تدني الطلب على مزادات البنك المركزي يُثير الشكوك حول حقيقة انهيار العملة
تاريخ النشر: 14th, May 2025 GMT
تواصل نتائج مزادات البنك المركزي في عدن لبيع العملة الصعبة وانخفاض الطلب عليها، في اثارة الشكوك والتساؤلات حول حقيقة الانهيار المستمر الذي تعاني منه العملة المحلية بالمناطق المحررة.
وأعلن البنك الثلاثاء عن نتائج المزاد الـ 13 للعام الحالي 2025م لبيع 30 مليون دولار ، واظهرت النتائج بأن حجم العطاءات المقدمة من البنوك المشاركة في المزاد بلغت 6 ملايين و664 ألف دولار فقط، بنسبة تغطية 22%.
الطلب المتدني على مزاد البنك لبيع الدولار رغم اعتماد البنك لأقل سعر مُقدم في المزاد 2518 ريالاً للدولار فقط ، وهو أقل من سعر الصرف بالمناطق المحررة مساء الثلاثاء والذي وصل الى 2560ريالاً.
ومنذ أواخر نوفمبر 2021م، شرع البنك المركزي في عدن في سياسية بيع الدولار الأمريكي للبنوك التجارية عبر منصة الكترونية أمريكية كمحاولة لوقف تراجع قيمة العملة المحلية بالمناطق المحررة ، دون جدوى.
بل أن اللافت كان في نسبة الاقبال الضعيفة على المبالغ التي يعرضها البنك في مزاداته لبيع الدولار والتي تتراوح ما بين 30-50مليون دولار ، على عكس المتوقع بالنظر الى التراجع المستمر للعملة المحلية والذي يُعزى الى وجود طلب كبير على العملة الصعبة.
وهو ما تؤكده التقارير الصادرة عن البنك المركزي ، والتي كشفت بان اجمالي المزادات التي عرضها البنك منذ تدشينها في نوفمبر 2021م وحتى نهاية العام الماضي 2024م بلغت 3,165 مليون دولار أمريكي ، الا أن قيمة العطاءات كانت 2,186.7 مليون دولار شكلت ما نسبته 69% فقط من إجمالي قيمة العروض.
وتزداد هذه النسبة تراجعاً مع تتبع المزادات التي اعلن عنها البنك منذ مطلع العام الجاري 2025م وحتى يوم أمس الثلاثاء ، والتي بلغت 13 مزاداً عرض فيها البنك 430 مليون دولار ، الا أن حجم العطاءات المقدمة من البنوك بلغت 190 مليون دولار أي ما نسبته 44% فقط من إجمالي قيمة العروض.
هذا التدني الواضح في الطلب على مزادات البنك خلال هذه الفترة جاء رغم أنها شهدت التراجع الأكبر للعملة المحلية امام العملات الصعبة ، حيث ارتفع سعر صرف الدولار الأمريكي من 2069ريالاً مطلع العام الى 2560 ريالاً.
أي ان سعر الدولار الأمريكي قفز بنحو 500 ريال خلال 4 أشهر ونصف وهو ذات الرقم الذي قفزه الدولار خلال عام كامل وهو عام 2024م.
استمرار تراجع العملة المحلية امام العملات الصعبة بالتزامن مع استمرار تراجع الطلب على مزادات البنك المركزي ، عزز من صحة ما يطرحه خبراء ومختصون في الشأن الاقتصادي من عدم وجود طلب حقيقي للعملة الصعبة لعمليات الاستيراد يُبرر تراجع العملة الصعبة.
وهذا ما أشار اليه المحلل الاقتصادي وحيد الفودعي الذي علق في منشور له على صفحته في "الفيس بوك" على نتائج المزاد الأخير للبنك ونسبة العطاءات التي بلغت 22% فقط ، رغم المزايا التي توفرها هذه المزادات للتجار الذين يطلبون العملة الصعبة للاستيراد يصعب تحقيقها في السوق الموازي كما يقول.
ويوضح الفودعي هذه المزايا قائلاً : سعر صرف منخفض أو تنافسي، وتحويل خارجي مباشر وآمن من قبل البنك المركزي دون تكلفة أو عمولات، إلى جانب تفادي مخاطر التحويل غير الرسمي وغسل الأموال.
الفودعي يرى بأن نتائج المزادات "مؤشر على أن السوق لا يطلب فعليًا العملة الأجنبية بنفس القدر الذي يدّعيه أو يظهره في السوق الموازي" ، كما أنها تدل على أن الطلب التجاري الحقيقي للاستيراد محدود.
