صولجانُ الحافزِ رهانُ التعليم
تاريخ النشر: 27th, August 2023 GMT
بعيدا عن كل تصادمات الواقع السياسي في العالم- التي لا تعدو كونها انعكاسات جليّة(مهما تخفّت وتقنّعت) لحروب اقتصادية معلنة أو غير معلنة تحركها شراكات عالمية أقسى من أن تنتصر لوعي شعوبها أو استقرار أفراده- نجد أننا على أعتاب عام دراسي مقبل بكل ما يحمل من رؤى مستقبلية استشرافية، وآمال مختلفة واعدة، بكل ما قد يذهل أو يصدم من محتويات أو مضامين أعدتها أو لم تعدها مؤسسات تعليمية كثيرة لمراحل تعليمية متباينة، بكل ما لدى الأهل من آمال وصبر وما لدى الأبناء من أحلام ورؤى نستقبل والعالم عاما دراسيا جديدا ليبقى التعليم هو الرهان الأقوى لتغيير واقع الأمم الحالي إلى واقع مأمول لأجيال حالمة بالكثير، طامحة لغد أفضل، مترقبة فرصا وظيفية لا حدود لتوقعاتها، ولا فضاء لتجلياتها.
ومن رهان التعليم الذي يعتبر وحده الصولجان الذي يملك قوة تغيير وجه الواقع مهما كان مريرا، كما يملك تحريك مراكز القوى وتأثير الشعوب، وإن كان للتعليم كل هذه القدرة وكل عظيم الأثر فما سبيلنا لتفعيله سلاحا نراهن عليه لبلوغ المؤمل من واقعنا ومستقبل أجيالنا الواعدة؟
يبدو أن التحدي الأصعب لا يكمن في النظريات التربوية والمناهج المعرفية، ولا يعتمد على التأهيل والتدريب والإنفاق، وإنما مَكْمَنُه خلق الحافز للتعليم أولا وقبل كل شيء لدى المتعلمين، فإن فُقِد ذلك الحافز لن يكون التعليم حينها إلا عملية آلية جامدة لاستقبالٍ ثم إرسالٍ لتراكم معلوماتي باهت خالي الوفاض من المعرفة أو الوعي أو حتى الشغف، وليس هذا ما نبغي على أية حال أو ما يحاول التعليم بلوغه من أهدافه ورسالته.
ما الذي يصنع أو يسلب الحافز للتعليم في هذا الواقع المعاش اليوم؟
أول مثبطات الحافز للتعليم الفكرة التقليدية التي تربط التعليم والشهادة العلمية التخصصية بالوظيفة، فإن صعبت الوظيفة أو تأخرت أو تعطلت انتفى حافز التعلّم لدى كثير من الشباب الذين تربوا على فكرة العلم لأجل الوظيفة، وإن كانت الشهادة الجامعية سببا رئيسا من أسباب الحصول على الوظيفة وإحدى أهم الكفاءات المطلوبة لتحصيل الوظيفة العملية إلا أنها لا ينبغي أن تكون سببا وحيدا للتعليم، وهذا ما ينبغي أن يُنَشَّأ عليه الأبناء لاستبقاء جذوة التعلّم وشغف التعليم لأجل التعليم ذاته الجدير بالسعي، والمستحق للتميز والإبداع مع الوظيفة المنتظرة أو بدونها، خصوصا إن قطعنا الفرص الوظيفية عن مربع المكان، وجرّدنا الكفاءة العلمية من هذا الارتباط الجغرافي لفكرة أرحب وأشمل؛ ألا وهي صلاحية الكفاءة العلمية لكل مكان وكل زمان دون أدنى شعور بالذنب، أو ضعف الوطنية، الوطنية التي ينبغي أن تكون لصيقة بالفكرة لا بالمكان، فلا يمكن تجريد العاملين بشهاداتهم العلمية وتخصصاتهم المختلفة من وطنيتهم لمجرد تحقق ذواتهم وظيفيا خارج سياق أوطانهم جغرافيا، وإنما هي أكثر تجذرا وأقوى أثرا مع اختبار البعد والسعي لصنع بصمة عمانية خاصة في مربعات جغرافية خليجية أو إقليمية أو حتى دولية، مع كل إضافات هذه التجربة من خبرات متنوعة وشبكات تواصل أوسع تتيح لساعيها فتح باب ذاتي لبلوغ الطموح، وأبواب أخر لطموح جماعي قد يُمَكِّن من استقطاب شباب آخرين بشهادات علمية مختلفة ومهارات متنوعة.
