ما المسافة بين تصورات الأجيال المعاصرة؟
تاريخ النشر: 17th, May 2025 GMT
تتبادل الأجيال أدوارها، وتخلق تصوراتها الصائبة أو الزائفة عن جيلها وعن بقية الأجيال السابقة واللاحقة، فمثلًا يتعرض كل من ميشيل بيالو وستيفان بود، في دراستهما عن العلاقة الاجتماعية بين العمال الدائمين «العجائز» والمؤقتين الشباب في مصنع بيجو للسيارات قائلين: «كان العجائز يرون في المؤقتين مجرد «شباب» يسقطون عليهم رؤية شبابهم الخاص (اللامبالاة والتمرد)، علمًا أن هؤلاء الشباب يعيشون قبل كل شيء الخوف من ألا يمكنهم أبدًا الارتباط بسوق العمل».
الدراسة نفسها منشورة في الجزء الثاني من كتاب بؤس العالم La Misere Du Monde بإشراف عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، وترجم الكتاب للعربية تحت إشراف الناقد الفلسطيني فيصل دراج؛ يضيف الباحثان: «الشباب.. مالوا إلى بناء تصورهم لجيل القدامى في المصنع بالمقلوب، (وهذا الجيل هو بالنسبة لكثيرين منهم هو جيل أهاليهم) فهم جيل لا هم لديه، وربما هو جيل «سعيد» وذلك لمجرد أنه نجح بالماضي في الحصول بسهولة على عمل. هذا التصور.. يعزل عمليًا لحظة واحدة وهي لحظة دخولهم سوق العمل، ويتجاهل مجموع الضغوط التاريخية التي خضع لها أناس ذلك الجيل (كأبناء الفلاحين مثلًا الذين هربوا من عمل الأرض للوصول إلى خيرات ومسرات «المجتمع الاستهلاكي»).
من الواضح أن الأجيال ترسم تصوراتها بناء على خبرتها المعاشة، وتنظر للآخر من واقع همومها وهواجسها، وكل ذلك دليل اهتمام متبادل بين الأجيال وهو دليل صحة وعافية اجتماعية وحركة، وبدون ذلك يختل نمو المجتمع، مهما كانت تلك التصورات نفسها زائفة في غالب الأحيان، فهي على الأغلب طريقة تفكير إنسانية شائعة لتحديد حدود الذات والآخر، حتى في المجتمع الواحد نفسه، لكن الأهم من خلق تلك التصورات نفسها هو فتح أبواب الحوار البنّاء والتعبير الحر بين الأجيال ، وإدامة التواصل بين مختلف الأعمار، والنقاش حول تلك التصورات وعدم الاكتفاء برسمها وإشاعتها داخل أطر مغلقة تخص كل جيل بنفسه، فالمشاركة الاجتماعية وصحة المجتمعات مبنية على التواصل لا على الانقطاع.
لا شك أن لكل جيل متاعبه وهمومه التي حتمتها عليه ظروفه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبشكل عام من الأفضل للأجيال المتتابعة من المجتمعات أن تتقدم بدل الركود، وأن تطرح وتناقش وتحاور، بصوت عال وبأفكار متحررة، همومها ومخاوفها وأحلامها وآمالها، وذلك الحوار العام هو السبيل الأمثل لخلق مجتمعات متكاملة صحية.
إن الأوضاع الاقتصادية المتسارعة في اقتصاديات ما يدعوه سمير أمين اقتصاديات التبعية فرضت ثقلها على الأجيال المتتابعة، وهي بشكل عام تقلص مساحات حركتهم وحريتهم، ولكن ذلك الوضع نفسه يشمل حتى اقتصاديات المراكز العالمية اليوم، وقد اتسع الفارق بين الأغنياء والفقراء وفق بعض الدراسات إلى ٦٠ مرة عن مستوياته في سبعينيات القرن العشرين، والآثار الاقتصادية المترتبة على غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار بلا شك يسبب قلقًا للأجيال، ويجعل نظرتها قاتمة إلى المستقبل، خاصة الأجيال الناهضة منها، وفي مجتمعاتنا التي تجد نفسها مدفوعة دفعًا للاستهلاك بكافة السبل والوسائل تتآكل الوفرة المادية والمدخرات، وذلك يجعل الأجيال تحمل شعور الإحباط تجاه نفسها وتجاه غيرها، وذلك الشعور النفسي لا يساعدها على بناء المجتمعات ولا على الانتاج أو العمل، بل بالعكس يهبط بمستويات إنتاجها وإبداعها، وينشر حالة السخط والاستنكار في الناس.
