أشرف عباس يكتب: من الميكروفون إلى المائدة.. من أسكت صوت مصر؟
تاريخ النشر: 6th, June 2025 GMT
صوت المباراة لم يكن غريبًا فقط بل كان دليلًا على أن ما هو مصري لم يعد حاضرًا، حتى في ملعبه.
كان الزميل محمود كامل عضو مجلس نقابة الصحفيين، يتابع نهائي كأس مصر، مباراة محلية خالصة، تُبث على قناة مصرية، فإذا بالصوت القادم من الشاشة لا يحمل نبرة مصرية، بل يأتي من المعلّق التونسي الكبير رؤوف خليف.
لم يكن في الأمر انتقاص من قدر المعلّق، بل تساؤلًا صادقًا وموجعًا: أين المعلّق المصري الذي كنا ننتظره، لا ليصف ما نراه، بل ليمنح المباراة روحها ولهجتها وحرارتها؟
ما كتبه محمود كامل لم يكن مجرّد حنين إلى نغمة اختفت، بل كان مرآة لواقع أوسع: تآكل القوة الناعمة المصرية.
في عام 2004، حين أعدّ محمود مشروع تخرّجه عن أزمة التعليق الرياضي، التقى بكبار المعلقين علي زيوار وميمي الشربيني، وسألهم عن غياب "الصوت النجم"، واليوم، بعد عقدين، لا يتعلق السؤال فقط بالمعلق، بل بكل ما كان يومًا يعبّر عن مصر في محيطها العربي: إعلامها، درامتها، غناؤها، طعامها، وحتى نكتتها.
في منتصف القرن العشرين، كانت القاهرة تُشعّ صوتًا وثقة: أحمد سعيد في الميكروفون، أم كلثوم على المسرح، يوسف شاهين في الكادر، صوت عبدالحليم في الشارع، وعامل الميكروفيلم في مجلات بيروت يكتب: "صُنع في مصر"، أما اليوم، فالصوت يتراجع، والتأثير يتناقص، والذائقة العامة تُعاد صناعتها من خارج الحدود.
لم يعد الإعلام المصري يصيغ الرأي العام العربي، بل بات مذيعه ضيفًا في منصات الآخرين، نشرة الأخبار التي كانت تُؤخذ عنها العناوين، لم تعد تُذكر، والبرامج التي كانت تُنتَظر، لم تعد تُبث، والأصوات التي كانت تُبجل، تُنسى في الزحام.
الدراما، التي كانت القوة الناعمة الأعنف، تراجعت في سنوات قليلة أمام إنتاجات خليجية ولبنانية وتركية؛ فوفقًا لتقارير مشاهدة عربية في مواسم رمضان بين 2020 و2023، لم تحجز أي دراما مصرية مقعدًا دائمًا في المراكز الثلاثة الأولى، بينما قفزت أعمال من الخليج وبلاد الشام إلى صدارة الاهتمام، ليس فقط في التوزيع، بل في التأثير الرمزي.
الغناء لم يكن أوفر حظًا؛ فبعد جيل عبد الحليم ووردة ومنير ودياب، لم تخرج من مصر موجة غنائية حديثة قادرة على عبور الحدود، الموهبة موجودة، لكن البيئة غائبة، والإنتاج ضحل، والرسائل سطحية، والجمهور مُحاصر بين النوستالجيا والضجيج.
ثم يأتي المطبخ، في بلد يُعرّف طعمه برائحة الكشري والطعمية والطواجن، لم تستطع مصر أن تؤسس سلسلة غذائية محترفة واحدة، تنقل هويتها إلى العالم أو حتى إلى محيطها، في المقابل، المطبخ السوري رسّخ حضوره بقوة: في مدينة 6 أكتوبر وحدها، التي تضم ما يقرب من 200 ألف لاجئ سوري، تنتشر المطاعم السورية بكثافة لدرجة أن بعض الأحياء باتت تُعرف بـ "دمشق الصغيرة".
لا توجد إحصاءات رسمية دقيقة، لكن التقديرات الصحفية تشير إلى وجود مئات، وربما آلاف، من المطاعم والمخابز والمشروعات الغذائية السورية، ما جعلها مكوّنًا رئيسيًا في المشهد الغذائي المصري، خاصةً في المدن الكُبرى، وتحوّلت الشاورما من وجبة سريعة إلى علامة ثقافية كاملة، تُقدَّم في مطاعم تحمل أسماء جذّابة، وديكورات مدروسة، وتجارب طعام موحّدة، تسوّق نفسها بلغة بصرية حديثة لا تخطئها العين، مقابل ذلك، بقي المطبخ المصري – بكل ثرائه وتاريخه – بلا تطوير حقيقي، بلا علامة تجارية موحدة، بلا تجربة تخرج من الحي الشعبي لتنافس في السوق الواسع.
