الفِرانكنشتاينية – وصناعة الهزّة الدائمة بالحرب

د. وجدي كامل

الحرب الدائرة في السودان، بكل ما تحمله من مفارقات وغرائب، تكاد تصلح لأن تُقرأ عند التأمل كإحدى قصص الخيال العلمي أو الرعب، بل وربما تكون مادة قابلة للتحويل إلى فيلم سينمائي معاصر. فهي، في طاقة ترميزها ورمزيتها، أقرب ما تكون إلى رواية “فرانكنشتاين” للكاتبة البريطانية ماري شيلي.

فرانكنشتاين- من الطموح إلى الكابوس:

في عام 1818، صدرت رواية “فرانكنشتاين”، أو “بروميثيوس الحديث”، التي اعتُبرت آنذاك فتحًا جديدًا في أدب الرعب القوطي والخيال العلمي. أحدثت الرواية دويًا أدبيًا واسعًا، وانتشرت بقوة، حيث قدمت للعالم شخصية “الوحش” الذي خلقه العالم الطموح فيكتور فرانكنشتاين خلال تجربة علمية جريئة حاول فيها إحياء مخلوق تم تكوينه من أجزاء جثث بشرية. لكنه، بعد نجاح التجربة، يُصاب بالرعب والصدمة من نتائج عمله إذ يتحول مخلوقه إلى كائن مخيف ومثير للشفقة في آنٍ واحد.

لم يقتصر تأثير “وحش” فرانكنشتاين” على الأدب فحسب، بل امتد ليصبح أيقونة ثقافية عالمية تُجسد فكرة الكائنات التي تكتسب قدرات استثنائية لكنها تقوم بأفعال مميتة ومدمرة. والمفارقة أن الكثيرين يعتقدون أن “فرانكنشتاين” هو اسم الوحش، بينما الحقيقة أن الرواية لم تعطِ المخلوق اسمًا محددًا، وأن “فرانكنشتاين” هو اسم العالِم الذي صنعه.

“الفِرانكنشتانية” كظاهرة سياسية معاصرة:

بعد أكثر من قرنين من صدور الرواية، نشهد في عالمنا المعاصر ظواهر واقعية تعكس بدقة فكرة فرانكنشتاين. ففي السياسة، تصنع الأنظمة أحيانًا “وحوشها” الخاصة لتنفيذ مهام محددة، لكنها تكبر وتتمرد، مما يؤدي إلى دمار شامل. هذه الظاهرة، التي يمكن تسميتها بـ”الفِرانكنشتانية”، فلا تقتصر على الميليشيات المسلحة فقط، بل تشمل كل الكيانات أو الأدوات التي تخرج عن السيطرة بعد أن كانت مجرد أدوات بيد أصحابها ويستخدمونها متى ارادوا. ومن أبرز الأمثلة:

الجماعات المسلحة المدعومة سياسيًا أو عسكريًا مثل: طالبان، القاعدة، وداعش. وقوات الدعم السريع. كما التقنيات المنفلتة عن السيطرة مثل الذكاء الاصطناعي غير المنضبط أو الأسلحة البيولوجية. وكذلك الاقتصاديات الخارجة عن السيطرة، مثل الشركات عابرة الحدود التي أصبحت أقوى من الدول نفسها.

قوات الدعم السريع: وحش يلتهم صانعيه:

يتخذ هذا المقال من قوات الدعم السريع في السودان نموذجًا للوحش الفِرانكنشتاني الذي خرج عن سيطرة صانعيه.

أنشأ الرئيس المخلوع عمر حسن البشير هذه القوات في عام 2003 تحت اسم “حرس الحدود” لمواجهة الحركات الدارفورية المسلحة. أدت هذه القوات مهام قمع وحشية في دارفور تشيب لها الولدان، ثم امتد دورها ليشمل قمع الاحتجاجات الشعبية في العاصمة، خاصة خلال انتفاضة 2013. ومع مرور الوقت، حصلت على اعتراف برلماني رسمي عام 2017 تحت اسم “قوات الدعم السريع” وأصبح قائدها، محمد حمدان دقلو (حميدتي) أحد أقوى الشخصيات في السودان حتى أن البشير نفسه كان يلقبه بـ “حمايتي”.

