في ظل تسارع وتيرة التغيرات المناخية وتزايد الضغوط البيئية بسبب الاحتباس الحراري، يجد العالم نفسه عند منعطف تاريخي يُعيد فيه النظر في أسس نظامه في مجال الطاقة والصناعة والعلاقة بينهما. فبينما ظل الوقود الأحفوري لعقودٍ عصب الاقتصاد العالمي ومحركًا رئيسيًا للصناعات الثقيلة والصناعات الأخرى، تلوح في الأفق ثورة خضراء يقودها صعود الهيدروجين الأخضر كبديل استراتيجي، لا يقتصر على كونه مصدرًا للطاقة النظيفة فحسب، بل يمثل أيضًا نواةً لتحول صناعي شامل، فالاستثمارات المتسارعة في هذا القطاع لا تنحصر في إنتاج الطاقة الخالية من الكربون، بل تمتد إلى إعادة هيكلة سلاسل القيمة الصناعية برمتها.

من صناعة الصلب والأسمنت إلى الكيماويات والنقل الثقيل، يُتوقع للهيدروجين الأخضر أن يكون حجر الزاوية في إزالة الكربون عن القطاعات التي ظلت عصية على التحول الأخضر. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس عن مدى جدوى هذا التحول، بل عن شكله النهائي: كيف ستبدو خريطة الصناعة العالمية عندما تصبح المصانع تعمل بالهيدروجين؟ وما هي تداعيات هذا التحول على التنافسية الصناعية والاستقلال الطاقي للدول؟

في هذا المشهد المتشابك الذي يرتبط بعضه ببعض والمستقبل الذي تتشكل ملامحه في هذا الوقت التاريخي، حيث تتصاعد وتيرة المنافسة على قيادة اقتصاد الهيدروجين، تبرز معادلة جديدة تربط بين الريادة التكنولوجية والسيادة الصناعية. فالدول التي تنجح في بناء منظومة متكاملة للهيدروجين الأخضر لن تكتفي بحل أزمة المناخ، بل ستضع يدها على مفاتيح الصناعة المستقبلية - صناعة لن تكون نظيفة فحسب، لهيدروجين كمحرك للاقتصاد.

لا يقتصر دور الهيدروجين الأخضر على كونه مجرد بديل طاقي نظيف، بل يشكل نقلة نوعية في مفهوم التنمية الصناعية نفسها. فهو ليس حلًا لتحدي الانبعاثات فحسب، بل أداة لإعادة تشكيل الجغرافيا الاقتصادية العالمية. ففي القطاعات الصناعية الأكثر تحديًا -مثل الصلب والأسمنت والكيماويات- حيث تعجز التقنيات التقليدية عن خفض الانبعاثات بشكل جذري، يبرز الهيدروجين الأخضر كحل استراتيجي قادر على تلبية احتياجات الطاقة العالية والحرارة الشديدة (التي تصل إلى 1000 درجة مئوية) التي تتطلبها هذه الصناعات، فضلًا عن كونه عامل اختزال أساسيا في عمليات مثل تحويل خام الحديد إلى حديد إسفنجي.

ولكن الأهم من ذلك، أن هذا التحول التقني يحمل في طيّاته بذور نهضة صناعية شاملة. فالانتقال إلى اقتصاد الهيدروجين لا يعني مجرد استبدال مصادر الطاقة، بل إطلاق سلسلة متكاملة من الصناعات الجديدة - من تصنيع المعدات الخاصة بالتحليل الكهربائي إلى تطوير أنظمة التخزين والنقل المتقدمة. هذه السلسلة الصناعية الجديدة لا تقاس فقط بمؤشرات خفض الكربون، بل أيضا بقدرتها على خلق فرص عمل نوعية، وتحفيز الابتكار التكنولوجي، وإرساء أسس تنمية اقتصادية متوازنة ومستدامة.