المخابز والمطاعم السودانية تنتشر بهدوء في الجيزة والمناطق الشعبية، تقدّم العصيدة والملاح والمندي برصانة وشخصية، والمطاعم الخليجية تقدّم الكبسة والمرقوق واللحم المدفون بوصفها تجارب رفاهية للطبقة الوسطى والعُليا، في حين بقيت وجباتنا نحن حبيسة البيوت أو عربات الشارع، بلا تسويق، بلا تطوير، بلا طموح.
والأخطر أن المطاعم المصرية التقليدية – وعلى رأسها "الحاتي" الشعبي – بدأت تتراجع وتختفي من المشهد الحضري، لتحل مكانها مطاعم مستنسخة الشكل والطابع، بلا نكهة ولا روح؛ حيث كان الحاتي يمثّل ركنًا من أركان الحارة المصرية، بطابعه الخشن والحنون، برائحة الفحم والتوابل، بصوت الشيف والزبون، بطقوسه الجماعية وذاكرته الشعبية، واليوم، صارت تلك المساحة تُستبدل بسلاسل تجارية باردة، تُقدَّم فيها اللحوم في عبوات مغلقة وتُؤكل في صمت، بلا ود، بلا أصالة، بلا حكاية.
في المقابل، دول مثل كوريا الجنوبية بنَت كامل حضورها الدولي على دراما K-Drama، وموسيقى K-pop، وأكلات الشوارع مثل الكيمتشي والنودلز، وتركيا، رغم صراعاتها الداخلية، تصدّر درامتها إلى أكثر من 100 دولة، وتدعم مؤسساتها الإنتاجية بوصفها أذرعًا دبلوماسية.
ما حدث في مصر لا يمكن اختزاله في فشل إعلامي أو درامي أو تجاري فقط، بل هو انسحاب ثقافي من المجال العربي؛ فالصوت المصري الذي كان يُشكّل الذوق، تراجع ليُصبح مستهلكًا لما كان يصنعه، لا نقص في المواهب، بل في الإرادة السياسية، والرؤية الثقافية، وحرية التعبير، والشجاعة المؤسسية على الاستثمار في الصناعة الإبداعية، بوصفها أمنًا قوميًّا لا ديكورًا ناعمًا.
في ملعب الكرة، كما في شاشة التلفاز، كما في المطبخ والشارع، هناك شيءٌ واحد غائب: الصوت المصري الذي يروي القصة بصوته هو، القصة التي كنا نكتبها، ثم أصبحنا نُروى فيها فقط.
فهل نملك الشجاعة لنسأل: من أسكت صوت مصر؟ وهل لا يزال هناك مُتسع من الزمن لاستعادته؟ أم أننا بالفعل بدأنا نعيش زمنًا نكون فيه مجرد جمهور على قصة لم نعد أبطالها؟
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: محمود كامل الشربيني القاهره مجلس نقابة الصحفيين القوة الناعمة نقابة الصحفيين نهائي كاس مصر ميكروفون بلاد الشام يوسف شاهين قناة مصرية ميمي الشربيني رؤوف خليف عضو مجلس نهائي كاس التعليق الرياضي محيطها العربي صوت مصر المعلقين عضو مجلس نقابة الصحفيين العام العربي التی کانت لم یکن
إقرأ أيضاً:
أول طائرة ركاب نفاثة في العالم تستعيد مجدها.. فهل كانت آمنة؟
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- اليوم، أصبح من السهل بالنسبة إلينا أن نسافر بالطائرات النفاثة كأمر مسلّم به، إذ اعتدنا على ذلك الاندفاع السريع على المدرج الذي يُثبتنا في مقاعدنا، وتلك اللحظات التي نشقّ فيها الغيوم الكثيفة المهيبة نحو سماء زرقاء صافية. واعتدنا كذلك على الوصول إلى وجهتنا بسلام.
لكن السفر التجاري بالطائرات النفاثة لا يتجاوز عمره 73 عاماً فقط.
وكانت الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا الراحلة، قد اعتلت العرش بالفعل عندما أقلعت طائرة "دي هافيلاند DH106 1A كومت G-ALYP" من مطار لندن، المعروف اليوم بهيثرو، حوالي الساعة الثالثة مساءً، في الثاني من مايو/ آيار العام 1952، حاملةً أول ركاب يدفعون مقابل السفر على متن طائرة نفاثة بالعالم.