إن العناية بالشباب ليست مسألة دعائية، بل هي مسألة إجرائية وفعلية معنية بتأمين واضح لمستقبلهم، ووضع آليات جذرية ونظم حيوية تصنع حلولًا لما يواجههم من مصاعب، وتأخذ بعين الاعتبار قلقهم وخشيتهم، وتعمل فعليًا على بث الطمأنينة فيهم خاصة تجاه مستقبلهم، وهو المستقبل العام للبلاد والناس الذي يشكل الشباب عماده وأساسه.
يشيع في الجيل الأقدم معنا اليوم تصور عن الجيل اللاحق يجعله جيلا كسولا، مهملا، أقل معاناة وبالتالي أقل التزامًا، وأكثر استلابًا لعصره، وبالتالي أكثر خضوعًا وانعدام شخصية، ومطواعًا لكل المؤثرات، وبالتالي أقل قدرة على تولي المسؤولية، في حين يصنع الجيل اللاحق عن الجيل الأقدم تصورًا عن أنه جيل قديم، غير مواكب للعصر ولا لأفكاره، وأن كل محاولاته للحاق بالعصر هي محاولات خرقاء، غير عملية، وأنه جيل حصل على حياته بسهولة، وساعدته الظروف اللينة والصعود الاقتصادي ليعيش ويحقق ذاته، ولم يجابه أية تحديات حاسمة.
لا شك أن النقد في حد ذاته عملية بنّاءة، لكن هناك فرق بين النقد الذي يحاول الفهم وبين تبادل الاتهامات، وعملية النقد لا تكتمل إلا بإشاعة ثقافة نقدية تستهدف الفهم الصحيح واستخلاص العبر والتصحيح والتعديل ومواصلة التجارب، لا إيقافها.
نعيش اليوم بشكل عام متورطين في ثقافة شكلانية تهتم بالأشكال والشعائر والظواهر أكثر من أرواحها وبواطنها، وذلك يؤثر بلا شك حتى على نظرتنا لأنفسنا ولغيرنا، والأمل في الأجيال الجديدة أن تعمل على رفع تلك الثقافة إلى مصاف ثقافة مبدعة وحيوية وأكثر نشاطًا وديناميكية، ثقافة لا ترتهن للشكليات، بل تسعى للتبسيط قدر الإمكان، وهي ثقافة ظلت متوارثة معنا لأجيال، لكنها أضحت اليوم متوارية في الظل، لا تعيد الأجيال استدعاءها أو التفكير فيها، ورغم خطاب الحفاظ على التراث فإن ذلك الحفاظ يبدو شكلانيًا، بما أن الدرس العميق لتلك الثقافة المتوارثة فات مع دخول الحداثة، مع أن الشواهد، العمرانية خاصة، تحتفظ بتلك الثقافة القديمة، وتلك رسالة الأجيال الأقدم، ولكن الرسالة ضاعت كما يبدو مع دخول الحداثة، وأصبحت المجتمعات مهووسة بالشكلانية حتى توشك على الإفلاس من إرهاق ميزانياتها واقتصادها العام للحاق بسراب الشكلانية، ومحاولة التظاهر بالثراء، بدل تحقيق الثراء.