صناعة الطاقة المتجددة:

لا يمكن فصل مستقبل الهيدروجين الأخضر عن تطور قطاع الطاقة المتجددة، فهو يعتمد بشكل كلي على توفر الكهرباء الخضراء المنتجة من الشمس والرياح. وهذا الاعتماد المتبادل يخلق حلقة تنموية فريدة: فكل مشروع للهيدروجين الأخضر يحتاج إلى بنية تحتية ضخمة من الألواح الشمسية وتوربينات الرياح، مما يحفز بدوره إنشاء صناعات متخصصة لتلبية هذه الاحتياجات.

في سلطنة عُمان، تظهر هذه الديناميكية بوضوح من خلال المشاريع العملاقة مثل مصنع البولي سيليكون في صحار (باستثمار يتجاوز 520 مليون ريال عماني) ومصنع توربينات الرياح «موارد توربين» (بطاقة إنتاجية تصل إلى 1000 ميغاواط). هذه المشاريع هي لبنات أساسية في منظومة صناعية متكاملة تهدف إلى جعل عُمان مركزا إقليميا للاقتصاد الأخضر.

توليد الكهرباء:

الطاقة المتجددة تواجه تحديا كبيرا وهو أنها تعتمد بشكل كبير على حالة الطقس وبالتالي قد يرتفع الإنتاج وينزل الإنتاج وبالتالي يكون من الصعب الاعتماد عليها بينما يمثل الهيدروجين الأخضر الحل الأمثل لتحدي التقطعية في مصادر الطاقة المتجددة. فمن خلال خلايا الوقود أو التوربينات الغازية المعدلة، يمكن تحويل الهيدروجين إلى كهرباء نظيفة عند الحاجة، مما يضمن استقرار الشبكات الكهربائية دون اللجوء إلى الوقود الأحفوري. هذا التحول لا يقتصر على الجانب البيئي، بل يشكل نقلة استراتيجية في مفهوم أمن الطاقة، حيث يصبح بالإمكان تخزين الفائض الطاقي على شكل هيدروجين لاستخدامه عند الذروة أو في الأوقات التي تنخفض فيها إنتاجية المصادر المتجددة.

صناعة الصلب:

تُسهم صناعة الصلب التقليدية بنحو 7% من الانبعاثات الكربونية العالمية، لكن الهيدروجين الأخضر قادر على إحداث تحول جذري في هذا القطاع. فباستخدامه كعامل اختزال بديلا عن الفحم، يمكن خفض الانبعاثات بنسبة تصل إلى 90%، مما ينتج ما يعرف بـ«الصلب الأخضر».

في عُمان، تتصدر مشاريع مثل «Vulcan Green Steel» في الدقم (باستثمار 3 مليارات دولار) وبشراكة «Hydrogen Rise» مع «Jindal Shadeed» في صحار هذه الثورة الصناعية. هذه المشاريع لا تعزز فقط الميزة التنافسية للصلب العماني في ظل تشديد المعايير البيئية العالمية (مثل آلية CBAM الأوروبية)، بل تسهم أيضا في رفع مساهمة القطاع التحويلي في الناتج المحلي الإجمالي، تماشيا مع «رؤية عُمان 2040».

الصناعات الكيماوية:

يعد الهيدروجين عنصرا أساسيا في إنتاج الأمونيا والميثانول، وهما مادتان تدخلان في صناعة الأسمدة والبتروكيماويات. تحويل هذه الصناعات إلى الاعتماد على الهيدروجين الأخضر، والذي يقلل من بصمتها الكربونية، ويفتح الباب أمام منتجات جديدة تماما مثل «الأمونيا الخضراء» التي أصبحت سلعة استراتيجية في الأسواق العالمية

مشاريع مثل تحالف «EDF Group» و«J-POWER» و«Yamna» في المنطقة الحرة بصلالة (التي تهدف لإنتاج مليون طن من الأمونيا الخضراء سنويا)، أو مشروع «Actis» و«Fortescue» في ظفار، تعكس هذا التوجه. فهي كذلك تبني أيضا سلاسل قيمة محلية متكاملة تعزز مكانة عُمان كمركز إقليمي للصناعات الخضراء، وهذه جزء من الأدوار التي من الممكن أن يلعبها الهيدروجين الأخضر في الصناعات.