بعد ثورة ديسمبر 2018 شهد السودان تغيرات دراماتيكية أدت إلى انقلاب حميدتي على البشير وصعوده إلى قيادة الدولة بعد الثورة. ورغم أن الوثيقة الدستورية لم تنص على منصب نائب رئيس مجلس السيادة إلا أن حميدتي أصبح الرجل الثاني في السلطة.

لكن المفارقة الكبرى أن المجلس العسكري او بالأحرى اللجنة الامنية قد حجز فيها الدعم السريع موقعا مفتاحيا، فوجد قائد الجيش نفسه مسهلا للعب الدعم السريع ادوارا اشد تاثيرا في المرحلة الانتقالية بما وفره له من خدمات. لم يتعلم الرجل من خطأ البشير في صناعة الوحش، بل واصل تغذية قوات الدعم السريع كقوة مستقلة، ليستخدمها كأداة لموازنة نفوذه الشخصي في مواجهة محتملة مع المؤسسة العسكرية الملغومة بالإسلاميين، وهكذا، كما حدث مع داعش، حزب الله، وفاغنر، تحولت قوات الدعم السريع بدهاء قائدها الاوفر قوة في تصدير الذهب، وانشاء الشركات الاستثمارية في مجالات التصدير من أداة تكتيكية إلى دولة داخل الدولة، تملك مواردها وتحالفاتها الخارجية.

وهنا يجب قراءة الحرب في تقاطع المصالح الإقليمية والدولية للطرفين المتقاتلين معا.

فالميليشيات المسلحة كمثال قوات الدعم السريع، داعش، فاغنر، وحزب الله لم تكن مجرد أدوات محلية بل أصبحت تمتلك علاقات دولية وشبكة مصالح خاصة، مما يجعل أجل هذه الحروب ممتدًا، ولأجل غير مسمى.

إن ما هو اخطر ان السودان اليوم ليس فقط ساحة معركة داخلية، بل مسرح لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، مما يعقّد الأزمة أكثر ويؤجل نهايتها، ويجعل التكهن بالمستقبل بعد تكوين التحالف الأخير امرا في غاية الصعوبة. أغلب الاحتمالات ان النزاع والتنازع المستند الى دعم اللاعبين الاقليميين سيرجح كفة استدامة الحرب على نحو غير مسبوق.

إعادة إنتاج الفِرانكنشتانية في السودان:

المزعج في المشهد السوداني ليس فقط وجود الوحش الفرانكنشتاني” ممثلًا في قوات الدعم السريع، بل تواصل إنتاج المزيد من الميليشيات. فمن كتائب الإسلاميين الأمنية، إلى حركات الكفاح المسلح، إلى أحدث تشكيل عسكري باسم “درع السودان” كما ميليشيات عديدة بالشرق، يتضح أن الذهنية الفِرانكنشتانية أصبحت جزءًا أصيلًا من استراتيجية إدارة الحرب لما تبقى من الدولة السودانية.

وهذه ليست مجرد حالة من فقدان السيطرة، بل استراتيجية مستمرة تجعل فرص الاستقرار في المستقبل القريب شبه معدومة ايضا، حتى وان تم الانتصار على الدعم السريع. وهكذا، فكلما استمر النظام في إنتاج الميليشيات كأدوات مرحلية، ازداد احتمال تحولها إلى “وحوش” جديدة تنفلت من عقالها وتعيد إنتاج الفوضى.

مما يعني أن السودان قد يبقى عالقًا في دوامة الفِرانكنشتانية لسنوات قادمة، ما لم يحدث تحول جذري في طريقة إدارة مستقبل البلاد بنحو يقود القوتين إلى طاولة المفاوضات وجعل الحكم المدني خيارا مستحقا رغم كل العوائق والعراقيل من أنصار الحكم القديم وطموحات قائد الجيش في حكم انفرادي مطلق.

* أفق جديد

الوسومالحرب الدعم السريع السودان حزب الله داعش درع السودان عمر البشير فرانكنشتاين كتائب الإسلاميين ماري شيلي وجدي كامل

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الحرب الدعم السريع السودان حزب الله داعش درع السودان عمر البشير فرانكنشتاين كتائب الإسلاميين قوات الدعم السریع فی السودان

إقرأ أيضاً:

الأمم المتحدة: ميليشيا الدعم السريع تجند مقاتلين داخل أفريقيا الوسطى

كشفت مسؤولة في الأمم المتحدة، أن ميليشيا الدعم السريع، تقوم بتجنيد مقاتلين داخل أفريقيا الوسطى، مشيرة إلى تزايد وجود عناصرها في منطقة أبيي، وهى منطقة متنازع عليها بين السودان وجنوب السودان، وتتواجد بها قوة تابعة للأمم المتحدة تعمل على ضمان جعل المنطقة منزوعة السلاح إلى حين تقرير مصيرها.