مؤكداً بان الطلب في السوق الموازي مضخّم وغير حقيقي (طلب وهمي)، وأن ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازي لا يعكس طلبًا تجاريًا فعليًا، بل ناتج عن نشاطات مضاربة؛ "فالتجار الحقيقيون يعزفون عن الشراء، بينما يرفع المضاربون الأسعار في السوق بدافع الربح فقط" ، بحسب الفودعي.
وختم الفودعي تعليقه بالتأكيد ان نتائج المزادات تُعد مؤشرًا موضوعيًا على أن السوق يعاني من تضخّم في الطلب الوهمي على العملة الصعبة، وأن الطلب التجاري الحقيقي إما محدود جدًا أو أنه في حالة ترقب لتراجع إضافي في سعر الصرف.
المصدر: نيوزيمن
كلمات دلالية: فی السوق الموازی العملة الصعبة البنک المرکزی نتائج المزاد مزادات البنک ملیون دولار
إقرأ أيضاً:
كيف تربّع الدولار الأمريكي على عرش منظومة النقد الدولي؟
جعلت اتفاقية بريتون وودز (Bretton Woods) من الدولار الأمريكي العملة النقدية المفتاح داخل منظومة النقد الدولي، وأرست بذلك أساس الهيمنة النقدية الأمريكية بُعَيْدَ الحرب العالمية الثانية. فقد نَصَّ البند الرابع من هذه الاتفاقية على أن الدولار هو العملة الوحيدة التي تقبل التحويل إلى الذهب، في حين تبقى باقي العملات قابلة للتحويل إلى الدولار، مع ضرورة الحفاظ على سعر صرفها ثابتًا في مقابل العملة الأمريكية. وبهذا، أصبح الدولار هو العملة الفعلية في منظومة النقد الدولية.
ويوضّح المؤرخ الأمريكي هارولد جيمس أن النظام النقدي الدولي الذي أقامته هذه الاتفاقية جاء نتيجة لإصرارٍ أمريكي وخلافًا للمسوّدات الأولى التي توخّت إحداث عملة دولية جديدة. إذ إن خطة الاقتصادي البريطاني المشهور جون مينارد كينز، والتي كانت منافسًا للخطة الأمريكية على طاولة المفاوضات، اقترحت خلق عملة دولية مشتركة يسهر اتحادٌ دولي للمقاصّة على إدارتها وتسوية الأداءات بين الدول.
غير أن هذه الخطة تم إقبارها سريعًا، ولم يستطع الممثل البريطاني الصمود طويلا أمام نظيره الأمريكي هاري ديكستر وايت (كبير موظفي وزارة الخزانة الأمريكية، وممثل الولايات المتحدة في مؤتمر بريتون وودز) بالنظر إلى الموقع التفاوضي المريح والقوي للولايات المتحدة في سياق الحرب العالمية الثانية. فقد كانت بريطانيا في حاجةٍ ماسّة إلى المزيد من القروض والإمدادات الأمريكية من أجل تمويل الجهد الحربي وإعادة البناء. لقد منح الاضطراب الهائل الذي عرفته العلاقات الدولية للإدارة الأمريكية فرصة نادرة للإقدام على فرض نظام نقدي عالمي يكون امتدادا لتصوّرها المستقبلي للعلاقات الدولية.
لقد أعطت الولايات المتحدة نفسها بفضل هذه الاتفاقية الجديدة «امتيازًا باهظا» (Exorbitant Privilege)، مستعيرين هنا العبارة نفسها التي استعملها وزير المالية الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان في المؤتمر النقدي الذي نُظّم بطوكيو عام 1964 في إشارةٍ إلى المكاسب غير المتكافئة التي تجنيها الولايات المتحدة من النظام القائم. فبفضل هذا الامتياز المتمثل في احتكار إصدار العملة الدولية، استطاعت الولايات المتحدة، وما يزال باستطاعتها إلى حدود الآن، أن تسمح لنفسها بعجزٍ ضخم في ميزانيتها العامة، وصفه الاقتصادي الفرنسي جاك روييف بعبارة «عجزٌ دون دموع»، لأنه لا يؤدي بالنهاية إلى أداء أي مقابل للخارج. وبالتالي، تمكّنت الولايات المتحدة على امتداد عقودٍ من الزمن من استيراد السلع والخدمات بما فيها تلك الضرورية لتواجدها العسكري في الخارج دون أن تضطر حقيقةً إلى أداء ثمنها، على الأقل إلى الآن كما يقول المؤرخ هارولد جيمس.