من الممكن اليوم -غير المتاح قبل عقود- إمكانية العمل عن بعد في شركات عالمية، خصوصا في المجالات المرتبطة بتقنية المعلومات والبرمجة والتصميم، وحتى الترجمة والفنون، وكل ما على الخريج الواثق فعله حينها هو تمكنه من بوابات العالم الرقمي وصولا لأفضل الفرص وأقوى العروض التي تضيف لرصيده المعرفي الكثير، كما تحقق استقراره المادي والمجتمعي، وكل هذا الممكن لن يكون ممكنا بغير التعليم والشهادة التي ستكون جواز سفرك لفضاءات أرحب وخبرات أوفر وسلاحك الدائم للقادم من تحديات الغد المجهول.
خلق حافز التعليم ثم تغذيته ورفده مسؤولية الجميع بداية من الأسرة، مرورا بالمؤسسات التعليمية (مدارس أو جامعات) وانتهاء بكل مؤسسات القطاعين الحكومي والخاص إذ لا يمكن العودة للتجهيل بعد العلم، ولا التقهقر بعد إقدام، كما لا ينبغي التشكيك إطلاقا في قدرة العلم على صنع الفارق في كل مجالات الحياة زمانيا ومكانيا، وما علينا إلا أن نرقب العودة للدراسة بسخاء محبة وفيض دعاء، مباركين سعي الطلاب - في كل المراحل- بناءً لغدهم المشرق، وإخلاص المعلمين رفدا لأجيال لا تنسى الفضل بينها، واجتهاد إدارات كاملة بعدتها وعتادها؛ دعما لا ينفد وتمكينا لا ينتهي وصولا لأهداف نرومها جميعا لوطن جدير بالأفضل منا، والأجمل من سعينا، ولا يكون ذلك ولن يكون إلا بالتعليم وقودا للتنمية ومحركا للتغيير والتطوير.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
بعد البابا فرنسيس.. من يكون الخليفة رقم 267 للقديس بطرس في الفاتيكان؟
في قلب مدينة الفاتيكان، وتحديدًا داخل جدران كنيسة سيستين، يحتشد كرادلة الكنيسة الكاثوليكية في طقس مغلق يحمل من الرمز والدلالة أكثر مما يحمله من السياسة والإدارة.
فالمجمع البابوي، الذي يُعقد لاختيار البابا الجديد، لا يتمحور فقط حول تحديد شخصية الزعيم الروحي لأكثر من مليار كاثوليكي حول العالم، بل يتعلق جوهريًا بإرث لاهوتي وروحي متجذّر في عمق التاريخ المسيحي.
"مفاتيح ملكوت السماوات"، التي سلّمها يسوع لبطرس كما ورد في إنجيل متى، تعود اليوم إلى الواجهة، لا كمجرد رمز، بل كمعيار لمهمة كونية ترتكز على الإيمان والتفويض والسلطة الأخلاقية.
حسب صحيفة نيويورك تايمز، الخميس 8 مايو 2025، في كل مرة يجتمع فيها الكرادلة، كما هو الحال في هذه الأيام بعد وفاة البابا فرنسيس، فإنهم لا يختارون فقط رئيس دولة الفاتيكان، بل أيضًا الخليفة رقم 267 للقديس بطرس، الذي يُنظر إليه بحسب التقاليد الكنسية كأول قائد للكنيسة.
وشدد الكاردينال تيموثي دولان من نيويورك على أن السؤال الحقيقي في هذه اللحظة ليس فقط عن طبيعة المنصب، بل عن هوية من سيحمل هذا الإرث: "إنه ليس رئيسًا تنفيذيًا أو رئيس مجلس إدارة"، قال، "بل هو خليفة القديس بطرس، وأسقف روما".
خيارات الكرادلة بين التقاليد والتجديدفي لحظة مفصلية من تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، ومع انتهاء بابوية وبدء أخرى، تتجه أنظار العالم نحو قلب الفاتيكان، حيث ينعقد المجمع المغلق (الكونكلاف) لاختيار البابا الجديد.
ويتجاوز هذا الحدث كونه مجرد انتقال في القيادة الروحية، بل يحمل في طياته أبعادًا دينية وسياسية وإنسانية في آن واحد، إذ يشكّل منصب البابا سلطة أخلاقية وروحية مؤثرة على الساحة العالمية، ويعكس مواقف الكنيسة تجاه قضايا العدالة والسلام وحقوق الإنسان في عالم متغيّر وسريع الإيقاع.
يبرز الكاردينال الفلبيني لويس أنطونيو تيبل كأحد أبرز الأسماء المطروحة بقوة لتولّي المنصب البابوي، مستندًا إلى سجله الإنساني ونشاطه الفاعل في ميادين العدالة الاجتماعية.