التكرير والبتروكيماويات:

حتى في قلب الصناعة النفطية التقليدية، يلعب الهيدروجين الأخضر دورا تحويليا. ففي مصافي التكرير، يمكن أن يحل محل الهيدروجين الرمادي (المنتج من الغاز الطبيعي) في عمليات التكرير مثل إزالة الكبريت، مما ينتج وقودا أنظف. وفي قطاع البتروكيماويات، يمكن أن يكون أساسا لإنتاج بلاستيك حيوي ومواد أخرى قابلة للتدوير، مما يدفع بالصناعة نحو الاقتصاد الدائري.

انبعاثات أقل باستخدام الهيدروجين

يمثل الهيدروجين الأخضر حلا مبتكرًا لتقليص الانبعاثات الكربونية في الصناعات الثقيلة، لكن تحقيق أعلى مستويات الكفاءة البيئية يتطلب استراتيجيات مدروسة تركز على الاستدامة والتأثير العالي.

يوصي الباحثون أنه ينبغي إنتاج الهيدروجين الأخضر باستخدام مصادر طاقة متجددة، مثل الطاقة الشمسية أو الريحية، لضمان بصمة كربونية شبه معدومة. أي اعتماد على الوقود الأحفوري، كما في الهيدروجين الرمادي، يُضعف الفوائد البيئية عبر سلسلة التوريد. وكذلك من الأفضل التركيز على قطاعات قادرة على خفض الانبعاثات بنسب تتجاوز 70-80%. على سبيل المثال، استبدال الهيدروجين الرمادي في إنتاج الأمونيا للأسمدة، كما يحدث في مشروع EDF Group بسلالة، أو استخدامه في إنتاج الحديد المختزل مباشرة، كما في Vulcan Green Steel بدقم، يحقق نتائج بيئية كبيرة. الاستثمار في مشاريع ذات تخفيضات محدودة (30% أو أقل) قد لا يحقق الأهداف الطموحة، وأخيرا يجب تجنب الخلط مع الوقود الأحفوري: يُفضل استخدام الهيدروجين النقي في الصناعات والطاقة، بعيدًا عن مزجه مع الوقود الأحفوري أو الكربون، للحفاظ على الفوائد البيئية وتعزيز الكفاءة.

في هذا السباق العالمي نحو مستقبل أنظف، لم يعد الحديث عن الهيدروجين الأخضر مجرد خيار بيئي، بل تحول إلى استراتيجية وجودية للدول التي تسعى للحفاظ على مكانتها في الخريطة الاقتصادية العالمية. فما بدأ كحل تقني لخفض الانبعاثات، أصبح اليوم مشروعا اقتصاديا ضخما يعيد تشكيل قطاعات الصناعة والطاقة والنقل بشكل جذري وتشير تقديرات الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (آيرينا) إلى أن الهيدروجين الأخضر قد يسهم بتوفير 20% من احتياجات الطاقة العالمية بحلول 2050. بالإضافة إلى تأثيره التحويلي على القطاعات الصناعية الأكثر تلويثا والتي من الممكن أن يكون للهيدروجين الأخضر دور بارز فيها، حيث يمكنه: خفض انبعاثات صناعة الصلب بنسبة 90% عبر استبدال الفحم في أفران الاختزال وتحويل صناعة الأسمدة إلى نمط خالٍ من الكربون باستخدام الأمونيا الخضراء وكذلك إنتاج وقود طيران وبحرية مستدام مما يسهم في تقليل انبعاث الكربون من هذا القطاع .