بإمكاننا أن نفسّر اختيار العملة النقدية الوطنية للولايات المتحدة كعملة مفتاح للمنظومة النقدية الدولية الناتجة عن اتفاقية بريتون وودز، بعدة أسباب تعكس الوضع الخاص والفريد للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فقد دُمّرت الاقتصادات الأوروبية وتضرّرت قدراتها الإنتاجية بشكل بالغ بسبب الحرب، في حين أن الولايات المتحدة كانت تُؤمِّن لوحدها أكثر من نصف الإنتاج الصناعي العالمي. وبهذا، فقد أصبحت أكبر مُصدّرٍ عالمي وبدون منازع مع نهاية الحرب. ومن جهة أخرى، فقد كان الدولار الأمريكي هو العملة النقدية الوحيدة التي كانت قابلةً للتحويل بشكل كلّي، وكانت الولايات المتحدة تملك أكثر من %60 من احتياطيات الذهب في العالم وتتوفر على أسواق مالية كبيرة الحجم.
لكن بعد مضيّ ثمانين عامًا عن توقيع هذه الاتفاقية، تغيّر الوضع الاقتصادي العالمي بشكل عميق نظرًا لصعود قوى اقتصادية جديدة على الساحة العالمية. فلقد أعادت بلدان أوروبا واليابان بناء اقتصاداتها وضاعفت إمكاناتها الإنتاجية، ثم شهد العالم التحاق بلدان أخرى بركب القوى الاقتصادية مثل الصين والهند والبرازيل، لقد أصبح الاقتصاد العالمي متعدّد الأقطاب، في الوقت الذي لم يعُد الاقتصاد الأمريكي يمثل الوزن ذاته كما كان عليه الأمر مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
إذ لم يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة نسبة 15% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي سنة 2023 وفقًا لإحصائيات البنك العالمي التي تعتمد على أسعار الصرف المعادلة للقوة الشرائية. بيد أن الدولار بقي هو العملة النقدية المهيمنة على الساحة النقدية الدولية، فهو لا يزال يتربّع على عرش المبادلات التجارية الدولية كعملة تداول، ويتصدّر العمليات المالية متجاوزًا اليورو وباقي العملات الدولي بكثير.
هيمنة مستمرة
إن الدولار الأمريكي يظلّ هو العملة النقدية الرئيسية بالنسبة لتسوية العمليات التجارية والمالية الدولية في جميع أنحاء العالم. يزوّدنا المؤرخ الاقتصادي الأمريكي باري أيكنغرين في كتابه المعنون «الامتياز الباهظ: تراجع الدولار ومستقبل منظومة النقد الدولي» ببعض الأرقام التي تشهد على هيمنة الدولار المستمرة. فعلى سبيل المثال، 80% من صادرات كوريا الجنوبية وتايلاند هي مُقَوَّمَة بالدولار، في حين أن 20% فقط من صادرات هذه الدول هي موجّهة إلى السوق الأمريكية. أما بالنسبة لحالة دولة أخرى كأستراليا، فإن 70% من صادراتها تظل مُقَوَّمَة بالدولار، في حين أن بالكاد 6% من هذه الصادرات هي التي توجّه إلى الولايات المتحدة. ومن ناحيةٍ أخرى، يُستعمل الدولار في حوالي 85% من عمليات الصرف عبر العالم، وتبقى السلع الأساسية (وعلى رأسها النفط) مُقَوَّمَةً ومُؤدًّى عنها بشكل شبه حصري بالعملة الأمريكية. الدولار هو أيضًا أهم الأصول في احتياطيات البنوك المركزية، فوفقًا لإحصائيات صندوق النقد الدولي، يمثل الدولار على مدار العقود الأخيرة ما لا يقل عن 50% من احتياطيات النقد الأجنبي في العالم.