وعلى مدى 23 ساعة، مع خمس محطات توقّف على طول المسار، قطعت الطائرة مسافة حوالي ١١٬٢٦٥ كيلومترًا جنوباً إلى جوهانسبرغ.
ومثّلت تلك الرحلة نقلة نوعية لجهة الراحة والسرعة، حتى بالمقارنة مع طائرات المراوح المتطورة في ذلك العصر، مثل لوكهيد كونستليشن. واختفت الاهتزازات المستمرة، والضجيج الصوتي الصادر عن محركات المكبس. ودخل العالم فجأةً، وبشكل لا رجعة فيه، عصر الطائرات النفاثة.
بداية عصر الطائرات النفاثةوكانت أول شركة مصنعة للطائرات النفاثة تحجز مقعدا لها في السماء، متقدمة على منافسيها من الولايات المتحدة مثل "بوينغ".. وهي شركة الطيران البريطانية "دي هافيلاند". لكن ذلك التفوق لم يدم طويلاً، إذ لم تحظَ الطائرة الأصلية "كومت DH106" سوى بفترة وجيزة من المجد قبل أن تؤدي سلسلة من الكوارث إلى سحب أسطولها بالكامل من الخدمة، ثم إخضاع طائراته لاختبارات حتى التدمير أو تركها كي تتآكل.
بعد أجيال لاحقة، كانت الطريقة الوحيدة لتجربة ما كان عليه الأمر على متن تلك الطائرات الأولى من طراز "كومت" تتمثّل بمشاهدة لقطات الأفلام بالأبيض والأسود، أو صور الدعاية الملوّنة التي تُظهر عائلات مبتسمة جالسة على متن طائرات "DH106 1A".
أو على الأقل، حتى وقتٍ قريب، كانت تلك الصور كل ما لدينا. أما الآن، فقد قام فريق من المتحمسين بإعادة تجميع إحدى تلك الطائرات النفاثة الرائدة بعناية فائقة، وكانت النتيجة مثيرة للغاية.
"منظر جميل"ويقع متحف "دي هافيلاند" للطائرات ضمن أكثر المستودعات غموضًا في العالم لكل ما يتعلق بقطع الطيران الأثرية، إذ يقع في حزام من الأراضي الزراعية والمساحات الخضراء شمال غرب لندن، بالقرب من الطريق السريع "M25" المزدحم دومًا الذي يحيط بالعاصمة البريطانية، ومن السهل تفويته.
هناك لافتات إرشادية، لكنها تشير إلى ممر ضيق بين الأسوار النباتية يبدو وكأنه يؤدي إلى فناء مزرعة أو طريق مسدود.
وفي الواقع، عند القيادة عبره، يكون أول منظر بارز قصر قديم وضخم، قاعة Salisbury، الذي بُني في القرن السادس عشر وكان يومًا ما منزلًا لوالدة ونستون تشرشل الذي عادةً ما يشرف على نوع من المزارع.
وبعد أخذ منعطف، يكشف المتحف عن ذاته، أي حقل مليء بهياكل طائرات قديمة وسلسلة من الحظائر التي توحي بوجود المزيد من الكنوز بداخلها.
ويعد الموقع بحد ذاته جزءًا من تاريخ الطيران. فخلال الحرب العالمية الثانية، بدأت شركة محلية لتصنيع الطائرات، أسسها رائد الطيران البريطاني جيفري دي هافيلاند، العمل على تصنيع واختبار طائرة DH98 موسكيتو، وهي طائرة قتالية فريدة ذات إطار خشبي تشتهر بسرعتها.
وبعد الحرب، في أواخر خمسينيات القرن الماضي، استغلّ أحد رواد الأعمال المحليين إرث الموقع لافتتاح أول متحف طيران في بريطانيا.
وهناك طائرة "موسكيتو" صفراء زاهية، وهي النموذج الأولي الوحيد السليم من الحرب العالمية الثانية، وفقًا لموظفي المتحف، وهي من مقتنيات المعروضات المميزة في متحف دي هافيلاند الحديث، وقد رُممت الطائرة بشكل رائع، حيث تتدلى أبواب مخزن القنابل مفتوحة على مصراعيها بينما تمتد مراوحها الكبيرة المثبتة على محركات رولز-رويس ميرلين إلى الأمام.
وتُعرض أيضًا أساطير جوية أخرى من إنتاج "دي هافيلاند"، سواء كانت مدنية أو عسكرية. ففي زاوية حظيرة طائرات "موسكيتو"، يوجد هيكل طائرة شراعية من طراز "هورسا"، وهي طائرة نقل غير مزودة بمحركات من الحرب العالمية الثانية، كانت تُسحب في الهواء وتُستخدم لنقل الجنود والأسلحة خلف خطوط العدو.
