الابتلاء سنة الأنبياء.. والتمكين وعد الله لا يخلفه
تاريخ النشر: 19th, May 2025 GMT
لم تكن أصنام "اللات" و"العزى" سوى حجارة صامتة، تجسّد جهالة مرحلة ما قبل النور، لكنّ التاريخ يعيد دورته بوجه آخر. فالعرب الذين حطّم الإسلام قيود عبوديتهم الأولى، يعودون اليوم إلى طقوس خضوع مختلفة، أكثر حداثة في الشكل، وأشد امتهانا في الجوهر. إنهم يسجدون لواشنطن، ويُقبّلون يد تل أبيب، ويقيمون ولاءهم السياسي على عتبات العواصم الغربية.
لقد استبدل كثير من الحكام الدين بالدولار، والكرامة بتحالفات مشروطة، والقرآن بنشرات الأخبار. قُوّضت الأصنام، نعم، لكن تم تشييد أخرى: عملاقة، إسمنتية، لا تُعبد علنا، بل تُهاب وتُطاع باسم "المصالح العليا".
الهيمنة تصوغ العبيد بثوب السيادة
منذ اكتشاف النفط، ساد وهمٌ بأن الثروة تعني السيادة، وأن القصور تصنع الهيبة. لكن هذه الفرضية سرعان ما انهارت أمام اختبارات التاريخ. القرآن الكريم نفسه نَبَّه إلى هذا حين قال: "مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعا" (فاطر: 10). فالعزة لا تُشترى، بل تُكتسب بالإيمان والعدل والموقف، غير أن كثيرا من الأنظمة صدّقت أن الثراء يكفي لصناعة القوة، فاستبدلت العزة بالرياء، وتحولت النعمة إلى نقمة حين اقترنت بالخضوع.
ورثة فرعون
ما قاله فرعون قديما: "أنا ربكم الأعلى" (النازعات: 24)، يُقال اليوم بصيغ دبلوماسية ناعمة؛ حكّام يبررون استبدادهم بذريعة "الاستقرار"، ويتكئون على تحالفات مع قوى الهيمنة كأنها قدر لا يُرد. لكنّ القرآن يُذَكّر بأن فرعون لم يسقط بثورة جياع، بل بضعف مظلومين آمنوا بوعد الله: "فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ.." (الشعراء: 60-61). فالمعادلات المادية ليست وحدها موازين النصر، وهذا ما تجاهله أولئك الذين ربطوا مصيرهم بالغرب بدلا من شعوبهم.
قارون في ثوب معاصر
قارون، الذي فُتن بثروته فخسف الله به وبداره الأرض، لم يكن حكاية رمزية فحسب، بل نموذجا متكررا في السياق العربي الحديث. نرى اليوم حكّاما يتفاخرون بالأبراج والأرقام والأرصدة، وكأن المال يمنحهم الشرعية ويمنع عنهم عاقبة الحساب، "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ" (القصص: 81). لكن لا القصور تحمي من الزلازل، ولا المليارات تؤخّر لحظة السقوط.
الدرس المنسي من سبأ
في قصة سبأ، اجتمعت الخيرات والسلطة، لكن البركة تلاشت حين أعرض القوم عن شكر النعمة. جاءهم سيل العرم، فمحا كل ما ظنوه دائما، "فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ" "سبأ: 16". فهل نحتاج إلى عاصفة جديدة لنتعلّم الدرس ذاته؟ الثروات لا تصنع حضارة إذا غاب عنها البصيرة، وانفصلت عن عدالة السياسة ونقاء الروح. المفكر الجزائري مالك بن نبي أشار بدقة إلى هذه الإشكالية حين قال: "الثروة التي لا تصنع الوعي، تصنع التبعية".
مصر وذاكرة الفرعون
من أرض الكنانة بدأ الخلاص، حين واجه موسى طغيان فرعون، لكن المفارقة أن مصر اليوم تمضي نحو استنساخ النموذج ذاته؛ مدن ذكية تُبنى على خرائط الفقر، ومشاريع عملاقة تُلمّع واجهات متصدعة اجتماعيا. والغائب الأكبر هو النداء الإلهي الذي قال: "وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ" (الأعراف: 137). لم تعد المسألة تنموية بقدر ما هي بنيوية، ترتبط بإرادة سياسية مغيبة عن أولويات الأمة.