وكانت مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة لشئون أفريقيا، مارثا بوبي، قد قدّمت ليل الجمعة، إحاطة إلى مجلس الأمن الدولي حول جهود المنظمة الدولية لدعم السودان في مساره نحو السلام والاستقرار.

وقالت مارثا بوبي فى كلمتها إن قوات الدعم السريع تقوم بعمليات تجنيد في شمال شرق أفريقيا الوسطى.

وأشارت إلى أن مجلس الأمن الدولي أدان هجومًا على قوات حفظ السلام التابعة لبعثة الأمم المتحدة في أفريقيا الوسطى «مينوسكا» نفذته عناصر مسلحة يُعتقد أنها سودانية.

وأفادت مارثا بوبي بأن تزايد وجود عناصر الدعم السريع في منطقة أبيي فاقم الوضع الهش أصلًا، وشددت على أن تبعات النزاع في السودان تتجاوز حدوده.

وأكدت مارثا بوبي عدم وجود مؤشرات تشير إلى قرب نهاية النزاع في ظل تصميم أطرافه على تحقيق أهداف عسكرية.

وحذّرت من تزايد استخدام الأسلحة المتطورة، بما في ذلك الطائرات المُسيّرة، مما أدى إلى توسيع رقعة القتال إلى مناطق كانت مستقرة، حيث أدت الهجمات الجوية إلى سقوط ضحايا مدنيين ونزوح جماعي.

وتوقعت أن تصبح مدينة الأبيض بولاية شمال دارفور نقطة اشتعال رئيسية في الأسابيع المقبلة، بعد تحوّل النزاع إلى دارفور وكردفان.

وكشفت المسئولة الأممية، أن الأمم المتحدة تسعى إلى هدنة إنسانية مؤقتة لتيسير وصول المساعدات إلى المناطق المتأثرة بالنزاع، بدءًا من الفاشر مع السماح للمدنيين بالمغادرة طوعًا وبأمان.

ووافق رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان على طلب توقف القتال في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور لمدة أسبوع لتوصيل الإغاثة.

وقالت مارثا بوبي إن الأمم المتحدة تشجع على الحفاظ على وحدة السودان وسيادته وسلامة أراضيه كـ"عناصر أساسية لحل مستدام للأزمة".

وشددت على ضرورة وجود قيادة مدنية لصياغة توافق سياسي ورؤية شاملة من أجل العودة إلى انتقال سلمي تقوده حكومة مدنية.

اقرأ أيضاًأبو الغيط: الحرب في السودان تسببت في أسوأ أزمة إنسانية على الأرض

الجيش السوداني: استشهاد 3 مدنيين وإصابة 8 آخرين جراء قصف الفاشر

السودان: مقتل وإصابة 18 عنصرا من ميليشيا الدعم السريع في الفاشر

مقالات مشابهة

  • المسيرية والدينكا يرفضون تواجد “الدعم السريع” في أحد الأسواق
  • “نيويورك تايمز”: الإمارات ضالعة في حرب السودان وبن زايد سلح “الدعم السريع”
  • تعنت وتصعيد جديد للأزمة السودانية.. الدعم السريع يرفض الهدنة الجزئية في الفاشر
  • إمعانا في خنقها.. “الدعم السريع” تفعل هذا في الفاشر
  • الدعم السريع ترد على «هدنة الفاشر» وتتمسك بشروط لوقف إطلاق النار
  • الجيش السوداني يقصف تجمعا للدعم السريع بجامعة نيالا
  • الأمم المتحدة: ميليشيا الدعم السريع تجند مقاتلين داخل أفريقيا الوسطى
  • السودان يدعو لتصنيف قوات الدعم السريع منظمة إرهابية
  • 13 قتيلا بينهم أطفال بقصف لقوات الدعم السريع في دارفور
  • ترقّب في الفاشر قبيل تنفيذ هدنة إنسانية وسط غموض موقف الدعم السريع