تحت سقف قاعات الدرعية العتيقة، وبين جدرانها التي شهدت الحنكة الدبلوماسية والتحالفات الاستراتيجية، تجددت العلاقة التاريخية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية بلقاءٍ رمزي وعميق الدلالة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترمب والقيادة السعودية.

زيارةٌ حملت من الأبعاد أكثر مما بدا في مراسمها البروتوكولية، إذ شكلت انعطافة جديدة في مسار التحالف بين البلدين، وأعادت رسم أولويات التعاون الثنائي في سياق إقليمي ودولي متبدل.



الدرعية.. منطلق الدولة السعودية ومسرح التحولات الكبرى

الدرعية، العاصمة التاريخية للدولة السعودية الأولى، ليست مجرد موقعٍ رمزي اختير بعناية لهذا اللقاء. إنها نقطة البداية التي شهدت تحالف الإمام محمد بن سعود مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب عام 1744، مما أسس لنشأة الدولة السعودية الأولى. وبذلك أصبحت الدرعية رمزًا للسيادة والوحدة والنهضة. في هذا المكان العريق، الذي أعيد ترميمه ليكون شاهدًا حيًا على عراقة التاريخ السعودي، يُعاد إحياء الروح نفسها ولكن هذه المرة بلغة العصر: الاقتصاد، الأمن، والاستثمار العالمي.

ترمب والقيادة السعودية.. تحالف يعبر المراحل

جاءت زيارة الرئيس ترمب في ولايته الثانية كإشارة واضحة إلى أن الرياض ما تزال شريكًا استراتيجيًا أول للولايات المتحدة في المنطقة. اختيار المملكة كأول محطة خارجية لترمب بعد فوزه مجددًا بالرئاسة لم يكن مصادفة، بل يعكس إدراكًا أمريكيًا متزايدًا بأن مركز الثقل السياسي والاقتصادي بات يميل شرقًا، وتحديدًا نحو الخليج.

السياق التاريخي للتحالف

يعود هذا التحالف إلى ما يقرب من قرن، حين بدأت الشركات الأمريكية التنقيب عن النفط في المملكة عام 1933، بعد عام واحد فقط من إعلان تأسيس المملكة رسميًا. ومنذ ذلك الحين، اتخذت العلاقة بين البلدين طابعًا استراتيجيًا، قائمًا على المصالح المتبادلة والاحترام السياسي.

واحدة من اللحظات المفصلية في هذا التاريخ الطويل كانت زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون للمملكة عام 1974، والتي تمخض عنها تأسيس اللجنة الاقتصادية الأميركية السعودية المشتركة في "بلير هاوس" بواشنطن. شكلت تلك الزيارة حجر الأساس لتعاون اقتصادي موسع، ما يزال قائماً حتى اليوم.

المملكة اليوم.. شريك يحرك الأسواق ويصيغ التوازنات

في ظل رؤية السعودية 2030 بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أعادت المملكة تعريف نفسها على المسرح الدولي كدولة منتجة، فاعلة، ومبنية على تنوع اقتصادي ومجتمعي. لم تعد الشراكة مع الرياض تقتصر على النفط؛ بل أصبحت تشمل الطاقة المتجددة، الذكاء الاصطناعي، صناعة الدفاع، السياحة، والبنية التحتية.

أكثر من 500 شركة أمريكية تعمل في السعودية، ويبلغ عدد المشروعات المشتركة قرابة 609، بقيمة تتجاوز 62 مليار دولار. وتشير الإحصاءات إلى أن الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأولى في واردات السعودية، والثانية في صادراتها، مما يعكس حجم الترابط الاقتصادي المتزايد.

توقيت حساس.. وغزة في الواجهة

لكن هذه الزيارة لا تأتي في فراغ سياسي، بل في توقيت بالغ الحساسية إقليميًا ودوليًا. فبينما لا تزال حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة مستمرة، وتسقط آلاف الضحايا من المدنيين الفلسطينيين، يجد هذا اللقاء صدى خاصًا في العواصم الإقليمية والدولية. حيث يُنظر إليه كاختبار لتوازن الرياض بين تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن، وارتباطها التاريخي بقضايا الأمة العربية والإسلامية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

وفي هذا السياق، يبرز أيضًا أن زيارة ترمب تأتي بعد نجاح مفاوضات غير مباشرة بين الولايات المتحدة وحركة "حماس"، تُوجت بالإفراج عن الأسير الأمريكي عيدان ألكسندر، وهي خطوة فسّرها البعض كمؤشر على رغبة واشنطن في استكشاف قنوات تفاوض جديدة بعيدًا عن المقاربات الأمنية التقليدية.