من يقرأ القرآن لا تفوته حقيقة أن مصائر الطغاة ليست مجرد قصص وعظية، بل هي سننٌ ربانية تمهل ولا تهمل. القصور مهما علت، يطويها التراب، وكل استعلاء لا يستند إلى الحق، هو هبوط مؤجل. وما نشهده اليوم لا يمكن وصفه بالانحدار السياسي فحسب، بل هو ارتداد عن لحظة التنوير التي فجّرها الوحي يوم نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
الرسول ومعاناة الطغيان: العزة تبدأ من اليقين
لم تكن العزة شعارا مرفوعا في صدر الإسلام، بل كانت طريقا محفوفا بالألم، محفورا بالدموع والجراح. لقد ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم من صنوف الأذى ما لم يتحمله بشر، لا لذنب جناه، بل لأنه قال: ربّي الله. شُجّ وجهه في أُحد، أوذي في الطائف، حُوصِر في الشِّعب ثلاث سنين، مات عمه وزوجه في عام واحد، لكنه ثبت. لم تهتزّ في قلبه ذرة يقين، لأنه يعلم أن الله لا يُخلف وعده.
قال الصحابي خباب بن الأرتّ: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: لقد كان مَن قبلكم يُؤتى بأمشاط الحديد، ما يصرفه ذلك عن دينه.. ولكنكم تستعجلون" (رواه البخاري). هكذا كانت التربية النبوية: الصبر مع وضوح البوصلة.
إن حكمة الله في الابتلاء ليست تعذيبا، بل تمييزا. لا يولد النصر من رحم الوفرة، بل من عمق المحنة، وإن الأمة التي تستبدل هذا اليقين بالارتهان للخارج، لن تحصد إلا الخيبة. العزة لا تُستورد، ولا تُنتزع من بين ركام التحالفات، بل تُولد من قلب مؤمن بأن الكرامة لا تُشترى، وأن القرآن ليس وثيقة تراث، بل دستور نجاة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات السقوط الابتلاء سقوط إيمان ابتلاء تمكين قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
تجارة الصباح مع الله التي لا تبور .. أوصى بها النبي
ركعتي الضُحى هي تِجارة الصباح التي لا تبور، يكفيك من فضلها أنها صدقة عن كل مفاصل جسدك الـ 360 وهي صلاة الأوابين.
وردت العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي تدل على عِظم فضل صلاة الضحى ومكانتها، منها ما يأتي: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (أَوْصَانِي خَلِيلِي بثَلَاثٍ لا أدَعُهُنَّ حتَّى أمُوتَ: صَوْمِ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وصَلَاةِ الضُّحَى، ونَوْمٍ علَى وِتْرٍ).
عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- أنّه رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ مِنَ الضُّحَى، فَقالَ: (أَما لقَدْ عَلِمُوا أنَّ الصَّلَاةَ في غيرِ هذِه السَّاعَةِ أَفْضَلُ، إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: صَلَاةُ الأوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الفِصَالُ).
عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يُصْبِحُ علَى كُلِّ سُلَامَى مِن أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بالمَعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِن ذلكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُما مِنَ الضُّحَى) والسّلامى هي العظام والمفاصل في جسم الإنسان، وقوله في الحديث: "ويجزئ عن ذلك"؛ أي يسدّ عن ذلك ويقوم مقامه أداء ركعتي صلاة الضحى.
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من صلَّى الغداةَ في جماعةٍ ثم قعد يذكرُ اللهَ حتى تطلعَ الشمسُ ثم صلَّى ركعتيْنِ كانت لهُ كأجرِ حجَّةٍ وعمرةٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: تَامَّةٍ، تَامَّةٍ، تَامَّةٍ)،[٢١] قال المباركفوري رحمه الله: "قوله: (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ)، أي: بعد طلوع الشمس".
وصلاة الضحى صلاةٌ تشهدها الملائكة، يدلّ على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن عبسة رضي الله عنه: (صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حتَّى تَرْتَفِعَ... فإنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ).
تجارة مضمونة مع الله
أجاب الدكتور مختار مرزوق عبدالرحيم،أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين جامعة الأزهر فرع أسيوط،على سؤال: هل قراءة القرآن تكون بقصد الثواب فقط ؟
ليرد موضحا: كثير من المسلمين لا يقرأون القرآن إلاّ بقصد الثّواب والأجر، وقصر علمه عن عظيم منافع القرآن، وأنّه كلّما قرأ القرآن بنيّة نال فضلها، كما قال النّبي ﷺ:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
فالقرآن منهج حياة، والنية تجارة العلماء، وهذه هي التجارة مع الله المضمونة الرابحة، والتي يعطي الله عليها من فضله الكريم وعطائه الذي لا ينفد.
وأضاف :فمن هذا المبدأ والمنطلق أردت أن أذكركم ببعض النوايا عند القراءة، ومنها:
1- اقرأ القرآن لأجل العلم والعمل به.
2- اقرأ القرآن بقصد الهداية من الله.
3- اقرأ القرآن بقصد مناجاة الله تعالى.
4- اقرأ القرآن بقصد الاستشفاء به من الأمراض الظاهرة والباطنة.
5- اقرأ القرآن بقصد أن يخرجك الله من الظلمات إلى النور.