يشير غياب ثقافة البساطة عن عالمنا اليوم بوضوح لانقطاع الاتصال بين الأجيال المتلاحقة، وللفراغات التي نشأت بينها، ولا شك أن دخول الحداثة هو السبب المباشر لانقطاع الطريق القديم، والذي حوّل المجتمع من مجتمع أبرز سماته الإنتاجية إلى مجتمع أبرز سماته الاستهلاكية، لكن هناك سببًا آخر ولا شك يكمن في أننا لم نستوعب رسالة الأجيال في الوقت المناسب، ولم نستثمر حتى تاريخنا المعاصر، بل نسيناه أو تناسيناه، رغم أهميته الملحة وحاجتنا إليه.
لعل أبلغ درس يمكن استنباطه من التجربة العمانية في شرق إفريقيا، وزنجبار خاصة، هو أن أزمنة الوفرة والنشاط الاقتصادي قابلة للانقطاع، بل وللخراب، بيد الحماية الغربية المزعومة نفسها، وأن الأحلاف السياسية للمركزية الغربية متبدلة وفقًا للمصالح الخاصة بها، ولن تقدم بطبيعة الحال مصالح غيرها على مصالحها الذاتية، ففي الوقت الذي كانت فيه زنجبار وتنجانيقا في أوج ازدهارها كانت البلد الأم عمان في أسوأ حالاتها الاقتصادية والسياسية، وتعيش على تحويلات العمالة العمانية في شرق إفريقيا، واليوم يحدث العكس، ولا أبلغ من ذلك إذا نظرنا للتاريخ بعين متأملة.
إن التحديات الجديدة التي يضعنا فيها العالم المعاصر هي تحديات تحتاج التكاتف والحوار المفتوح بين الأجيال ، آباءً وأمهات وأبناءً وبنات، وترك الحوار والانكفاء وتبادل الاتهامات لا تعمل إلا على توسيع الهوة بين الأجيال، وتصنع سياجًا وهميًا بينها، ما يعطل التواصل وانتقال المفاهيم المشتركة والمبادئ والأخلاقيات والعبر التاريخية، وكل ذلك يعطل نمو المجتمع، وهو المجتمع الذي تقع على عاتقه اليوم تحديات جديدة، مختلفة في أشكالها، وأنماطها وأنواعها، وتتطلب حلولًا جذرية جديدة، تضمن قوة المجتمع وديمومة حيويته، وكل تلك الحلول رهن بوعي الفرد والجمع، وكلما ازدادت ثقة الفرد والجمع في ذاته ازدادت احتماليات نجاحه في تجاوز التحديات وصنع حلول أفضل، والعكس صحيح.
نتحدث عن الأجيال، والأجيال اللاحقة ابنة الأجيال السابقة، لكن الولادة ليست بالجسد فقط، بل هي كذلك سلسلة تواصل نفسية وروحية وفكرية ومعيشية، تنقل كثيرًا من الخبرات والمفاهيم التي لا تستطيع اللغة التعبير عنها، ولا يمكن وصولها للأجيال إلا عبر الحضور الكلي والروحي للأجيال ، وعبر المعايشة والتعبير الحر التي يكفلها التواصل الحي بين الأجيال، كي تنتقل الشعلة الحية عبر الأجيال جسديًا وروحيًا، وتبقى متصلة من الماضي إلى المستقبل.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بین الأجیال
إقرأ أيضاً:
سوخوي 57 | أول دولة عربية وإفريقية تحلّق إلى عصر المقاتلات الشبحية من الجيل الخامس: خطوة تاريخية
في خطوة وُصفت بأنها نقطة تحوّل استراتيجية في المشهد العسكري الإقليمي، كشفت مجلة «مليتاري ووتش» أن روسيا باعت الجزائر 14 مقاتلة شبحية من طراز «سوخوي 57»، لتصبح أول دولة عربية وإفريقية تمتلك مقاتلات من الجيل الخامس خارج المنظومة الأمريكية. هذا التطور العسكري اللافت لا يعكس فقط قوة العلاقات الدفاعية بين موسكو والجزائر، بل يؤشر إلى توجه جزائري حاسم نحو تعزيز قدراتها الردعية وسط بيئة إقليمية مضطربة وتحولات جيوسياسية متسارعة.