ويمثّل تيبل صوتًا صادقًا للعالم النامي، وقد عُرف بدعواته المتكررة لاحتضان المهمشين والدفاع عن الفقراء، ما جعله محل تقدير داخل أوساط الكنيسة الكاثوليكية وخارجها، خاصةً في القارة الآسيوية التي تشهد تزايدًا في عدد المؤمنين الكاثوليك.
إلى جانبه، يحظى الكاردينال بييترو بارولين، وزير خارجية الفاتيكان، بمكانة مرموقة لما له من خبرة واسعة في إدارة العلاقات الدبلوماسية للكرسي الرسولي، وقد لعب دورًا حاسمًا في عدد من الاتفاقيات والحوارات بين الفاتيكان ودول عدة.
ويُنظر إليه كشخصية توازن بين البعد اللاهوتي والبُعد السياسي، ويُمكن أن يُمثّل استمرارًا للاستراتيجية البابوية الهادئة والدبلوماسية التي طبعت السنوات الماضية.
ومن خارج الدائرة الأوروبية والآسيوية، برز اسم الكاردينال الأمريكي روبرت فرانسيس بريفوست مؤخرًا كأحد الخيارات المحتملة. يتمتع بريفوست بخلفية رعوية وتعليمية قوية، وهو شخصية بارزة في الكنيسة الأمريكية، ويُعرف بانفتاحه الفكري وقدرته على التواصل مع الأجيال الجديدة من المؤمنين.
دخوله إلى قائمة المرشحين بقوة يعكس تحولات جديدة داخل الفاتيكان تجاه تعزيز الحضور العالمي للكنيسة.
سرية تامة وقرار مصيرييتميّز انتخاب البابا بطقوس عريقة ودرجة عالية من السرية. إذ يدخل الكرادلة المؤهلون مجمعهم المغلق في كنيسة سيستين بعيدًا عن الإعلام وأي تأثير خارجي.
وتُراجع خلفيات المرشحين بعناية فائقة، وتُناقش رؤاهم بشأن مستقبل الكنيسة وتوجهاتها الفكرية والروحية. لا يُنتخب البابا إلا إذا حصل على ثلثي الأصوات، وهي نسبة تؤكّد ضرورة التوافق العميق بين الكرادلة.
قد تمتد جلسات التصويت لعدة أيام، يتخللها صلوات وتأملات، ويُشعل دخان أسود من مدخنة الكنيسة للإشارة إلى فشل التصويت، بينما يُشعل الدخان الأبيض عند انتخاب البابا الجديد، في لحظة ينتظرها ملايين الكاثوليك حول العالم بترقبٍ وخشوع.
سياق حساس وتحديات كبرىيأتي هذا الانتخاب في لحظة حرجة للفاتيكان، حيث يواجه تحديات متعددة تتعلق بدور الكنيسة في قضايا حقوق الإنسان، والهجرة، وحماية البيئة، والعدالة الاجتماعية، فضلًا عن ملفات شائكة مثل العلاقة مع الأديان الأخرى.
كما تبرز الحاجة إلى قيادة روحية تمتلك الحكمة والجرأة في معالجة قضايا الشباب وتطورات العالم الرقمي، والتفاعل مع صعود التيارات اليمينية والشعبوية التي تشهدها مناطق عدة في أوروبا وأمريكا اللاتينية. في خضم هذه المتغيرات، تزداد الحاجة إلى بابا قادر على تجسيد القيم الإنجيلية بفعالية ومرونة مع الحفاظ على عمق العقيدة.
صوت للسلام ورمز للأمللا يقتصر تأثير البابا على الكاثوليك البالغ عددهم أكثر من مليار وربع حول العالم، بل يمتد إلى دوائر أوسع باعتباره شخصية رمزية تُمثّل صوتًا عالميًا في الدفاع عن كرامة الإنسان، وتعزيز الحوار بين الثقافات، والدعوة إلى السلام والعدالة.
ومن هنا، تكتسب هوية البابا القادم أهمية بالغة: هل سيكون من العالم النامي مجددًا كما حدث مع البابا فرنسيس الأرجنتيني؟ أم يعود المنصب إلى أحد أبناء القارة الأوروبية ذات التاريخ العريق في الكرسي الرسولي؟
وبين تقاليد الكنيسة العريقة وتحديات الحاضر، يُعقد المجمع البابوي المغلق لاختيار خليفة القديس بطرس رقم 267، في مشهد يُلخّص عمق الروحانية المسيحية واتساع أثرها في العالم المعاصر، وقرار الكرادلة هذه المرة لا يُحدد فقط مَن سيحمل المفاتيح الرمزية لكنيسة المسيح، بل أيضًا من سيحمل آمال العالم في لحظة عطشى للسلام والتجديد والقيادة الروحية النزيهة.