عبدالهادي خلفان الساعدي مؤسس شركة حلول الهيدروجين الأخضر

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: للهیدروجین الأخضر الوقود الأحفوری الطاقة المتجددة خفض الانبعاثات صناعة الصلب هذا التحول فی إنتاج فی هذا

إقرأ أيضاً:

غدًا.. انطلاق «أسبوع الرياض الدولي للصناعة 2025» بمشاركة واسعة من جهات محلية ودولية

تنطلق غدًا فعاليات “أسبوع الرياض الدولي للصناعة 2025”، الذي يُقام في مركز الرياض الدولي للمؤتمرات والمعارض، بمشاركة أكثر من 524 جهة عارضة تمثل 20 دولة، وسط حضور نوعي يتجاوز 25,000 زائر من المختصين والمعنيين بالقطاع الصناعي.

ويمتد الحدث خلال الفترة من 12 إلى 15 مايو، على مساحة تتجاوز 20,000 متر مربع، ليُشكّل أكبر تظاهرة صناعية من نوعها في منطقة الشرق الأوسط، جامعًا تحت سقفه أكثر من 48,000 منتج وتقنية صناعية حديثة، إلى جانب أجنحة وطنية تمثل سبع دول صناعية كبرى.

وتتضمن الفعاليات عددًا من الجلسات الحوارية ضمن “المنتدى الدولي لمستقبل الصناعة”، بمشاركة نخبة من الخبراء والمختصين في مجالات التصنيع، وسلاسل الإمداد، والتحول الرقمي، إلى جانب عروض حية لأحدث التقنيات الصناعية، واستعراض للمبادرات والممكنات التي تدعم البيئة الصناعية في المملكة.

كما يشهد الحدث إقامة أربعة معارض صناعية متخصصة، هي: “المعرض السعودي للبلاستيك والصناعات البتروكيماوية” و*“المعرض السعودي للطباعة والتغليف”* في دورتهما العشرين، حيث يقدّمان منصات متكاملة لعرض أحدث الابتكارات والحلول المستدامة في مجالات التصنيع والتغليف والطباعة، بالإضافة إلى “المعرض السعودي للحديد والصناعات المعدنية” و*“المعرض السعودي للماكينات والمعدات الثقيلة”* في دورتهما الثالثة، واللذين يركزان على الصناعات الهندسية المتقدمة والتجهيزات الثقيلة.

ويُعد “أسبوع الرياض الدولي للصناعة” أحد أبرز الفعاليات التي تعكس الحراك الصناعي المتسارع في المملكة، وما يشهده من توسع في الفرص الاستثمارية وتكامل في سلاسل الإمداد، انسجامًا مع مستهدفات رؤية السعودية 2030.

يُذكر أن فعاليات الأسبوع تنطلق يوم الإثنين 12 مايو، من الساعة الرابعة عصرًا وحتى التاسعة والنصف مساءً، وتستمر خلال الأيام التالية (13 إلى 15 مايو) من الساعة 1:30 ظهرًا حتى 9:30 مساءً.

للتسجيل وحجز تذاكر الدخول، يُرجى زيارة الرابط:

https://recregister.com/pp/vreg-eco

أخبار السعوديةآخر أخبار السعوديةقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • حملة تفتيش في الصجعة الصناعية بالشارقة
  • وزارة الصناعة والثروة المعدنية تُطلق فعاليات أسبوع الرياض الدولي للصناعة 2025
  • محافظ السويداء يبحث مع نائبة المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السورية للحفاظ على السلم الأهلي بالمحافظة
  • وزارة الصناعة تُطلق فعاليات «أسبوع الرياض الدولي للصناعة 2025»
  • وزير البترول يبحث تعزيز التعاون في مجالات صناعة البترول والغاز مع نظيره القطري
  • خوارزمية جديدة لتخزين الهيدروجين تحت الأرض
  • غدًا.. انطلاق "أسبوع الرياض الدولي للصناعة 2025" بمركز المؤتمرات
  • غدًا.. انطلاق «أسبوع الرياض الدولي للصناعة 2025» بمشاركة واسعة من جهات محلية ودولية
  • في خطوة لتعزيز الريادة الصناعية المصرية.. تجديد الثقة في العشري عضواً للاتحاد العربي للحديد والصلب