كان من المنتظر أن يتراجع هذا الوضع الخاص وغير المتكافئ للدولار داخل المنظومة النقدية الدولية بسبب إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي وظهور قوى اقتصادية جديدة منافسة مثل اليابان والاتحاد الأوروبي ثم لاحقًا الصين. وخصوصًا أن الوزن المتراجع للاقتصاد الأمريكي صاحبه تدهورٌ في الرصيد الخارجي للولايات المتحدة واستمرارٌ في انخفاض قيمة الدولار. وعلى صعيدٍ آخر، فإن الأزمات المالية الدولية المتعاقبة وخصوصا أزمة 2008، والتي لا يعادلها بحسب قول العديد من الاقتصاديين إلا أزمة 1929، والشكوك التي زرعتها بشأن استدامة معيار الدولار، كان من المفترض أن تقود إلى تسريع وتيرة تراجع الدولار لصالح صعود عملات نقدية منافسة كاليورو واليوان الصيني على سبيل المثال، أو لصالح إحداث عملة مشتركة دولية كما اقترحت ذلك لجنة ستيغليتز من أجل إصلاح منظومة النقد والمال الدولية في تقريرها الذي أنجزته بطلبٍ من منظمة الأمم المتحدة.
بالرغم من هذا كله، لا تزال العملة النقدية الأمريكية مهيمنةً على العلاقات النقدية الدولية ومؤكّدةً بذلك على وضعها كعملة مفتاح في قلب المنظومة. فالدولار لا يزال يمثل أهم أصل في احتياطيات البنوك المركزية متجاوزًا العملات الاحتياطية الأخرى بكثير. ويبقى النفط، كأهم سلعة أساسية يتم تبادلها على مستوى عالمي، وعلى غرار سلع أساسية أخرى مُقَوَّما ومُؤَدى عنه بشكل شبه حصري بالدولار الأمريكي.
يدعو الصمود المدهش للدولار كعملة نقدية مهيمنة إلى طرح السؤال الآتي: لماذا يظل الدولار هو العملة المهيمنة في منظومة النقد الدولية بالرغم من تراجع وزن الاقتصاد الأمريكي وتدهور وضعيته المالية الخارجية والمخاطر المرتبطة بهذا الوضع، خصوصًا فيما يتعلق بإمكانية حدوث أزمات مالية مستقبلا وخطر انهيار قيمة العملة الأمريكية نتيجة لذلك؟
يبدو أن المعايير الاقتصادية التقليدية لوحدها (الوزن النسبي للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، استقرار الاقتصاد الكلي، رصيد الميزان الخارجي)، لم تعد تكفي من أجل تفسير الهيمنة المستمرة للدولار. ولذلك اقترح بعض الاقتصاديين مثل الأمريكي الحائز على جائزة نوبل بول كروغمان (Paul Krugman) محاولة تفسير هذه الهيمنة المستمرة من خلال ظاهرة الجمود التي تحكم السلوك النقدي وتؤخر عملية الانتقال بين العملات المفتاحية داخل المنظومة النقدية الدولية، أو من خلال الدور الذي يلعبه انعدام الاستقرار النقدي في إرغام الدول على مراكمة المزيد من الدولارات كاحتياطيات للصرف بغرض مواجهة الأزمات التي يتسبّب فيها خروج الرساميل الأجنبية بشكلٍ كثيف وفُجائي (كما وقع في الأزمة المالية الآسيوية عام 1997).
من دون أن ننكر أهمية هذه العوامل ولا أيضا وجاهتها، إلا أنها لا تقدم مع الأسف تفسيرًا وافيًا ومقنعًا لاستمرار هيمنة الدولار بالشكل الذي نرى. بل إن تحليلها على ضوء المخاطر المتعلقة بحيازة احتياطيات ضخمة من الدولار، والانخفاض المستمر للعائد المترتب عن توظيف هذه الاحتياطيات في الأسواق المالية الأمريكية، يدفع إلى الاعتقاد بأن هذه العوامل لا تلعب إلا دورًا ثانويًا في الترسيخ لهذه الهيمنة.
إن من المفترض أن يخلق خطر انهيار قيمة الدولار (وبالتالي انهيار قيمة المدّخرات بهذه العملة) حافزًا لدى الدول، ليس ليُديروا وجوههم للدولار بشكل كامل، ولكن على الأقل للدفع بهم إلى تنويع احتياطياتهم و/أو مراجعة سياساتهم بخصوص توظيف هذه الاحتياطيات بتفضيل الاستثمارات في الاقتصاد الحقيقي ومراكمة الأصول العينية مثلا (أسهم الشركات، والأراضي الزراعية، والمواد الأولية المعدنية والطاقية...).
وتمثّل الصين بالفعل نموذجًا بهذا الخصوص، إذ تمضي الحكومة والمصارف الكبرى والصناديق الاستثمارية في الصين في هذا الطريق منذ عدة سنوات، وخصوصا بعد الأزمة المالية العالمية الأخيرة التي كبّدت الصين خسائر كبيرة في سوق وول ستريت.