تفاصيل الصفقة وتأكيدات روسية
أشارت المجلة إلى أن وثيقة تسعير مسرّبة من تكتل الصناعات العسكرية الروسية «روستيك» كشفت عن استعداد قطاع الدفاع الروسي لتسليم أول مقاتلتين «سو 57» للجزائر قبل نهاية هذا العام. ويعزّز هذا التسريب ما نشرته وسائل إعلام حكومية جزائرية في فبراير الماضي حول قرب وصول أولى الطائرات خلال يناير، وهو ما أكده لاحقاً المكتب الصحفي للهيئة الفيدرالية الروسية للتعاون العسكري التقني بالإعلان عن بدء عملية التسليم.
بيئة إقليمية شديدة التوتر
تأتي هذه الصفقة في لحظة استراتيجية حساسة. فالمنطقة تشهد تعاظم تحالفات مضادة وتنافساً عسكرياً معقداً؛ فتركيا وإسرائيل تواصلان دعم القدرات الدفاعية للمغرب، بينما تتلقى الجماعات المسلحة في ليبيا دعماً تركياً يشمل طائرات مسيّرة هجومية، ما يرفع مستوى التهديد على الحدود الجزائرية. كما أشارت تقارير غربية إلى أن مناورات عسكرية بقيادة الولايات المتحدة في غرب إفريقيا تضمنت سيناريوهات تحاكي هجمات على مواقع داخل الجزائر، الأمر الذي اعتبرته دوائر أمنية تهديداً مباشراً للأمن القومي.
في ظل تصاعد التوترات الإقليمية وتداخل التحالفات العسكرية، تتقدم الجزائر كاستثناء استراتيجي في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، بعدما أصبحت الدولة الوحيدة في المنطقة التي تبنت على نطاق واسع منظومات دفاع جوي متطورة من روسيا والصين. هذا التوجه جعل من مجالها الجوي مساحة محصنة يصعب اختراقها، ويضع أي قوة غربية أمام تحديات عملياتية كبيرة حال التفكير في تنفيذ هجوم جوي مباشر.
البعد الدولي.. والرهان الروسي على الهند
لا تقف دلالات صفقة “سو 57” عند حدود الجزائر، بل تمتد إلى حسابات أكبر ترتبط بالسوق العالمية للسلاح. ففي الوقت الذي تسعى فيه موسكو لدعم فرص تسويق المقاتلة للهند، تقدم روسيا عرضاً غير مسبوق يمنح نيودلهي حق الوصول الكامل إلى "شيفرة المصدر" للطائرة، ضمن مفاوضات لإنتاج مشترك. ويبدو هذا الانفتاح نتيجة مباشرة لنجاحات الطائرة في أوكرانيا واقتراب دخولها الخدمة في الجزائر، ما يمنح البرنامج الروسي دفعة قوية ويعزز ثقته لدى الدول الساعية لتحديث قدراتها الجوية.
الجزائر.. قوة جوية ضاربة
مع هذه الصفقة، تدخل الجزائر نادي القوى الجوية النخبوية، فهي أول دولة في العالم تقتني مقاتلة جيل خامس غير الطائرة الأمريكية F-35، وأول دولة عربية وإفريقية تمتلك هذه التكنولوجيا. وبذلك تصبح الجزائر المشغل الوحيد لمختلف طرازات المقاتلات الروسية الحديثة، من الجيل 4+ وصولاً للجيل الخامس.
كما تشير تقديرات القيادة الجوية الروسية إلى أن الجزائر ستتسلم دفعات إضافية بين عامي 2026 و2027 لاستكمال طلبها المكوّن من 14 مقاتلة، بالتزامن مع توسعة خطوط الإنتاج في مصنع «كومسومولسك أون أمور» شرق روسيا.
ومع إتمام هذه الصفقة، تكرّس الجزائر موقعها كقوة إقليمية تتقدم بثبات نحو امتلاك أدوات ردع متطورة قادرة على تغيير قواعد اللعبة العسكرية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. فامتلاك مقاتلة شبحية من الجيل الخامس يمنح الجزائر تفوقاً نوعياً، ويضعها في مرتبة متقدمة ضمن سباق التسلح العالمي.