وفي الحظيرة المجاورة، حيث يمكن العثور على متطوعين شغوفين، يفوق عددهم في بعض أيام منتصف الأسبوع عدد الزوار، منهمكين في مشاريع الترميم، نقع على طائرة DH100 Vampire، وهي مقاتلة ذات مقعد واحد تعتبر أول طائرة نفاثة لشركة "دي هافيلاند". هذه الطائرة ذات الشكل الغريب، بذيلها المزدوج، تم تصميمها أيضًا في قاعة "Salisbury".
لكن العنصر الأبرز بلا منازع في أكبر قاعة عرض بالمتحف، يتمثّل بطائرة "دي هافيلاند DH106 1A كومت". وبالنسبة لعشاق طائرات الركاب النفاثة وتطوّرها إلى معجزات هندسية معقدة تجوب الأجواء الودودة اليوم، يعد هذا المكان جديرا بالزيارة.
ورغم أن أجنحتها مفقودة، إلا أن هيكل "كومت" المزدان بطلاء شركة "إير فرانس" التاريخي، وسقفها الأبيض اللامع، وشعار فرس البحر المجنح، وعلم فرنسا ثلاثي الألوان، يجعلها تخطف الأنظار.
لم تكن هذه هي الحال دومًا بالنسبة لهذه الطائرة بالذات.
ويوضح إيدي والش، متطوّع في المتحف يرأس مشروع ترميم وحفظ "DH106"، أنه عندما استلمها المتحف في العام 1985، كانت عبارة عن أنبوب معدني عارٍ تقريبًا، أي بقايا هيكل الطائرة.
ويضيف: "كانت تبدو محزنة، لقد تم استبدال كل جزء منها تقريبًا، لذا كانت الطبقة الخارجية الأصلية في الواقع بحالة سيئة جدًا".
وبعناء شديد، بدأ المتطوعون ببطء في ترميمها لتعود إلى مجدها الجوي السابق، واليوم تقف الطائرة تقريبًا كما كانت قبل نحو ثلاثة أرباع القرن، باستثناء تلك الأجنحة.
وكانت أجنحة "كومت" تتمتع بتصميم يستحق الإعجاب. فبخلاف معظم الطائرات التجارية اللاحقة، كانت محركات الطائرة، وهي أربعة محركات نفاثة مدمجة بشكل أنيق داخل الجناح ذاته بدلاً من أن تكون في حاضنات ملتصقة تحته.
وقبل أن تصبح مرادفًا للخطر، كانت الكومت بمثابة عرض لإمكانيات السفر الفخمة. وفي الجزء الخلفي من الطائرة، يصعد سلم إلى مؤخرة الطائرة. ويعد عبور الباب بمثابة رحلة تعيدك مباشرة إلى تاريخ الطيران التجاري. وقد تم إعادة إنشاء التصميم الداخلي للطائرة بعناية فائقة من قبل فريق والش، بأدق تفاصيله.
في المقصورة الرئيسية، تم إعادة إنشاء نصف الطائرة وفق تصميمها الأصلي، مع صفوف مريحة من المقاعد المزدوجة المغطاة بقماش أزرق مزخرف يتماشى مع نقش الستائر الحمراء. كل مقعد مزود بمساحة واسعة للأرجل، وحاملات أكواب، ولأنها بُنيت في الخمسينات، فهي مزودة بمنافض سجائر للمدخنين الذين كانوا سيجعلون الرحلات الجوية "كابوسًا مُريعًا"، بحسب والش.
وتطل المقاعد على نوافذ كبيرة مستطيلة الشكل، وهي السمة المميزة لأول طائرات "كومت" على الإطلاق، التي أُلقِي اللوم عليها خطأً أحيانًا في فشل هيكلي للطائرة، قبل أن تستبدل بفتحات أكثر استدارة في الطرازات اللاحقة.
قد تكون الكومت قد اختفت من السماء، لكن الإرث الذي تركته خلفها لا يزال يمكن رؤيته في الطائرات التي نطير بها اليوم. وقد ساهمت الابتكارات التي أُدخلت على الطراز "1A"، والأخطاء القاتلة التي رافقته، في تشكيل الطائرات التي جاءت بعدها وجعلتها أكثر أمانًا.
المملكة المتحدةالطيرانحاملة طائراتلندنمتاحفمعارضنشر الأربعاء، 30 يوليو / تموز 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.