الراحمينَ}»، فيا أيها الناسُ، أبشِروا وأمِّلوا، وظُنُّوا بربِّكم خيرًا، فهو القائلُ: «أنا عندَ ظنِّ عبدي بي»، {فما ظَنُّكُم بربِّ العالمينَ}؟!

الخطبة الثانية

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على خاتمِ الأنبياءِ والمرسلين، سيدِنا محمدٍ (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، وبعدُ:

فلنجعلْ- أيها الكرامُ- هذا العامَ بدايةَ العودةِ إلى الذاتِ، عامَ التحررِ من الأغلالِ، فإلى مَن سلكَ دروبَ الظلامِ والمخدراتِ التي تدمِّرُ الفردَ والأسرةَ، وتضيِّعُ مستقبلَ الموظَّفين ومَن يعولونهم، وتعطِّلُ خططَ التنميةِ، لنقلْ: لا للتدخينِ قبل أن نقول: لا للإدمانِ، فإن التدخينَ باب دُخول عالمِ المخدِّرات، ولا لإدمانِ مشروبات الطاقة التي تضرُّ وتوهن، لا لمخدرات الاغتصاب التي تسلب العقولَ والألباب وتدمر الأجساد.

وإلى كلِّ من ابتلي بالإدمانِ: لا تيأسْ! فاللهُ لم يخلقكَ لتكون أسيرًا، بل لتكونَ حُرًّا طليقًا منيرًا، واعلمْ أنَّ أُولَى خطواتِ الشفاءِ الإرادةُ الصلبةُ، فمُدَّ يدَك ولا تخجلْ، فكم من أيادٍ تنتظرُ لتمسكَ بها، وكم مِن قلوبٍ تتمنى أن ترى نورَك مِن جديدٍ، وتذكرْ قولَ اللهِ تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.

ويا أيُّها النبلاءُ، يا مَن ابتليتُم بعزيزٍ غالٍ يصارعُ الإدمانَ، لا تتركوه وحيدًا، بلْ مُدُّوا له يدَ العونِ، احتضنوه بحبِّكم، كونوا له السندَ والعونَ، فالحبُّ أقوى من أي مخدِّر، والدعمُ الأسريُّ هو أولُ مراحلِ التعافي، طمئنوهم، وبيِّنوا لهم أنَّ قانونَ مكافحةِ المخدراتِ يحرص على علاج المتعاطين وتأهيلهم ليكونوا قبسَ نورٍ وشعلةَ نشاطٍ في المجتمعِ، ولنعمل يدًا بيد للقضاء على هذا الوباء، بالتوعيةِ، بالدعمِ، ولنفتحْ أبوابَ الأملِ لمن أرادَ العودةَ، ولنساندْ كلَّ من قرَّرَ التحدي، فمجتمعٌ خالٍ من الإدمانِ مجتمعٌ قويٌّ، منتِجٌ، مزدهرٌ.

اللهم اجعل بلادَنا سخاءً رخاءً

وازرعْ في قلوبِنا الأملَ والبُشرى بكَ يا أكرمَ الأكرمينَ

اقرأ أيضاًالأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة القادمة.. «بداية جديدة وأمل جديد»

موضوع خطبة الجمعة القادم.. «إذا أردت السلامة من غيرك فاطلبها في سلامة غيرك منك»

«الأوطان ليست حفنة من تراب».. الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة 13 يونيو 2025

مقالات مشابهة

  • «بداية جديدة وأمل جديد».. تفاصيل موضوع خطبة الجمعة القادمة (النص الكامل)
  • باراك ينتظر أجوبة حول الإصلاحات والسلاح.. ومبارزة سياسية في جلسة 30 حزيران النيابية
  • دعاء أوصى به الرسول.. أهم الأدعية التي كان يرددها النبي
  • "ألف ليلة وليلة".. بين الحُب والأدب والسياسة
  • أذكار المساء كاملة.. أفضل 7 أدعية لتحصين النفس مع بداية الليل
  • تبدّل في الخطاب السياسي لاستيعاب الحزب
  • تصعيد جنوني أم بداية تسوية عاقلة؟
  • هل أمر النبي بتأخير صلاة العشاء؟.. انتبه لـ7 حقائق ينبغي معرفتها
  • علماء اليمن يؤكدون على وجوب اتحاد المسلمين لنصرة غزةَ وتأييد إيران في مواجهة العدوان
  • لقاء موسع لعلماء اليمن يؤكد وجوب الجهاد في سبيل الله لمواجهة أعداء الأمة