كما أن هذه الزيارة تأتي في ظل تعليق المسار السياسي لانضمام السعودية إلى "اتفاقات إبراهام"، وهي القضية التي تشكّل موضع مراقبة دقيقة من الأطراف الدولية والإقليمية. فبينما دفعت إدارة بايدن في وقت سابق نحو ضم المملكة إلى إطار التطبيع، يبدو أن القيادة السعودية فضّلت التريث في ظل الحرب المستمرة على غزة، وتردي صورة إسرائيل في الرأي العام العالمي.




إيران.. الغائب الحاضر في لقاء الدرعية

في اللحظة التي تجدد فيها التحالف الاستراتيجي بين السعودية والولايات المتحدة تحت سقف قاعات الدرعية العتيقة، حضرت إيران بصمتها الثقيلة في خلفية المشهد؛ كطرف غائب حاضر، تؤثر أجندتها وسلوكها الإقليمي في توجهات الحوار ومآلات التحالف. فبينما لم يُذكر اسمها صراحة، كانت طهران جزءًا من كل ملف ناقشه الجانبان، من الأمن الإقليمي إلى الاستقرار في الخليج، ومن دعم الجماعات المسلحة إلى تطورات الحرب في غزة، لتبدو زيارة ترمب، في جوهرها، إعادة اصطفاف إقليمي ورسالة مزدوجة مفادها أن الرياض، بثقلها التاريخي وموقعها الجيوسياسي، تصوغ شراكاتها الجديدة من موقع القوة والندية، لا من باب القلق أو التوجس.

ما بعد اللقاء.. شراكة بعيون جديدة

لقاء الدرعية لا يُختزل في رمزيته التاريخية فحسب، بل يشكل بداية مرحلة جديدة من الشراكة تعتمد على إعادة هيكلة التحالف ليصبح أكثر توازنًا واستدامة. ويتوقع أن تسفر الزيارة عن إطلاق مبادرات استثمارية ضخمة في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية، إلى جانب تعزيز التعاون الدفاعي، وتنسيق السياسات في قضايا الطاقة والمناخ.

في الدرعية، حيث بدأت حكاية الدولة السعودية، تتجدد اليوم سردية التحالف السعودي الأمريكي بثقة جديدة، ووعي أكبر بقيمة الشراكات طويلة الأمد. لكن هذه المرة، وفي ظل دخان غزة الكثيف وصمت الملفات المعلقة، لا يملك هذا التحالف رفاهية الاستمرار على قواعد الماضي. إنها لحظة مراجعة، وتوازن دقيق بين التاريخ، والمصالح، والكرامة الإنسانية.

الدرعية بين التحالفين.. من الدعوة إلى الدبلوماسية

اللافت أن الدرعية، التي كانت قبل قرنين ونصف مسرحًا لتحالف عقائدي شكّل النواة الأولى للدولة السعودية، تعود اليوم لتكون منصة لتحالف من طراز مختلف تمامًا. ففي المكان نفسه الذي شهد عام 1744 اللقاء التاريخي بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو تحالف رسّخ دعائم الدولة على أساس ديني واجتماعي صارم، تُعقد اليوم لقاءات على مستوى استراتيجي ودولي تُعيد تعريف الدور السعودي وفق منطق عالمي جديد.

لم تعد الدرعية نقطة انطلاق لمشروع دعوي محافظ فحسب، بل تحولت إلى مركز للحوار الدبلوماسي، والتحالفات الاقتصادية، ورسم مسارات التوازن الجيوسياسي. التحول هنا ليس في الشكل فقط، بل في الجوهر: من تحالف عقائدي يستهدف بناء مجتمع موحد الهوية، إلى تحالف براغماتي يستند إلى المصالح الوطنية، والاستثمار في التعدد، والانفتاح، والدور الإقليمي والدولي الفاعل.

هذا التبدّل يعكس نضوج الدولة السعودية، وتحوّلها من طور التأسيس العقائدي إلى طور السيادة الحديثة، حيث تُصاغ السياسات وتحالفات المصالح في قاعاتٍ تحمل من التاريخ رمزًا، ومن المستقبل إمكاناتٍ مفتوحة مع ما يصاحب ذلك من تحولات داخلية يدركها العارفون بشؤون الدار.


المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية سياسة عربية السعودية زيارة امريكا السعودية زيارة دلالات المزيد في سياسة سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدولة السعودیة محمد بن

إقرأ أيضاً:

المواصفات السعودية تفتتح 44 موقعًا للفحص الفني الدوري للمركبات في مختلف مناطق المملكة

أعلنت الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة عن مواصلة التوسع في منظومة الفحص الفني الدوري للمركبات ليصل إجمالي عدد المواقع المشغّلة حتى اليوم إلى 44 موقعًا ثابتًا، في الوقت الذي كان يصل فيه عدد المراكز قبل انتقال التنظيم إلى مركز سلامة المركبات إلى 29 موقعًا فقط، إضافة إلى تشغيل 14 معدة فحص متنقلة من أصل 16 معدة معتمدة.

ويأتي هذا التوسع ضمن جهود الهيئة الرامية إلى تعزيز السلامة المرورية، وتيسير حصول المواطنين والمقيمين على خدمات الفحص الفني بكل يسر وكفاءة، حيث أثمر تكامل الجهود مع مختلف الجهات المعنية
في زيادة عدد المركبات التي فُحصت من (2,900,000) مركبة في عام 2019م إلى (5,800,000) مركبة في عام 2024م.

وشملت المواقع الجديدة التي افتُتحت مؤخرًا كلًا من الرياض، حائل، الزلفي، المذنب، البكيرية، المدينة المنورة، القنفذة، سراة عبيدة، وضباء، وذلك ضمن خطة انتشار مدروسة تهدف إلى تغطية جميع المناطق بشكل متوازن، وفق أفضل الممارسات الدولية، وبما يتماشى مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 في تحسين جودة الحياة، ورفع مستوى السلامة على الطرق، وتعزيز كفاءة منظومة النقل البري، حيث تستهدف الهيئة التوسع في تقديم خدمات الفحص الفني الدوري للمركبات لتصل إلى 112 موقعًا مستهدفًا، موزعة على مختلف مناطق المملكة.

أخبار قد تهمك نائب أمير جازان يستقبل رئيس محكمة الاستئناف بالمنطقة 26 يونيو 2025 - 4:28 مساءً أمير جازان يستقبل رئيس محكمة الاستئناف بالمنطقة 26 يونيو 2025 - 2:19 مساءً

وأكدت الهيئة أن هذا التوسع يندرج ضمن سلسلة من المبادرات التطويرية التي أطلقتها لتعزيز كفاءة الفحص الفني، والتي تشمل تطوير البنية التحتية الرقمية، ورفع جودة الأداء الفني، وتوسيع نطاق الخدمات،
بالإضافة إلى تحسين تجربة المستفيد، وتقليل الأعطال الفنية المؤثرة في سلامة المركبات.

وشددت الهيئة على أهمية الفحص الفني الدوري للمركبات حفاظًا على سلامة مستخدمي الطرق، محذّرة من مواقع الحجز المزيّفة، وداعية إلى التأكد من موثوقية الموقع عند حجز المواعيد، وذلك عبر الرابط
الرسمي: https://pti.saso.gov.sa/apt.

مقالات مشابهة

  • تحالف «صمود» يرحب بهدنة الفاشر الإنسانية ويدعو لتوسيعها
  • ترامب: إيران ترغب في عقد لقاء
  • “الخارجية”: المملكة تدين استمرار أعمال العنف التي يشنها مستوطنون إسرائيليون بحمايةٍ من قوات الاحتلال ضد مدنيين فلسطينيين
  • الخطوط السعودية تستحدث مساراً جوياً بين المملكة وموسكو اعتباراً من أكتوبر 2025
  • ضربة إيران.. أهم الأسئلة التي بقيت بلا إجابة بعد كشف البنتاغون تفاصيل جديدة
  • في دعم مستمر : السعودية تقدم دعماً لفلسطين بـ30 مليون دولار
  • المواصفات السعودية تفتتح 44 موقعًا للفحص الفني الدوري للمركبات في مختلف مناطق المملكة
  • روسيا منفتحة على زيادة جديدة في إنتاج أوبك+ النفطي
  • المملكة في 1446هـ.. إنجاز وتأثير
  • مباحثات هاتفية لولي عهد السعودية مع رئيسي وزراء باكستان والعراق