يرى خبراء الاقتصاد السياسي الدولي مثل الأمريكي روبرت جيلبين (Robert Gilpin) والبريطانية سوزان سترينج (Susan Strange) أنه، بالإضافة إلى دور العوامل الاقتصادية التي أشرنا إليها سابقا، تستند الهيمنة النقدية للدولار أيضا على أسسٍ ذات طبيعة سياسية تستدعي تحليلًا وفق مقاربة الاقتصاد السياسي الدولي. هذه المقاربة التي هي وليدة التكامل الضروري بين علمي الاقتصاد والسياسة، وهي بالتالي لا تعتبر الشأن السياسي بمثابة شيء أجنبي أو دخيل عن مجال تخصص علم الاقتصاد.
يوضّح الاقتصادي الفرنسي أندريه كرتبانيس بهذا الشأن أن «الثقة الممنوحة لعملةٍ نقدية ما، يرتبط أيضا بالقوة العسكرية والدور الجيوسياسي للدولة [...] لأن استخدام هذه العملة يمكن أن يكون بكل بساطة مفروضًا، من خلال الإقناع السمح أو الإكراه من طرف الدولة المهيمنة، وتكون بالتالي مقبولةً خوفًا من انتقامٍ محتمل». ويُشير الأكاديمي والخبير في العلاقات الدولية روبرت جيلبين أيضا في الإطار نفسه إلى أن النظام النقدي الدولي هو أولًا وقبل كل شيء نظام سياسي، ولا يمكن فصل هذا النظام عن هرمية القوة الموجودة بين الدول.
وبالتالي فإن وضع الهيمنة الذي يستفيد منه الدولار الأمريكي داخل منظومة النقد الدولية يرتبط إذا أيضا بمحددات سياسية تتعلق بمختلف أشكال القوة التي يمكن أن توظّفها الولايات المتحدة (التحفيز، الإكراه...)، التي تضمن الإبقاء على الشروط اللازمة لاستمرارية معيار الدولار، خصوصًا من خلال السهر على بقاء الدولار كعملة مرجعية وحيدة في السوق العالمية للنفط وباقي السلع الأولية، وضمان إعادة تدوير المدّخرات العالمية (وعلى رأسها البترودولارات) في الأسواق المالية الأمريكية.
لقد سهرت الولايات المتحدة منذ انهيار نظام بريتون وودز، على ضمان اختيار الدولار كعملة حصرية لإجراء الصفقات على مستوى السوق العالمية للنفط. الدولار وحده تقريبا يُمَكّن من شراء النفط في البورصات العالمية التي تنظم عمليات البيع والشراء المتعلقة بهذه المادة الطاقية الحيوية (اللهمّ بعض الاستثناءات هنا وهناك بحسب الظروف الجيوسياسية في العالم). ولكن هذا الوضع ليس نتيجةً لاختيارات عفوية من لدن الأسواق، بل يملك جذورًا سياسية. فالولايات المتحدة، بقوتها العسكرية والجيوسياسية، تسهر على إبقاء الدول المنتجة للنفط في فلكها باستمرار وجعلها بحاجة إلى حمايتها العسكرية، وفي المقابل ترضى هذه الدول بدعم العملة الأمريكية. تسمح هذه القوة للولايات المتحدة أيضا بوأد أي محاولة من طرف هذه الدول النفطية، تروم إلى تجاوز الدولار لصالح عملات أخرى كاليورو أو اليوان.
من أجل فهم مصادر الهيمنة النقدية للدولار وواقع المنظومة النقدية الدولية إذن بشكل أحسن وأعمق لابد من توظيف مقاربة الاقتصاد السياسي الدولي والوقوف على أهمية العوامل السياسية في صياغة هذه المنظومة. ويسمح أخذ العوامل السياسية بعين الاعتبار في دراسة العلاقات النقدية الدولية، كما هو عليه الحال بالنسبة لدراسة باقي حقول الاقتصاد الدولي، بجعل هذا الواقع أكثر مقروئية وقابلية للفهم. هذه المقاربة المندمجة هي فقط بإمكانها تفسير أسس الاتفاقات الاقتصادية الدولية على نحوٍ ملائم بالنظر إلى أن المجالين السياسي والاقتصادي يتداخلان مع بعضهما البعض، فالسياسة والاقتصاد هي خيوطٌ تتشابك في نسج النظام العالمي.
حافظ إدوخراز كاتب ومترجم، حاصل على ماجستير الدراسات الدولية والأوروبية من جامعة كرونوبل (فرنسا)